نصوص أدبية

مُطارَدَةٌ / عبد الفتاح ألمطلبي

بين أبي وأمي وإخوتي وأخواتي كنت صغيرَهم على الإطلاق ومحطَّ رعايتهم جميعاً ليس من شأني تلك المسائلَ التي تصرفُ الناسَ عن مَتـْعـَتِهم في الحياة، جاد ٌ في لعبي ولهوي غير عابئٍ بما أسمع من حديثٍ يشوبه الحزن من فم أبي والتذمر من فم أمي والاعتراض والتنديد من أفواه إخوتي الآخرين كل منهم يأتي دَورُه ليغترِفَ من بئر أحزانه فيصاب بالوجوم وأحيانا يودُّ البكاء لكنهم جميعا يحرصون على بقاء فمي يمضغ طعامه ويكركر على مر الوقت فأنا ابتسامتهم وضحكتهم وربما أملهم في الحياة وعندما أشعرُ بما يشجيني فأبكي يسارع الجميع لمسح دموعي وإرضائي، كان ذلك يجري ونحن جميعا نمضي إلى أمام في ارتحال دائم من يوم لآخر، لا نكاد نستقر بمكان حتى يقرر الكبار مواصلة السير قدما فهمت بعد حين أن الجميع يشعر بوطأة شيء ما يطاردهم ويقضّ مضاجعهم فكانوا جميعا في هرب دائم من شيءٍ ما قد وضعهم في حسابه وهم خائفون وعلمتُ أيضا أنهم يعرفون تماماً أن لا جدوى من فرارهم وإن ما يفرون منه جادٌّ في أثرهم، لم أكن أفهم ما يجري وعندما تبدر مني نظرة تساؤل يسارع الجميع إلى لَيْ اهتمامي نحو ما أنا عليه من طفولةٍ وسعادةٍ وكأنهم جميعا قد أودعوا طفولتهم وسعادتهم عندي، فأدفعُ تساؤلاتي وبعضَ حيرتي إلى وقتٍ آخر، كان أبي خلال ذلك يحرص كثيرا على تلافي تذمر أمي وشراء سكوتها بقليل من الحكمة والعقل قائلاً لها إن الأمرَ لا يستحقّ كل ذلك التذمر وإن ما من شيءٍ باقٍ على حاله، لم أفهم تماما مِمَ هي غاضبة، نختلط مع الناس جميع الناس الذين هم مثلنا تماما كأنهم يفرون من شيء، تضطرنا الظروف أحيانا إلى تغيير الأمكنة وترتيب الأولويات وكلما مر الوقت يتكشف لي شيءٌ من إدراكِ أمرٍ ما يشغلُ الجميع وعندما جاء بعض الغرباء ذلك المساء إلى بيتنا وكانوا يتحدثون عن أمرٍ يخص شقيقتي الكبرى التي توفر لي ملاذا من غضب أمي أوعِقابٍ أتلقاه من أبي، كان حضنها دافئا عندما آوي إليه، لم تمر إلا أيام قليلة وبينما كانوا يواصلون الهروب من ذلك الشيء الذي يتبعهم أتى الغرباء وأخذوا أختي ذلك الحضن الدافئ،الغريب في الأمر أنني رأيت أمي فرحانة بل تكاد تطير فرحا وأبي مبتسما رأيته ذلك اليوم وأخوتي كذلك ونسوا في تلك اللحظات النادرة ما كان يضايقهم ويقلقهم ويفرون من وجهه، لكنني الوحيد بينهم الذي ذاقَ مرارة الحزن لأول مرة عندما علمت بعد ثلاثة أيام أن حليمة أختي قد غادرتنا والتحقت بالغرباء ولن تعود كما كانت من قبل، بكيت ذلك اليوم قالت أمي مالك تبكي؟ قلت أين حليمة؟ قالت أخذها الزوجُ، بكيت حينها وتذكرتُ ما كانت تقصه علي حليمة في الليالي الباردة الطويلة عن النسر الذي يخطف البنات ويطير بهن وقلت لأمي هل سيأكل الزوجُ حليمة؟ ضحكت أمي لكنني واصلت البكاء وهكذا تعرفت على حزني منذ مغادرة حليمة ثم ازداد كيلاً عندما ذهبت الأخرى نعيمة إلى بيت زوجها أيضاً وجاء اليوم الذي رأيت فيه اختفاء فرحي وضحكي ووجدتني قد كبرت بسرعة ملفتة عندما سألت أمي بعد إن هدأ البكاء والعويل وانفرط جمع الناس وخفتت جلبتهم وبقينا لوحدنا، سألتها عما جرى لأبي قالت نفذ رزقه هنا فلم يستطع المواصلة وقد ضاقت المسافة بينه وبين ذلك الذي يفر ّمنه فأسلم أمرهُ له سريعا وذهب به إلى آخر الطريق وعندما قالت ذلك تضاءلتْ طفولتي حتى تلاشت وكبرتُ كثيرا قلت: كيف يوافق أبي على ذلك ؟قالت ما كانَ أمامه إلا أن يفعلَ ذلك عندما لم يستطع تجنبه قلت متى نصل نحنُ إلى نهاية الطريق يا أمي وإذا وصلنا هل سنرى أبي هناك؟، عندها زجرتني أمي بنظرتها المقهورة وقالت يا لك من لجوج، كفاك أسئلةً لا جدوى منها وهكذا بدأت برؤية الصورة واضحة وعلمت أننا جميعا لا زلنا نجدّ في الهرب وعلمتُ أيضا أن شكيمة المُطارد قوية وإنه عنيد وليس لنا إلا الهرب من ذلك الذي يتجنبه الناس وقالت أمي إنه أحيانا يُشفق على الناس فينهي معاناتهم رأفةً بهم فيوصلهم إلى نهاية الطريق ولكنه يسير على أثرنا ويلامسنا أحيانا ويدركنا وعندما نكون في مداه عند ذلك لن نستطيعَ أن نفعل شيئاً وشرحت لي أموراً أخرى تتعلق بالحياة وجمالها وأننا يتوجب علينا تجاهله مادمنا بعد لم ندخل في حياضه ومرماه،سمع ذلك منها جارنا الشيخ عبد الله ذات مرة وهي تحثني على نسيان ما يطاردنا وعلينا أن نلتفت لحياتنا، حينها قال لها كيف تفعلين ذلك غفرانك أيها الرب كان عليك أن تذكّريهِ به دائما وأن لا تدعيه ينساه فذلك أقوم لنفسه وليكن مستعدا لملاقاته أبدا ردت عليه حينها أيضا بقولها إنه طفل يا شيخ لا يفقه شيئا، وهكذا لم يفارقني الإحساس بوجوده، تعلمت بعد ذلك بوقتٍ طويل طرقاً أخرى تهدئ من روعه وروعي حين أظنّ أنه يقترب مني كثيرا وفي يوم لم أجد غيري على الطريق ذلك حين عجزت ساقا أمي عن أن تحملانها كنت أسمعها تناديه بل وتتوسل به أحيانا في أن يأخذها معه يوصلها إلى نهاية الطريق الممتدة لعلها تجد أبي هناك ليعينها على ما تعاني وظلت تستدرجه وتستعطفه حتى رضخ لتوسلاتها وكانت على درجة كبيرة من الوهن وفي ليلة من ليالي شباط البارد غادرت معه خلسةً دون أن يتسنى لنا توديعها، كانت تشفق علينا من رؤية جانبه الحاد المؤلم وهكذا ذهبت ولم تعد وكان علينا أن نخفي بقاياها في أرضٍ رملية وقد أدركتُ ما كان يفعله أبي كطريدة لهذا المُطارد العنيد، كنت خائفا لكنني أتجلد وأصبر متذكرا أنني وحدي وأنه على أثري، وجدتني أحاول بكل ما أوتيت من حب للحياة والبقاء أن أحيد عنه، متحصناً بحظي من الحياة وأثناء ذلك أدركت كم كان عادلا وملتزما بحقي في الحياة إلا أنه كان لا يتورع عن استغلال أية فرصة رعونة أو غباء مني في لحظات تفريطي وإفراطي واستهانتي بحظي منها ليسارع للتقدم باتجاهي فأستنجد بعشب من حقل اللطف الواسع الذي ما إن يراه حتى يفعل فعله السحري فيه ويلهيه ريثما أبتعد قليلاً عن دروبه وهكذا واصلت السير على الطريق الذي سار عليه أبي من قبل وعندما يختفي القمر وتشتد الظلمة أحاول النكوص والرجوع من حيث أتيت لكنني حين استدارتي يستدير معي الطريق ويبدوالوجود ثابتا لا يتزحزح من مكانه وكأننا أنا والناس السائرين والطريق الممتد قدما على محور واحد إن استدرت دار معي كل شيء فلا محيص ولا مهرب ولا نكوص، في تلك الليالي الظلماء يشتد خوفي منه وتوجسي فأستيقظ من نومي وأسير بمحاذاة الطريق وعندما أسترق نظرة لجهته أراه على المسافة ذاتها مني وكأنه يتحين لحظة وقوعي وتسليمي تماما مثل ذئب بري يتبع ثورا جريحا يتحين الفرصة للحظة الانقضاض فأنتفض بشدة وأقف فيقف قبالتي شاخصا لا يريم،في إحدى المرات نفذ صبري فرحت أخاطبه ولا يجيب قلت: ماذا تريد فلم أسمع إلا ذيول كلماتي وهي تتردد كصدى ...رييييد.رييييد. وطوال مضيي على الطريق معه لم أحاول ولو لمرة واحدة أن أتفهم موقفه أو أنظر لوجهه عن كثب فقد كان حريصا على أن يخفي وجهه في ظلمة الطريق أما في النهار فلا أثر له ولا وجود غير الإحساس بثقل وجوده المهيمن على اللحظة التي أجعله فيها جزءا من تفكيري وهكذا كان علي أن أقبل بالحقائق كما هي ذلك الطريق وأنا المُجبر على السير فيه ومطاردي الذي تمكن من أبي وأمي يقف ليس بعيدا عني أيضا وعلى هذا خفت وطأة المطاردة واحتفظ كل منا بمكانه يراقبني وأراقبه وعندما قطعت شوطا طويلا من الطريق وأدمنت النظر صوب جهته استحال إلى رفيقٍ مألوف وخصوصا في الأيام الأخيرة التي صرتُ فيها أعزلاً من كل ما استعنت به على مشقة هذا الهروب المتواصل حتى جاء ذلك اليوم الذي وجدني فيه المارة ملقى على الرصيف محاولا دفع شيء ما قد جثم على صدري وكانت ليلتي الأولى في المستشفى، كنت أواصل تحديقي في الفراغ وحول ستائر النافذة المطلة على النهر حيث يمتد طريق طويل باتجاه الغرب وعندما غادر الطبيب وما بين إغفاءةٍ وشبهها رأيته بوضوح هذه المرة يقف بهدوء كما كان يفعل طوال الطريق وبدأت ملامحه تلوح رغم ما تفصله عني من مسافة حددها هو بمشيئته كان في تلك اللحظة أكثر ألفة وكان جميلا وسيما مبتسما لا غبار على سحنته المريحة وكأنه يقول لي : هوّن عليك الجميع قد نجح في عبور هذا الطريق وستنجح أيضا وستجد رفقتي أحسن مما تظنّ في تلك اللحظة أحسستُ لأول مرة بأنه ربما يكون رفيقا مريحا وإنه أكثر ألفة من ذي قبل ومددتُ يدي نحوه لكنه رفع يده بإشارة مؤداها أننا سنلتقي ثم اختفى فاستيقظت مبتسما وعلمت أن الطريق لا زالت فيه بقية.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2035 الأحد 19 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم