نصوص أدبية

جامع الأفاعي / قصي الشيخ عسكر

وقد نشرتها في دمشق عام 1986 في مجموعة عنوانها " المعجزة" ومن الطريف أن أذكر هنا أن بعضات من أصدقائي في دمشق من الشيوعيين والبعثيين اليساريين والإسلاميين أيضا ممن طالعوا المجموعة قدموا إلي معترضين ومعاتبين حيث سألوني كيف أجعل من قائد الثورة أو المقاومة مجنونا؟ وقتها لم أجب على ماطرحوه من سؤال لأننا وإن كنا نعيش زمن الحرب الباردة إلا أننا يجب أن نفهم الأدب بصيغة أخرى تختلف عما الفناه من نظريات جاهزة في أذهاننا أو معان اعتدنا عليها والحق إني استوحيت في القصة شخصية جامع الافاعي الحقيقية في شط العرب وطوعتها لفترة سابقة 1924 – 1917 وهي زمن احتلال الإنكليز للعراق"

نشرت في مجموعة عنوانها " المعجزة " عام 1986 – دمشق

 

القصة

عرفته القرية شابا معتوها.شفتاه ترتخيان إلى الحد الذي لاتسيطران فيه على الكلمات.عرج في ساقه اليسرى. سترته تشققت من عند الإبطين وانحدرت على سروال نصف ممزق اقترب من ركبتيه.

كل ذلك جعل الناس ينفرون منه ويبتعدون عن طريقه وحين يراه الأطفال الصغار يشيرون إليه، وقد يفر معظمهم...

هذا هو عبو المعتوه...

كانت هوايته الوحيدة البحث في شقوق الأرض عن الأفاعي، فله قدرة في تمييز ثقب أفعى عن جحر أي كائن آخر. يقف برهة أمام الثقب يمد يده بجرأة، فتخرج أفعى إلى النور يسارع إلى التقاطها كما يلتقط الحجر، فتسكن حركتها بين أصابعه المرتعشة النحيفة، وكأن صداقة حميمة جمعتهما يوما يوما...

ويطمئن إليها من الوهلة الأولى، فيخفيها في فتحة سرواله، ويداعبها على صدره، ويلفها حول عنقه، ويتمادى، فيلعق رأسها بلسانه، وابتسامة غريبة تزاحم نظراته إلى من يحيطون به، وهم يقفون على بعد منه ترف حول عيونهم هالة استغراب، وترتعش الدهشة في شفاههم.

لقد تساءل كثيرون عن قدرة عبو. بعضهم قال إنه حفظ آية من القرآن الكريم الكريم أخبره بها ولي من الأولياء الصالحين، لأن عبو لم يزن أو يسرق، بعضهم تخرص أنه يحفظ إحدى آيات القرآن بالمقلوب، وتهامس آخرون بتعليلات متباينة، لكن عبو نفسه تحدى كل ماقيل يوما حين أخرج قطعة من " حامض الحلوى " وأشار إليهم أن يأكلوها فيمسكوا الأفاعي بيسر دون أن تؤذيهم، فلم يجرؤ أحد منهم حتى شباب القرية مفتولو العضلات كثيفو الشوارب المعروفون برجال الليل الذين ناموا في المقابر فرادى خانتهم شجاعتهم وهربوا من ملامسة الجلود الملساء التي اعتاد تها أصابع رجل معتوه.

وردا على الإحراج الذي وقعوا فيه عاملوا عبو ببرود ثم نفور وحذروا الأطفال منه، وظلت مضائف الليل تشهد مفاخرهم في ضروب أخرى لاتتعدى المبيت في المقبرة أو المرور أثناء الظلام من تحت شجرة منفردة يسكنها الجن ولم يكن من اليسير أيضا أن يتجول أحدهم من غير سلاح في المستنقع حيث تأوي بعض الخنازير البرية .... المعتوه لاخوف عليه... الصعاب تواجه أصحاب العقول وتضعهم أمام امتحان لتكشف قدراتهم إلى حدود بعيدة... لابل هو لاخوف عليه ...

كانت القرية هذه السنة كئيبة فالسحاب عبر دون أن يلقي بثقله،ماتت أغنام فلاحين وذبح آخرون بعض مواشيهم قبل الهلاك وربما واجهت مثل تلك المشكلة الأهالي على فترات بعيدة عندها يلجؤون إلى المستنقع الواسع الضحل أسفل النهر بين البساتين وجرف شط العرب حيث ينز الماء وتتسرب المياه من الشط فينمو زرع كثير وتسمق الحشائش، وكان الشرطة الهنود وضباطهم الإنكليز اتخذوا من حافة المستنقع جهة البر مركزا لهم ومعسكرا للتدريب ونص أمر كبيرهم على منع الاقتراب من المستنقع كله خشية من أن يتخذه اللصوص وبعض المخربين منفذا لمهاجمة المركز والمعسكر وعندما كانت الدنيا بخير لم يقترب من المستنقع الأهالي إلا عبو المعتوه الذي وجد فيه مكمنا خصبا للأفاعي فقد اعتاد رجال الشرطة الهنود وضابطهم الإنكليزي منظره وهو يجتاز الأرض الممنوعة وربما وجدوا في تصرفاته مبعثا للسلوة فتركوه على هواه...

في اليوم التالي دخلت الأرض المحظورة مجموعة فتيات وبدأن يعملن مناجلهن في الحشائش الكثيفة، في الوقت نفسه كان المعتوه يتجول بحرية... حين دنا منهن قابلنه بنفور وازدراء . ابتعدت عنه كبراهن التي انحسر خمارها عن صدرها. قالت مهددة:

- حين أرجع إلى البيت أخبر والدي.

نبهتها أخرى تلبس ثوبا ورديا هامسة:

-   لاتثيري ضجة.

لكن المعتوه لم يجبهن. ابتعد بضع خطوات وتدحرج إلى ساقية غاض ماؤها يتطلع إلى بعض الشقوق. شعر بألم في ساقه العرجاء سرعان ما انصرف عنه إلى صوت غليظ ولهجة خشنة...

كان هناك شرطي أجنبي يحمل هراوة غليظة حاصر الفتيات المذعورات بين الساقية الجافة والممر المؤدي إلى أكواخ القرية. لم تفهم البنات منه إلا كلمة ممنوع. سال لعاب عبو ونسي الألم الذي دب في ساقه، وامتدت يده النحيلة المرتعشة إلى ثقب في الساقية .. ثم استل أفعى فحت برهة وسكنت بين أصابعه.

تشبث ببقايا نتوء بيده اليسرى وكان على الحافة. الرجل الهندي يلوح بالعصا للفتيات وعيناه تختلطان بحمرة وكأن دمه تجمع في عينيه وعرق رقبته راح ينبض بخفقات سريعة. ضحك عبو ضحكات متقطعة سال على أثرها لعابه واتصل منه خيط رفيع إلى الأرض ... ثم تقدم يختصر خطواته العرجاء إلى الشرطي وألقى الأفعى بوجهه. غار الدم من عيني الغريب الذي فاجأه المشهد فارتد إلى الخلف وأطلق لساقه العنان...

تلك اللحظة تنفست الفتيات بعمق. سارعن إلى شد باقات الحشائش بحبال الخوص، وصفقت إحداهن للمعتوه.

قالت فتاة مازال الدم يدب في خديها:

-   كاد من الخوف يتقشر جلده.

اقتربت أكبرهن من عبو وقرصت أذنه. قالت :

- عبو أعندك قطعة " حامض حلو "

قال":

-   أعطيك واحدة بشرط!

قالت صاحبة الثوب الوردي:

-   قل كلنا نوافق

-   أتزوجك!

ضحكت الفتيات. حملن باقاتهن إلى القرية، وظل عبو المعتوه يبحث عن الأفاعي!

 

كُتِبَت عام 1972 ونشرت عام 1986

 

قصة قصيرة

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2040 الجمعة 24 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم