نصوص أدبية

المعجزة / قصي الشيخ عسكر

 عن صائغ للذهب مندائي " صابئيّ " من أهل الله يقدر بفعلٍ ما أن يكشف لك عن بعض الأمور يقال إن خياطا صاحب دكان سُرِق َ من لصوص فرأى عن طريق هذا الرجل الصالح السارق كيف يدخل المحل ويسرق...

كان صديقي " م " المحسوب على الحركة الإسلامية وهو مدرس لغة إنكليزية  له خال شيوعي اعتقلته السلطات عام 1963 فضاع خبره، أخبرني أن والدته تكاد تموت حزنا بسبب حنينها واشتياقها لأخيها فقررنا أنا وهو أن نذهب إلى بيت ذلك الرجل لنرى حقيقة الأمرإذ.. لعل.. أو عسى، وعندما طرقنا الباب خرج إلينا ذلك الشيخ المهيب ذو اللحية البيضاء الكثة .. سألنا عن مطلبنا ثم اعتذر كونه ترك هذا العمل منذ أكثر من سنة وأقسم على ذلك ولن يحنث بقسمه أبدا .." يبدو أنه لم يرد أن يدخل في مشاكل مع نظام الحكم أو لعلهم هددوه"

الجدير ذكره إني كتبت القصة مزاوجا بين الواقع ومتطلبات العمل الفني في السنة الثالثة الجامعية وحملت الدفتر معي حين هاجرت من العراق عام 1979وحين نشرتها في دمشق عام 1986 ضمن مجموعة سميتها "المعجزة" جاء بعد شهر تقريبا إلى دمشق هاربا  أحد شباب  التنومة وأخبرني أن السلطات أعدمت صديقي الأستاذ " م "بتهمة الانتماء إلى حزب إسلامي محظور.

 

القصة

  كان الشيخ الصفار حديث الناس بقدراته الخارقة. يعيد لك الحدث الماضي ويلتقط لحظة الحاضر وكأنك جالس في قاعة سينما.

  وانتشرت قصص كثيرة عنه. الخياط الذي سرق، أظهر له الشيخ السارق، وهو يفتح الحانوت، ويتسلل إلى الخزانة، وقد سقط منه درهم على عجالة خلف الكرسي الخشبي... وتحقق الخياط من كلام الشيخ، فأذاع قصته التي عرفها الناس عن قرب وبعد...

  وأصبح حديث الشيخ الصفار يجري على الألسن. يقصده الكثيرون، يستطلعون مافاتهم من الماضي والحاضر أما المستقبل فقد جزم منذ البدء أنه أمر غيب والغيب لايعلمه إلا الله أما عُقـَد مافات وماهو حاضر فلا تستعصي بوجه الأولياء، فزاده حديثه عن الماضي والحاضر هيبة وأشاع الثقة به عند الكثيرين.

  غير أن شهرة الشيخ كانت تخضع لظروف خاصة.تارة ينساه الناس فيقل ذكره على الألسن ويخبو نجمه قليلا، وتارة تلهج به الشفاه، ويكون محور الأحاديث في كل مكان.

  لم ألتقه، ولم أره لا لأنني أنكر مايقولون عنه فقط بل لأنني هاديء الطبع أتحاشى استفزاز عواطف الناس بالتهجم على معتقد راسخ في أذهانهم حول شخصية ما فكنت أرى نفسي صاحب ثقافة علمية تنكر الخرافات والمعجزات في عصر العلم زد على ذلك أن بعض أهل المدينة ينظرون إليه نظرة قدسية ويزدادون بركة لمجرد النظر إليه.

  ومع ذلك راودتني رغبة لاأعرف سرها في أن ألتقي الشيخ وأرى منه معجزة تعيد في نفسي ما فقدته وما يفكر به ناس مدينتي حول الخوارق وظهورها على يد رجل صالح.

  ولأن ناس مدينتي طيبون بسطاء لايعرفون الغش والخداع إلا ماندر فلم ينتشر اسم الشيخ إلا وقت الحوادث الشاذة كالسرقات الغامضة والقتل المجهول وهي نادرا ماتحدث في مدينة صغيرة تربط أهلها علاقة القرابة من قريب أو بعيد.

  وظل الناس لايعرفون الحزن والخوف، وإن فقدوا  توازنهم في حدث سرقة أو قتل عابر  توقعوا بالفطرة أن الخلل حدث بحلول غرباء على المدينة فيهرعون إلى الشيخ قبل الذهاب إلى مراكز الحكومة.

  ولم تأو المدينة بعد حادثة وأخرى أي غريب، وظل مركز الشرطة مفتوحا بصورة شكلية حتى قال الناس: ماعاد للسلطة دور فنحن مدينة فاضلة والحكومة مبنية على حلول المشاكل.

  وكان على الحكومة أن تتدخل وعلى الدولة أن تجد مكانا فقد خلقت للمشاكل ...

  وحل وقت انتشر فيه الخوف على الوجوه، وشاع الحزن بين الناس...

 وظلوا يرددون عبارتي اليمين واليسار اللتين كانتا تمران بهم في الماضي لكنهم لايعيرونهما اهتماما.أما الآن فأصبحوا يركزون على مناقشة هاتين الكلمتين ويشددون على إحداهما  محاولين أن ينسوا أحزانهم لكن دون جدوى.

  غير أن الحزن ظل أقوى من النسيان والغياب في تعليلات بعيدة.

  كان رجال الشرطة يصطادون الناس في الشوارع بدعوى اليسار واليمين والاعتدال، فغاب الكثيرون، ولم يعوف مصيرهم أحد، وارتبكت عوائل وغلى في البيوت حقد دفين.

  وزاد حنق الناس وغيظهم أن الغرباء بدأوا يظهرون بعد الحوادث الأخيرة وراحوا يأخذون أماكن المختفين، ويؤدون أدوارهم، وكلما اختفى رجل ظهر فجأة غريب وكأنه يزاول العمل نفسه، ويحاول أن يبدو مشدود الجذور إلى هذه البقعة كما لو أنه يعرف أهلها منذ عهد بعيد.

  وكأن الناس انتبهوا من غفلة وتذكروا سمة تكشف الغائبين...

  وأشاروا إلى الشيخ الصفار...

  وقصدته أمهات كثيرات، وشيوخ،وشباب. كانوا يرجعون بحكايات عن غائبيهم. " أم خلف " أبصرت أخاها في زنزانة بالسجن الكبير . " عبود" صاحب الدكان رآى ابنه معصوب العينين وعلى خطوة منه كلب أسود يدلع لسانه...

  وحكايات كثيرة...

  كان بيتنا يعيش حالة حزن أوسع من العوائل المجاورة.أخي الصغير اتهم باليسار، فاختفى. عمي عد من اليمين، غاب بعده بيومين....خالي لم يدخل أي تنظيم ضاع خبره دونما سبب.

  وهكذا اتسعت رقعة الحزن في عائلتنا...

  وتحدثت والدتي عن الشيخ الصفار. زارت " أم محسن "والحاجة " أم خديجة "وزوجة " صادق "وأنصتت باهتمام إلى حكاياتهن وكيف أظهر الشيخ أولادهن وأزواجهن المختفين.

  وكنت شأني من قبل لم أصدق مايجري ثم تحول الإنكار إلى شك وأخيرا آمنت كما آمن أهل المدينة.

  وقررت أن أقصد الشيخ...

  وشيعتني العائلة إلى الباب، والدة منهكة، أب عجوز. أخت لم تتجاوز الخامسة عشرة. كانوا يتمثلون توجهي إلى الشيخ لحظة تتغلغل في عيونهم قبل الغيبة وتختصر اللقاء!

  وكنت أطالع في ذهني  صورة الشيخ وهو يشفق علي . ماعسى أن يكون شكله؟ رسمت له صورة قررتها الهيبة المرتسمة في حلمي. رجل طويل أبيض اللحية. واسع العينين.مقطب الجبين.رجل ليس بالسمين أو النحيف يتوكأ على عصا بيسراه، ويسبح باليمنى.

  وطرقت بابا خشبيا . راودتني أفكار سوداء.خفت أن أبصر أقاربي تحت سياط التعذيب. قد أرى كلبا ضخما جنب أخي.كدت أرجع من حيث أتيت لكن رغبة ألحت علي فرفعت يدي المرتعشة وطرقت الباب ثانية...

وانتظرت برهة...

  وطال الانتظار، وجاء رجل وطرق الباب، ووقفت امرأة جنبي تنتظر، وأخذ الوقت يمر والناس يزدادون حتى خلت أن المدينة اختصرت جموعها عند باب الشيخ.

  وعدت تلوح على محياي سمات الخيبة، وعاودت المحاولة  اليوم التالي ورجعت كما عدت بالأمس، وعاد معي كثيرون، وكل منهم يحمل خيبة أمله.

  وتكرر في اليوم الثالث ماحدث في اليومين الماضيين...

  وانصرم أسبوع ولم أر الشيخ الصفار...

  وأخيرا تهامس الناس أن رجال الشرطة ألقوا القبض عليه وأنه اختفى كما اختفى غيره، ولم يعرف أحد أي خبر عنه.

 

قصة قصيرة

   

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2044 الثلاثاء 28 / 02 / 2012)


في نصوص اليوم