نصوص أدبية

الانتهازي / قصي الشيخ عسكر

في التنومة عند مدخل المعبر  - الطبكة - وكان جنب المدخل قمارة – كشك - لبيع المرطبات فكان جبار يقف جنب القمارة ويهرع نحو أي قادم يسلم عليه ويقول أهلا بابن عمي نحن عشيرتنا عشيرة كرم وكان كل من يمر بذلك المكان يشتري زجاجة بيبسي أو اي مشروب لجبار فيظل يكرع المشروبات طوال يومه  والناس فرحون بذلك بين ساخر ومستهزيء ومشجع وصامت.

القصة كتبتها وأنا في السنة الجامعية الثانية ونشرتها بعد مغادرتي  العراق في مجلة الموقف الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1989، وقد تلاعبت بالواقع وشخصية جبار الشرطي كل منهما لمصلحة الآخر"

 

القصة

 من منا لايعرف جبارا الشرطيّ الذي فاقت شهرته الحد، لا لأنه يحرس مركز البلدة، فهناك الكثيرون يتناوبون على الحراسة، لكنهم مغمورون لانعرف أسماءهم، كذلك ليس سبب الشهرة يرجع إلى صلعته عندما يخلع الطربوش الحكوميّ فيبين بياضها  الناصع  ناشرا عن لون وجهه الذي صبغته الشمس بالسمار بل كان جبار الشرطيّ شخصيّة ظريفة وصاحب حركة رشيقة،يدعي النسبة لكل العشائر بدون تحفظ.

  كل منا يعرف أصله ويفخر به أمام الناس، أما جبار فكان ينتسب لكل العشائر .حين يبصر فردا من عشيرة " س " يهرول نحوه ويصافحه بحرارة،ويهتف : أهلا بك يا ابن عمي . أنت من عشيرتي عشيرة " س " فيمد العابر يده إلى جيبه وينقد جبارا قطعة معدنية ثم يأمر صاحب الحانوت المجاور للمركز أن يقدم له زجاجة شراب، وإن أبصر شخصا من عشيرة " ك " هرول نحوه بالطريقة نفسها واستقبله بالأحضان، وصاح كعادته : أهلا بك يابن عمي أنت من عشيرتي عشيرة " ك " .

  وإذا اتفق ومشى شخص من قبيلة " س " مع آخر من قبيلة " ص " فإن جبارا في البدء يهرول نحو الذي تعود أن يعطيه أكثر فيخفي قطعة النقود في جيبه ويكرع زجاجة الشراب بنفس واحد لكي لايفوته  الشخص الآخر الذي أهمله أول مرة، فيرحب به مثلما رحب بالأول.

  ويقع بإحراج، فيخلع طربوشه، ويحك هامته، ويضيق أجفانه،فيقول:

  ماالفرق بين  " س " و " ك "، هما في الحقيقة قبيلة واحدة انحدرت من " ع " و "ع " له ثلاثة أولاد " م "و " ل " و " ك "، " س " من " م " و " ص " من " ك " ...

  فيضج الواقفون بالضحك، ويجعلون من حديثه التاريخي مثلا يتندرون به في المقاهي والمجالس.

  ويقضي جبار يومه يكرع الزجاجات على حساب الناس، ويملأ جيبه بالنقود، وبهذه الطريقة حقق شهرة فاق بها كلّ أفراد الحكومة في المنطقة.

  صبيحة أحد الأيام لم نجد جبارا في مكانه المعتاد. استغربنا كثيرا . اعتقدنا أنه مريض، وشغلتنا غيبته إلى أبعد حدّ، فجميعهم يحبه لظرفه ونكتته، لكن الأخبار وردت نقيض ماكنا نتوقعه، لم يكن مريضا أو مشغولا، علمنا أن حالة  الطواريء أعلنت،وأن جبارا ضمن المجموعة التي انتشرت على التلال المحيطة بالبلد.

  في الليل سمعنا صوت رصاص من جهة التلال . إن قتالا يجري بين الشرطة والخارجين عن القانون كما تسميهم الحكومة . رحنا نفكر بجبار  فهو يلبس بدلة الحكومة طول حياته، ويشد المسدس جنبه، لكنه لم يطلق أية رصاصة.

  كنا نتهمه دائما بالجبن والخوف . هذه أول معركة يخوضها،لو كنا قريبين منه لضحكنا طويلا من صورة كوناها عنه في المعركة :

  رجل يحني قامته خلف إحدى الصخور، يرفع يديه للسماء بالدعاء، ولايجرؤ على أن يطل من الموضع أبدا ... وإذا مشى فسيخلف وراءه خيطا يدل عليه من الروائح الكريهة والقاذورات بسبب  اسهال أحدثه له الخوف والرعب .

  أما نظرة الحكومة فتختلف عما كنا نراه في جبار . السلطة لاتنظر إليه بصفته انسانا انتهازيا جبانا على الاطلاق، وانتسابه إلى القبائل لاتفسره بقصد الحصول على الدراهم . إن مايفعله – حسب – رأي الحكومة يخفي من ورائه أمرا يعني دعوة العشائر إلى الاتحاد، وتلك مشكلة كنا نعاني منها في البلد،فليست من مصلحة العموم طرحها لأن الدعوة إلى الاتحاد تؤدي إلى اختلاف الرأي في الزعامة، وأي شيخ يرفض أن يتزعم عشيرته شخص آخر، فيدب النزاع ويؤدي اختلاف الآراء حول المسألة إلى اشتباكات مسلحة بين الأطراف المتنازعة، وأكثر ما تخشاه السلطة أن يتدهور الوضع الداخليّ إلى نزاع مسلح  لاحرصا على أرواح المواطنين لكن خوفا على مركزها من أن يتزعزع نتيجة الاضطرابات...فيبقى جبار وقت الفتنة والهدوء معا ينادي على أي مار أنا من عشيرتك وأنت ابن عمي .

  لم تمض ساعات قليلة حتى أطل الفجر، وورد خبر مصرع جبار، وأشد مافي الأمر غرابة أنه هو القتيل الوحيد من المجموعة المكلفة بحماية التلال، انتظرنا أن يصدر بلاغ من السلطة، فنعرف تفصيلات الحادث غير أن الجهات الرسمية التزمت الصمت، وامتنع المسؤولون عن الإدلاء بأية معلومات .

  وتساءل الناس متعجبين : هل من المعقول أن يُقتل جبار وحده ؟ ولماذا هو بالذات ؟ ولم اختير هذه المرة، بينما لم يكلف بمهمة حربية في المرات السابقة ؟

  انقلب التعجب إلى غضب، وكانت أول العشائر التي خرجت محتجة عشيرة " س "، ادعت أن جبارا أعلن انتماءه إليها أمام الملأ، وكانت التظاهرة تندد بالسلطة، وترفع شعارات معادية، أما الهدف الخفي،فهو الاستحواذ على راتب الرجل التقاعدي وديته .

  السبب نفسه جر عشيرة " ك " إلى الخروج بتظاهرة ضخمة جابت الشوارع، وحملت الأعلام،ورددت الشعارات، ثم خرجت عشيرة " ص " ورفعت الشعارات نفسها، وتبعتها عشيرة " ع " فحدث هرج وفوضى في البلد، فتوقفت الأعمال. الحوانيت أغلقت أبوابها، وانتشر المسلحون في شوارع المدينة.

  لقد وقعت السلطة في حيرة، فاضطر المجلس الحكوميّ إلى أن يعقد اجتماعا طارئا ليبت في القضية. أطل، بعد انتظار، كبير الحكومة من شرفة البناية العالية، وقرأ البيان الرسمي الحكومي الذي اتفق المجلس عليه :

نحن لانعرف إلى أية قبيلة ينتمي جبار، ولأن كل القبائل تنسبه إليها، فنحن لانستطيع أن نبت في الأمر.

  كانت كلمة الدولة كافية لتحدث انشقاقا في صفوف المتظاهرين . صاحت " س " هو منا نحن أكبر العشائر، ردت عليها " ع " وردت على الإثنين " ك ". تطورت المشادة إلى عراك وصدام، فسالت الدماء، وسقط عدد من القتلى والجرحى وفي مثل هذه الحالة كانت الشرطة تقف على الحياد، وكأن الأمر لايعنيها.

  استمر العراك ساعات حتى اتفق رؤساء العشائر في مساء اليوم نفسه على أن تتوقف أعمال الشغب، لتشكل لجنة خاصة مكونة من رؤوس الأطراف المتنازعة،تكون مسؤولة عن صندوق توفير تحفظ فيه دية القتيل، وراتبه التقاعدي، ولأن جبارا ليس له من يرثه، فمن المعقول أن يصرف المال على تحسين شؤون البلدة الصحية والتعليمية، فتبنى مدرسة ومشفى باسم المرحوم .

  هكذا اتفق المجتمعون، وقرروا أن يرفعوا طلبهم إلى السلطة حلاً للنزاع، وسدا لثغرة أحرجت العشائر أمام القانون.

  لكن السلطة تحركت قبل الاتفاق، وتداركت الموقف، فصدرت جريدة المساء  وعلى صفحتها الأولى أول بيان رسمي عن الحادث، وكان مجمل مافيه:

  إن جبارا قاد تمردا على الحكومة الليلة الماضية حيث ترك واجبه الرسمي، وغرر بمجموعة من الأبرياء، وقد سقط قتيلا في المعركة وهذا هو مصير كل منشق وخائن.

  بعد البيان الرسمي السابق لم تجرؤ أية عشيرة على أن تنسب القتيل إليها،أو تطالب بحقوقه، فأعلن رؤساء العشائر عن أسفهم وتضامنهم مع السلطة المركزية، فخرجت مظاهرات جديدة أقل عددا من السابقة، ردد فيها المتظاهرون هتافات تدعو إلى سقوط الخونة والمنشقين، ونددوا بالانقلاب الفاشل، وهتفوا لوحدة الوطن والسلطة المركزية .

  لكن عامة الناس لم ينسوا جبارا ذلك الشخص الذي أضحك البلدة وهو حي،وجعلها تغلي بعد وفاته . الشيء الجديد الذي حدث أن أحدا لم يستطع أن يذكر اسمه أو يترحم عليه علنا بعد صدور البيان الحكومي والمظاهرات الأخيرة .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2035 الأحد 19 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم