نصوص أدبية

سوق الدير (3)

 فناولها أبي حصتهم من الأشياء التي جلبها، أخذتها العجوز وهي تدعو له بطول العمر ووافر الصحة وقبل أن تبتعد عنا التفت من جديد وقالت: مبروك يا بن عمي .. ربنا بعث لك عروس مثل القمر .

- ربنا لا يوفقك يا غراب البين . همس أبي بغيظ من دون أن يلتفت نحوها.

كدت انفجر ضاحكا، لكني لم أجرؤ على فعل ذلك، صمت أبي المضطرم جعلني انكفئ علي نفسي وأمضي إلى جواره صامتا إلى أن دخلنا الدار، فكان أول من قابلنا عند بابها أختي عائشة، أقبلت على أبي فاتحة ذراعيها بفرح ألجم لسانها عن النطق، توقف أبي أمامها مبهورا، ثم انحنى عليها ورفعها إلى صدره .. ضمها إليه وقبل وجنتيها، فمالت على أذنه وهمست قائلة: أمي جابت عروس .

- اهنيتي يا حبيبتي . رد أبي معقبا، ثم راح يدغدغ وجنتيها بشعر لحيته البازغ كالمسامير وهي تكركر ضاحكة .. تفلت منه حينا وتقبل عليه حينا، إلى إن دخلنا على أمي في مخدعها، فهب من كان عندها من أهل الدار لاستقبالنا، كانت زوجتي أول المبادرين إلى ذلك، ربما لأنها أصغرهن سنا، سلمت على أبي أولا، فتناول حفيده من حضنها وراح يقبله ويداعبه على نحو أدخل البهجة والسرور إلى نفسي وجعلني أكبره أكثر من أي وقت مضى، بل شعرت في لحظة ما بأنه لم تعد بي حاجة لاحتضانه من بعده، دفقة الشوق التي عصفت بي قبل المئيب، أفرغها أبي بسيل من الحنان فعمنا جميعا، حتى زوجتي التي وقفت للحظات مشدودة بحرارة المشهد، أقبلت على يدي تلثمها بفتور لا أدري مرده، لعله الخجل من العيون التي تحاصرنا، أو هو الإحساس نفسه الذي تولد بداخلي جراء ما بدر عن أبي .

- الحمد لله ع السلامة يا حليمة .، قال مخاطبا أمي، ثم انحنى عليها وقبل رأسها، حذوت حذوه فلمست في نظراتها إعياء لا حدود له، تذكرت حينها الحلم الذي مر بي قبل أيام، جاءتني شاحبة كالحة على هذا النحو الذي أراه الآن، لعلها كانت في شدة فجاءني طيفها مستغيثا .. ترى هل عرج على أبي أيضا، أم أنه آثر السلامة وجاءني؟، خصوصا أن موقف أبي معروف في هذه القضية .

شعرت برجفة تسري في بدني وخوف يحيط بي من دون أن أجد له مبررا، سوي إحساسي المفرط بعقدة الذنب تجاهها، إذ كان من الأولى بي أن أصر على البقاء معها رغم رفض أبي، فلو كان موقفي صلبا لتجاوب أبي، لكن ميوعة موقفي ورغبتي الكامنة في الخروج من المبروكة، كانتا السبب الرئيسي فيما وصلت إليه أمي .

حديث أبي الموجه إلى جدتي من طرف خفي وهو يداعب ابنته الجديدة، جعلني استعيد توازني على عجل: طالعة قوية لجدتك يا مقصوفة .

- على الله تطلع مثل جدتها .، ردت جدتي معقبة .

- أنت هان؟ . رد أبي ممازحا .

- أنت شايف حد؟ . عقبت قائلة .

- أنت البركة كلها يا عمتي .. ولو أني عاتب عليك .

- هذا طرفي .. اللي لك خذه .

- يا عمتي أوصيك على حليمة والولد اللي في بطنها، أرجع ألاقيه بنت .

- استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم .. اللي تركته لاقيته .

ضحكت أمي رغما عنها .. خرجت البسمة من بين شفتيها صفراء منهكة، تبعها سعال خفيف حاولت مداراته عنا، لكن أبي أقبل عليها بحنو لم أعهده فيه من قبل .. وضع كفه تحت رأسها وساعدها على الجلوس في مكانها: سلامتك يا حليمة .

- الله يسلمك .، وأشارت إلى إبريق الماء، فأجبتها على عجل .. ارتشفت منه قليلا وركنته إلى جوارها، سألها أبي إن كانت تشكو من شيء ما، فجاء الرد على لسان جدتي ممزوجا بالحرقة والألم: هو اللي لاقته هين .. يا كبدي عليها وصلت الموت ورجعت .

- آخذك على الإسبطار يا حليمة؟.

- لا .. لا تشغل بالك .. يومين ثلاثة وأرجع مثل أول وأحسن .

- ربنا يسمع منك ,، قالها بصوت أجش، ثم التفت إلي محاولا الهروب من لحظات ضعف تحاصره وتوشك أن تجرده من مظاهر قوة تزيا بها أمامنا .. نظر إلي بشيء من الذهول و قال: ولك يا حسين ..افتح الصرة وأطعم أمك وجدتك..نادي زوجتك وأخوتك .

- عمر في الجامع . همست أمي قائلة .

- في الجامع ! .. عشان هيك ما شفته . رد أبي معقبا .

- المختار ربنا يحسن إليه، فتح الجامع يعلم فيه كل يوم بعد العصر .

لم تكمل أمي كلامها حتى كان عمر واقفا أمامنا .. قمبازه الذي ارتدى لم أشاهده عليه من قبل والمصحف الذي بيمينه أضفى عليه مهابة ووقارا، صافحني كرجل لرجل، حتى خلته قد كبر سنين عديدة في غيبتي،ثم أقبل على أبي فضمه إلى صدره بشوق كبير وهو يردد قائلا: رجل يا عمر .. لازم تطلع أعلم واحد في البلد .. قل لي شو حفظت اليوم؟ .

- جزء عم .

- ما شاء الله .. سمعني حاجة .

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم، عم يتساءلون، عن النبأ العظيم ..

 

لم أدر ما الذي أيقظني أولا، أهو صوت الرضيع في حضن أمه؟، أم صوت الرصاص المنهمر كالمطر في يوم عاصف؟، نظرت إلى زوجتي نظرات خوف وتوجس، فلمست الشيء ذاته في نظراتها، صرير الباب في غرفة أبي جعلني ارتدي ملابسي على عجل وأسرع بالخروج إلى فناء البيت، رأيت أبي متكئا في ركنه المعتاد، ينفث دخان لفافته بصمت وترقب، ألقيت بالتحية عليه، فأجابني وعاد لصمته .

- أيش القصة يا با؟ .

- قصة طويلة وما هو باين لها آخر .

- ربنا يستر .

- فوت يا رجل أنت وابنك .. خلي الليلة تمضي ع خير .، جاء صوت أمي من داخل الغرفة ضعيفا منهكا .

- وكليها لله يا حرمة .

وقع أقدام قريبة وصل إلى مسامعنا للحظة ثم انقطع، نظرنا إلى بعضنا نظرات ملؤها الخوف والتحفز، ثم زحفنا بحذر شديد نحو الباب، أرهفنا السمع أملا في تكرار الأمر مرة أخرى، فلم نسمع سوى صرير خافت لباب قريب،لا ندري إن كان أوصد أو فتح .

لحظات قليلة هدأت بعدها حدة الجلبة التي حطت على المبروكة من دون سابق إنذار، وكأنها حدثت خصيصا لتقصدنا، لدرجة أن قالها أبي صراحة: يخرب بيتهم .. هم باقين يستنونا !.

شيئا فشيئا بدأ يخفت صوت الرصاص المنطلق من أماكن متعددة، بعضها قريب حسبناه عند طرف الشارع وبعضها بعيد كأنه آت من حدود الكوبانية، لكن الجلبة الناجمة عن الجند وعرباتهم لازالت تشق هدأة الليل وإن ابتعدت قليلا عن حينا، نظرت إلى أبي وسألته قائلا:ما بدك تريح شوي؟ .، فنظر إلى السماء وأشار بيده قائلا: نجمة الصبح طلعت .. ما ظل فيها نوم .

تركته وقصدت كومة الحطب المركونة إلى جوار الباب، فاعتقد حينها بأني خارج لأستطلع الأمر، تبدلت سحنته وكاد أن يناديني، لكنه عدل عن ذلك حين رآني ألملم بعض العيدان في يدي، اتكأ في مكانه بارتياح أكبر من ذي قبل وأشعل لفافة أخرى راح يتابع من خلف دخانها المنبعث كسحابة صيف صغيرة، حركة أصابعي وهي تعرش العيدان فوق بعضها البعض حتى يسهل إيقادها، ثم قال بارتياح بدا واضحا في نبرة صوته: ثقل القهوة .. الله يرضي عليك؟ .

مع انبلاج النهار وضع أبي عباءته على كتفه وقصد الدكان، فتح بابها الذي عانده قليلا وراح يتأمل محتوياتها، أزاح الغبار عن بعضها وأمرني أن أعيد ترتيب بعض الأشياء المبعثرة، ثم همس قائلا: ضروري نجيب بضاعتنا من يافا .. البضاعة هناك أرخص .

أومأت برأسي مؤمنا على كلامه، فشغله عني سلام طرحه أحدهم، مر من أمامنا على عجل فلم أميز صوته ولم أحدد ملامحه، كان الرجل مسرعا في خطاه، لكن أبي كان أسرع في الالتفات إليه، فما أن تحقق من شخصه حتى لحق به ونادى عليه:مسعود .. مسعود .

 استدار الرجل وتوقف على مضض، فتأكدت حينها من هويته، تتبعت ملامحه وهو يحدث أبي بشيء من التوتر والانفعال، ثم تركه ومضى على نفس الشاكلة التي مر بها من أمامنا، بينما عاد أبي ساهما مطرقا كأن هموم الدنيا قد تجمعت فوق رأسه، أخذ مجلسه بباب الدكان وغاب في الصمت .

لحظات لم أجرؤ معها على الاقتراب منه أو حتى سؤاله عما حدث، إلى أن لملم عباءته مرة أخرى وأقبل علي قائلا: واصل دار المختار شوي .

- خير إن شاء الله؟ .

- من وين نشوف الخير والإنجليز مش عاتقين حد فينا .. حتى نسوانا سجنوها .

- نسوانا !

- معتقلين حرمة الغلبان اللي شفته قبل شوي .. قال مسكوها بتسرق من الكمب .

- يعني كل الضرب اللي سمعناه الليلة كان عليها .

أومأ برأسه ومضي .. تبعته بنظراتي المشحونة بالأسئلة والهواجس .. تذكرت يوم أن عاد من المعتقل .. قفاه الذي يقابلني أعاد لي صورة ظهره المحفور بفعل الكرابيج التي انهالت عليه .. يد المبروك وهي تحاول جاهدة تضميد الجراح و نار الألم الذي يغرس أنيابه في كل موضع من جسده .. قسمات وجهه الشاحب وآهاته المكتومة مع كل لمسة تمس تلك المواضع، تساءلت حينها إن كانت ستلقى المصير ذاته وهل ستقوى على تحمل ذلك الجحيم المنصب على جسدها الرقيق، بالتأكيد أجبت بيقين مرده تلك الشجاعة التي مكنتها من اقتحام الكمب ونهبه، فمن تملك هذه الشجاعة، تملك القدرة على التحمل والمقاومة .

بعيد العصر بقليل جاء أبي برفقة عدد من الرجال , كان من بينهم صهري ومسعود زوج المرأة المعتقلة، ظل الجمع في طريقهم رغم دعوة أبي لهم، ما عدا صهري الذي أقبل علي باسما وقال بتندر مقصود: طلعت أسبع منه يا أبو نسب .، وغمز بعينه تجاه أبي الذي ابتسم بدوره ولم يعلق، لكنه كان أفضل حالا من اللحظة التي تركني بها رغم بوادر قلق وحيرة لازالت عالقة على ثنايا وجهة وتجلت بوضوح أكبر حين سأله صهري مستفسرا: بالك من الحرمة اللي كانت معها؟ .

- لا تتعب حالك.. المهم إنها نفدت واللي مسكوها تكفلها المختار وروحت.

- يا خوفي لتكون من حينا .

- أو تكون من .. .

صمت أبي ولم يكمل .. توقف عن الحديث فجأة وكأنه استدرك سرا لا يريد الإفصاح عنه، بينما ظل صهري ينظر إليه بحيرة وذهول، حتى فاض به الأمر فسأله قائلا: يا رجل أنت غاوي نكد؟.. إذا تركوا الحرمة اللي مسكوها بدهم يدوروا ع اللي ما مسكوها .. بكفي عاد سم بدن حرقت اللحم اللي أكلناه .

- أنت مش فاهم ولا حاجة .

- وما عندي استعداد أفهم .. بكفي نكد .

ابتسم أبي محاولا مراضاة الرجل، فما كان من الأخير إلا أن نظر إلي وقال: دلة قهوة سادة يا عمي .. خلينا نذوب الشحم اللي رابض على قلوبنا.

فما كان من أبي إلا أن نظر إليه وعلق قائلا: من حقه يا بني .. أكل الخروفين لحاله .

فنظر إلى أبي وهز رأسه ثم غمز قائلا: المختار ذبح خروفين وحضرتك ما ذبحت بطتين .

- لو جاني ولد لذبحت عجلين .

- وابن أبنك؟ .

- لا يوفقك ربك .. والخروف اللي طفحته قبل جمعة .. ولك دمه بعده ما نشف .

- خروف ! .. الولد لازمه خروفين .

- خلص الخروف الثاني عليك ولا هو مش أبن بنتك؟ .

مالت شمس ذلك النهار إلى المغيب، فالتفت إلي أبي وحثني على تجهيز لوازم سفرنا، حينها استأذن عمي ووقف مودعا، صافح أبي أولا ثم أقبل علي، ضمني وهمس قائلا: خليك رجال وما تنقل هم البيت .، ثم تركنا ومضى في سبيله، بينما ظل أبي جالسا في مكانه ينتظر انتهائي من المهمة التي كلفني بها، فتناهي إلى سمعي صوت صفية زوجة الشيخ إبراهيم الصغرى وهي تلقي بالسلام عليه، في البداية حسبتها ماضية في طريقها إلى البيت، لكن وقوفها المباغت وحديثها الهامس مع أبي، جعلاني أرهف السمع قليلا: صحيح اللي سمعته يا عم؟ .

- صحيح يا صفية .. تكفلها المختار وروحت .

- الله يبشرك بالخير .

- شايفك ناقلة همها .

- يوه مش خالتي يا عمي !.

- آه صحيح .. على فكرة طلعت مستورة وما قرت عنك .

-

- مالك تغير لونك وما بتردي؟ .

- غصب عني يا عم وعمري ما أعيدها .

- أنا قلبي حس من حينها .. من ساعة ما رد الباب قلت أنت، شو اللي كان ناقص عليك حتى تبهدلينا وتتعبي الشيخ إبراهيم في قبره .. ولا أنا قصرت معكم؟ .

- توبة يا عم .. عمري ما أعيدها حتى لو أكلنا قلوع الصبر .

- خذي هذا المبلغ توسعي فيه ومن بكرة تفتحي الدكان بدل حليمة ..عرفات ابنك صار رجل ويقدر يساعدك .

- ربنا يخليك يا عمي ويمد في عمرك .، ثم انكبت على يده تحاول لثمها، فأسرع في إبعادها وهو يردد قائلا: استغفر الله .. استغفر الله .. روحي يا مستورة وراح أبعث لك مفتاح الدكان بعد شوي .

مضت المرأة وهي تلهج بالدعاء له، بينما انشغل هو بمتابعة خطواتها إلى أن انزوت في الزقاق المؤدي إلى دارها، حينها أقبل علي وسألني قائلا: سمعت شي؟ .

- لا .

- ابن أبوك يا ولد .. أحسن حاجة في الدنيا لا شفت ولا سمعت .

 

حين حطت بنا الحافلة في موقف باصات بامية القريب من سوق الدير، كانت الأمور على غير عادتها، السوق شبه خال من المارة والباعة .. رجال الشرطة من العرب والإنجليز ينتشرون بكثافة لم نشاهدها من قبل .. يدققون في الملامح .. يستوقفون البعض أحيانا .. يتركون من حالفه الحظ ويقتادون من خالفه إلى عربة تقف في زقاق قريب .

نظر إلي أبي وقد بدا التوتر على محياه ثم قال: أسرع بينا لنبعد عن المكان .

دخلنا إلى زقاق في السوق ومنه إلى شارع أوسع، ثم إلى ثان يشبه الأول، خشيت أن نضل طريقنا وحين عبرت لأبي عن تلك المخاوف هز رأسه وقال: المهم نبعد عن السوق وبعدين يحلها ربك .

لم يطل تيهنا كثيرا، فما أن أتم أبي كلامه، حتى مرت من أمامنا عربة حنطور كتلك التي يملكها المختار، نادي أبي على الرجل فتوقف في الحال، سأله إن كان راغبا في إيصالنا إلى سلما وأخذ الأجر الذي يريد، فأطرق الرجل قليلا ثم قال: اطلعوا .

في الطريق سأله أبي عن سر الانتشار الكبير للجند والشرطة في المدينة، فرد الرجل بنبرة لا تخلو من ألم: أصل اليهود مش فاكين عنا .. كل يوم وهم طالعين بقصة وحكاية .. المرة هذه صار حايط البراق ملك أبوهم .. ما كفاهم كل اللي نهبوه منا، لاحقينا حتى في دينا ولإنجليز الملاعين سايقين معهم .

_ ربنا يجيب اللي فيه الخير . عقب أبي قائلا .

- أي خير وامبارح صار الدم للركب .. في القدس عشرين شهيد وفي يافا عشرة وحيفا ما بعرف خمسة ولا سبعة .. اليهود مش فاكين حتى يحرقوا الأخضر واليابس .

عند الباب الكبير توقفت العربة، ناول أبي الرجل أجرته التي أراد، ثم حملنا أغراضنا ودلفنا إلى الداخل، كان الباب مفتوحا على غير عادة، لكنه لم يثر لدينا الكثير من الاهتمام، خصوصا أن الفترة الأخيرة شهدت الكثير من الحركة والنشاط داخل البيارة، غير أن الذي أثار انتباهنا على نحو ملفت، هو خروج عدد من المسلحين من بين الأشجار قاصدين الشارع الرئيس.. فاجأهم حضورنا المباغت تماما كما باغتنا بزوغهم أمامنا، .. ألقى أحدهم بالتحية، ثم مضوا في سبيلهم .

كانت بقايا المفاجأة ماثلة على وجوهنا لحظة أن قابلنا سالم بوجه بشوش وابتسامة عريضة .. أقبل علينا مرحبا وقد لمس بفراسته ما يعترينا من تساؤلات، صافح والدي أولا، ثم أقبل علي وسأل مستوضحا: قابلتم الشباب؟ .

أطرقنا لبعض الوقت، ثم رد أبي قائلا: قابلونا .

- ما ثقلوا عليكم؟ .

- لا .. حيونا وظلوا في طريقهم .

- أصلهم جماعتنا .. مثل ما تقول منا وفينا .، عقب سالم بارتياح لا يخلو من مباهاة .

تكرر الأمر في الأيام والأسابيع التالية مع تبدل بعض الوجوه، كانوا يمرون في وضح النهار أحيانا كأي جماعة من الناس تبحث عن قوتها .. يختلون بسالم لبعض الوقت ثم يمضون وأحيانا يأتون في الليل بكامل سلاحهم وعتادهم، يتسامرون حتى بزوغ الفجر، وفي بعض الأوقات يكون حديثهم همسا، فلا نشعر بوجودهم، إلا إذا جاء الأمر صدفة أو حدثنا به سالم في اليوم التالي: أصل الجماعة كانوا عندي الليلة .. طلعوا من هان والبلد ولعت من هان .

خوف أبي من القادم المجهول كان واضحا، رغم حرصه الشديد على مداراته عني، حتى بعد أن أبدت الجماعة بوادر ارتياح نحونا، ظل أبي على موقفه هذا، إلى باغتنا كبيرهم ذات مساء ونادى على أبي، فنظر إلي حينها نظرات ملؤها الشك والحيرة .

- أنت مبعد لحالك ليش؟ ولا ما تحب تقعد معنا؟ . قال الرجل وهو يقف مرحبا بأبي

- ما نستغني عن الناس الطيبة . رد أبي باقتضاب .

- أبو حسين من الرجال المعدودة يا أبو فهمي . قال سالم مخاطبا الرجل الذي بدا من مظهره وطريقة حديثه مع الرجال من حوله بأنه زعيمهم .

- كان حقك تعرفنا عليه .. ولا كيف يا رجال؟ .

- أنت ما طولت بالك علي، على كل حال أبو حسين من الرجال المعدودة في المبروكة .

- أنت أبو حسين نصار؟ . سأل الرجل بشيء من الترقب .

- إن صدقت الوالدة .

- سبق وحبسوك الإنجليز؟ .

- نعم .

- يبقى أنت بعينك . وقام الرجل ليحتضن أبي ويصافحه من جديد وسط ذهول وحيرة من قبل الجميع، بما فيهم أبي الذي بدا مأخوذا بهذا التبدل السريع والمباغت .

- لكن بلا صغرة .. أنت مين؟ . سأله أبي مستفسرا .

- أنا خيري أبو الفضل .. أخو سعيد اللي كان مسجون معك . قال الرجل مداريا دموعا تحتبس في مقلتيه .

- سعيد .. يا حي الله .. يا حي الله .. وكيف أخباره؟ .

صمت الرجل لبرهة من الوقت كما لو كان يبحث عن إجابة لهذا السؤال الصعب ثم قال: تعيش أنت .

- سعيد مات !.

- قتلوه اليهود قبل شهرين في اشتباك دار بينا وبينهم عند نقطة نيتر .

أطرق أبي لبعض الوقت، ثم أخرج كيس تبغه ولف لفافة، سحب منها عدة أنفاس متلاحقة، ثم رفع رأسه وقال بصوت أجش: الله يرحمك يا سعيد ..كنت سيد الرجال .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1190 الاربعاء 07/10/2009)

 

 

في نصوص اليوم