نصوص أدبية

أمــــام الستـــــائـــر المســــدلــــة / فرج ياسين

اختفى أحدهما بينما جعلت تسارق نصفها الآخر نظراً فاتراً .

قال الرجل : لقد كفت لتوها عن الرقص .

أطلقت أصابعها، ونفضت حاشية غطاء المائدة، ثم مدت عنقها شاخصة إلى أمام . كانت تقتعد مكاناً مقابلاً لنافذة تنسدل ستائرها الغامقة الخضرة، في تثنّيات عمودية متدرجة . وجلس الرجل قبالتها مستقبلاً الأضواء والضجيج . بينهما خوان مربع خال إلا من قدحين مملوءين، وزهرية من الكريستال، ظلت فارغة حتى أقبل النادل، فغرس فيها قبضة من الزهور الاصطناعية . ولما شاهد الرجل امتعاض زوجته طلب إليها – لأول مرة – الانتقال من المكان الذي اتخذته أمام الستائر المسدلة . وفكر بأن الفرصة قد لا تتاح له للطلب إليها مرة ثانية خلال السهرة، لذلك فقد استغل وجود النادل ليشير إلى المقعد الذي إلى يساره قائلاً: إن ذلك سيمكنها من مشاهدة قرابة ثلث المكان بأضوائه وموائده وفوضاه . فضلاً عن أنه سيجعلها تراقب جزءاً كبيراً من حلبة الرقص .

لكن المرأة قالت: لا .

بعد ذلك بزمن، شرع الرجل ينظر باتجاه واحد إلى أمام . الزبائن المرحون يدخلون من الباب اللولبي، ويتفرقون على الموائد . يصخبون ويجادلون الندل، أو يتحاورون من بين سحب الدخان، ثم ينهضون للرقص، تميد الأجساد اللدنة، وتشتجر السيقان الطوال ثم تنفرج، يقفزون أو يثنون ركبهم، ثم يعاودون النهوض، وكان ينظر إلى كل ذلك فقط . ينظر ويدخن ! وفي مرة أو مرتين أحس بأن المرأة كانت تمد عنقها متسقطة الأصوات التي تتناهى إلى مسامعها من الصالة .

قال الرجل : كنا سنأتي إلى مثل هذا المكان ذات يوم .

رفعت عينيها في الفضاء الداخن الذي بينهما، وزمّت فمها، كأنها تتستر على حروف محرمة، كانت ستمضغها متأنية قبل أن تجازف بنطقها في وجهه .

- نعم ذات يوم !

فرقَّ الرجل لطريقة أجابتها . قال :

- لقد فكرتُ كثيراً بذلك وأنا هناك .

شرعت المرأة تمد يدها إلى الكأس، فطوقته بأصابعها ثم استرسلت قائلة :

- وهل أتاحت لك رائحة البارود ذلك؟

- أجاب الرجل: أجل ماذا كنا سنفعل في أوقات الفراغ .

أجابتها الناعمة الهمتة الإصغاء إلى الموسيقى الراقصة بروح مختلف قليلاً، واستمر ورود الزبائن، فيما ظل النادل وحده يظهر أمام عيني المرأة بين الفينة والفينة .

قالت: مرة عرض علي الذهاب إلى مطعم السمكة ولكنني رفضت . هل تذكر ؟ أما كنا سنذهب إلى ذلك المكان بعينه، أنا وأنت . أستنشق رائحة العصير، ثم أطبق بشفتيه حول الحافة الزجاجية، وأعاد الكأس إلى مكانها فوق المائدة .

- السمكة . يا للمصادفة ! كيف لي أن أنسى . متى كان ذلك ؟ قبل زواجكما أم بعده .

- لا . كان ذلك بعد زواجنا بأيام قليلة . وأيضاً بأيام قبل أن يذهب إلى هناك !

الأصوات الصاخبة انفرطت في مسامعه، حامت مدوية ثم كفكفت صخبها، واندحرت متلاشية حول قوائم الموائد المتقدمة . وما عاد يرى غير وجهها تحت المصابيح الحمرباهتة الإضاءة .

وجه صغير، بشفتين غليظتين، وحاجبين غير مزججين ومظلة صغيرة من الشعر تستغرق الجبهة كلها .

ولبرهة لم تعد سيقان الراقصين توقع نقلاتها الجديدة، عائمة في رقاق متوالية من دخان اللفائف المستمر .

-         قلت لنفسي، ربما بعد تجاربنا المختلفة، سنقوى على أن نفعل الأشياء التي كنا نحلم بها .

قطعت المرأة نظرتها المختلسة الجديدة، إلى العمود ثم قومت عنقها وشخصت إليه:

-         أتعني ما تقوله حقاً ؟

-         ولم لا . أو ما تقصدين ذلك المطعم ؟

-         بلى لأنني لم أره مطلقاً، لا معك ولا معه . لقد قدر لي أن أحلم به فقط !

وخشي أن يقول لها أنه ذهب للبحث عنه فلم يجده في مكانه . ثم جد في البحث عن اسمه في الواجهات والألواح البرونزية، وخلف بريق لافتات النيون في العمارات الشاهقة . غير أنه لم يعثر على الاسم . ما عادت الأشياء تسكن أسماءها !

ومع ذلك قال لها باسما : لسوف نذهب إليه ذات يوم .

ورأى الراقصين كرة أخرى . ثلة من الشباب والشابات الصغيرات المتبرجات . راقب أجسادهم وحركاتهم، وصرخات المرح الناعمة . انسل في دمه عطرهم الفاغم وأنفاسهم العبقة . كان سيفعل الشيء نفسه، قبل حفنة من السنين وكانت ستكون إلى جانبه فتية مرحة وفاتنة . لكنه انتبه لأول مرة إلى ساقه الممدّدة إلى جانبه، فمس فخذه وربت على ركبته اليابسة، ثم اهتز شيء ما في نفسه . خيل إليه أنه سينجح في القفز إلى الحلبة . ويبدآن الرقص . وإن الراقصين من الفتيان والفتيات سوف ينحون سيقانهم، ويندحرون ذاهلين وراء الحلبة .

ثم استل سيكَارة، أرثها، ومج الدخان في الهواء قاطعاً الطريق على آخر لقطة من اللوح الراقص كانت ستنفذ إلى عينيه .

ومع أن الساعة كانت في معصمه إلا أنه أراد سؤالها عن الوقت فقال لنفسه : لابد أن الساعة الآن هي الحادية عشرة والنصف . وفكر بالطلب إليها مجدداً الانتقال إلى المقعد المواجه لجزء من الصالة . إذ سيتاح لها مشاهدة الحلبة والراقصين ولكنه قطع بأنها سترفض طلبه . وهمَّ بأن يسألها عن سبب عدم إنجابها طفلاً من زوجها الفقيد فأيقن أنها ستجيبه قائلة أنه استشهد بعد دخوله بها بشهرين فقط . وحام في خاطره لفت نظرها إلى أنهما – هما الاثنان – لم يتذوقا قطرة واحدة من الكأسين الممتلئين اللتين أمامهما، فصدّه أن ما في حلقة من المرارة لا تفنيه رشفة عابرة . فكيف بها !؟ وود لو يعرب لها عن رغبته في النزول إلى الحلبة، يأخذ بيدها ثم يقوم بمخاصرتها أمام الناس. ولكنه قال لنفسه : عجباً ومن أين ستأتي بساقك الأخرى، التي تناثرت عظامها هناك على أرض المعركة !

 

قصة قصيرة

من مجموعة (واجهات براقة)

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم