نصوص أدبية

الــــــزّوان / فرج ياسين

تنكفئ حافاتها حول المحافظ الجلدية المختلفة الألوان . يدخلون وأعينهم على المنصة الخالية إلا من بقايا الرجل الذي كانه، كومة ضئيلة بعينين ضيقتين تومضان بين الغضون، وقذال أشيب ينفرش تحت صلعة عريضة مبقّعة بدراهم ناقصة الاستدارة، بلون القهوة . وموظفون فوق سن الشباب بقليل . يدخلون اثنين اثنين، ويحدثون ضجة كبيرة وهم ينقلون المقاعد . ويضعونها في النسق الذي يتخيرون . بحيث تتاح لهم مواصلة الثرثرة بالطريقة نفسها التي اعتادوا عليها خلف مكاتبهم . وموظفات بين الثانية والعشرين والخامسة والثلاثين، ما زلن يعتقدن بعد يوم عمل كامل، إن وجوههن وشعورهن ما عتمت تحتفظ بآخر صورة أوهمت بها المرآة النظيفة قبل خروجهن في الصباح، ثم عدد من الإداريين الشباب، يزيد عددهم على عدد المقاعد الخالية في الصف الأول، توحي رؤيتهم بأن ثمة رائحة توشك أن تنفلت من بين خطواتهم المنفعلة .

وشرع المحاضر ينظر على أولئك الإداريين من خلف ذراع المكرفون المقوس، وهم يروحون ويجيئون بين باب القاعة ومقدمة المسرح، يبحلقون في ساعاتهم ويسوّون شعورهم، وسحابة من القلق الجذل تطفو فوق وجوههم الحليقة، فشاهد أحدهم وهو يقوّم اعوجاج صورة أركنت إلى جدار المسرح . ثم آخر وقد أقبل من الكواليس، وهبط الدرجات الثلاث إلى يسار المنصة، وهو يحمل زهرية كبيرة نسقت فيها ورود ملونة على شكل نصف دائرة أشبه شيء بذنب الطاووس . فوضعها على منضدة من الخشب البراق في منتصف الصف الأول . أمام أكبر المقاعد وأنظرها .

ومر زمن، فرأى أربعة رجال يلجون باب القاعة وقد أحيطوا بعيون الجمهور، وابتسامات الإداريين الذين نهضوا من أماكنهم، ووقفوا صفاً في الفجوات الصغيرة بين خطي المقاعد على جانبي الممشى، في وسط القاعة وهم يتناوبون انحناءات  ناعمة كلما أصبح الموكب الصغير بمحاذاة أحدهم فتقدم الرجال الأربعة، واتخذوا أماكنهم حول المقعد الكبير الذي ما يزال خالياً . وأغرقوا في همس متصل دون أن يعبأ أي منهم بما يدور حوله . لقد كانوا سادة مرموقين، أتّم كل واحد منهم اصطفاء شرنقته ورضي أن يٌنتبذ فيها . ولم يرن المحاضر إلى حيث كانوا، بل إلى حيث تسلل رجلان هرمان، بين المقاعد . وأشارا بعكازتيهما إليه، وابتسما من وراء خرابتي فميهما الأدردين . فراقب خطاهما وهما يترددان في تخير المكان فما كان ينبغي لهما أن ينحشرا بين النساء، حيث يكون لإحداهن أن تظهر صفاقتها لمجرد أن ياقة قميص أحدهما تنتمي إلى موضة بائدة . كما لم يكن لهما أن يدخلا بين أولئك الموظفين الفارغين الذين سيظلون يعاملونمها بشفقة سمجة . أما ثلة الشباب الإداريين فلم يلتفتوا، وأغلب الظن أن البعض منهم اعتقد أن وجودهما يشبه ثؤلولين زائدين غير مسرين في ديكور المكان . ولكنهما كانا قد اتخذا مكانيهما . ووضع كل واحد منهما عكازته بين ساقيه، وجعل ينظر عبر زجاج نظارته إلى المنصة .

ومر زمن . فشاهد دخان السكائر يتعالى في القاعة وقد بدأ يقرص أجفانه ويرمضهما . فألقى نظارته ومسح عينيه الدامعتين .

وظلت مطارق الضجيج تفحم سدة عناده . وما كان يعلم لأي سبب جعلوه ينتظر كل هذا الوقت، فقد استدعاه عريف الحفل بمقدمة موجزة قائلاً : إن الأستاذ وجه من الوجوه الرائدة في فضائنا الثقافي وأن الشيخوخة لم تثن عزمه عن الحضور، واقترح عريف الحفل أن يذهب المحاضر إلى المنصة قائلاً أن هذا هو مكانه الطبيعي . وكان يظن أنه سيشرع بإلقاء محاضرته، فقد أعد الأوراق ونظر في ترتيبها، وطوفت فوق وجهه سحابة من الرهبة . فقد تصرّم زمن طويل منذ آخر مرة تلا فيها أمام جمهور كلماته . ولكن أحد الإداريين خفّ إلى المنصة وعاجله بهمسة صفعت أذنيه، وجعلت الدم يتراجع فيحرن في أنامله التي أطبقت على الورقة الأولى . وما قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) إلا لنفسه وكانت عيناه ما تزالان تجمدان عليها . وأحس كأن شيئاً يتقصف في داخله لكنه حاول التماسك وغمغم : حسناً، لك ما تريد ! وتراجع إلى الخلف، فمس مسند الكرسي بظهره، ثم أرخى أطرافه، وأسبل عينيه، وتكور مهيناً مثل خرقة . غائباً في قمقم الدخان والعرق، ورائحة الحضور الكثيفة . وكان العجوزان هناك يمضغان لثتيهما وينتظران .

ومر زمن، فشاهد عريف الحفل . وهو يقبل خبباً من باب القاعة، ويقف أمام الرجال الأربعة . فانحنى وجعل يهمس لهم ثم اعتدل وتراجع مفسحاً لهم الطريق . فنظروا في ساعاتهم . ونهضوا خفافاً وأعدوا أنفسهم للانصراف . وقد رفع أحدهم يده مودعاً، فتحامل المحاضر على نفسه مستنداً على حافة المنصة . ونهض فرد التحية .

ولم ينتظر أحد أولئك الشبان حتى يتوارى الرجال الأربعة، إذ مضى إلى المنضدة التي أمام الكرسي الكبير ورفع الزهرية بأورادها الملونة ثم ارتقى درجات السلم ودلف إلى الكواليس، وعاد الصف الأول خالياً فاضطرب الجمهور وعلا همسهم ولغطهم . وبعد دقيقتين اثن

تين فقط كان الضجيج يعم القاعة . وكان الذين في الصفوف الأخيرة قد تسللوا خارجين . وبدأ الإداريون يستعجلون عريف الحفل وقد نضت وجوههم مسحة قلقها الجذل، وانقلبت إلى ألوانها العتيدة . فأشار عريف الحفل إلى المنصة . لكن النساء نهضن دفعة واحدة . وكل تحمل حقيبتها ولفافتها . فتراجع أولئك الشبان وتكدسوا في الفسحة الصغيرة بين صف القاعة الأخير وباب القاعة، وأخذوا يمازحون النساء اللائي كن يلحفن في طلب الخروج . وهن يتعدن عواطف الشباب الفائرة بابتسامات رقيقة، وأحاديث سلسة ناعمة، فأخذ كل واحد منهم يحاول الاستئثار برضا أكبر عدد منهن . ولم يكن عدد الآنسات الرقيقات اللاتي ليس بوسعهن إنكار مثل هذا الجميل قليلاً أبداً !

وشاهد القاعة وهي تخلو ..

وعندما فتح فمه ليتلو كلماته . لم يكن هناك غير الرجلين القديمين يجلسان متكومين حول مقبضي عكازيهما، وغير الهواة المأخوذين بعشقهم وهم يشخصون إلى المنصة وقد أحيطوا بالمقاعد الخالية . فألقوا فوقها كتبهم وكراريسهم وأوراقهم ومحافظهم الملونة . وجعلوا كل ذلك ينبث حولهم في مثل حديقة صغيرة .

وأخيراً شاهد صدى كلماته في ضوء الوجوه القانتة .

 

قصة قصيرة

من مجموعة (واجهات براقة)

 

...................

الزوان: ما يخرج من الطعام فيرمي به وهو الرديء منه .

(لسان العرب)

- وهو حب يخالط البر .

(الصحاح)

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2044 الثلاثاء 28 / 02 / 2012)

 

في نصوص اليوم