نصوص أدبية
قرطاس القبر / سعد الصالحي
وأهملُ وجه الأهلة الشاخصة في معظم الأشياء حولنا، ثم فوجئتُ بها تهمسُ متنبئة :
- ما تنظرُ إليه تطولُ حياته، ولا تتلفظْ باسمه فإنه يكون !
طويتُ يدي ورحتُ أحدقُ في وجهها بعد أن لملَمَتْ أطرافَها وفقدتُ لمسَ أناملها، إذ تناهتْ لي بصوت يحتد وجسد يمتد بلا حدود إلى أصدقاء بعيدين، وحقول خضر، وقلب يمتليء بما يشير إلى قبر في أقصى البلاد .
قلتُ:
- كيف ذاك ؟ وما اسمكِ؟
قالت:
- إن الكائن الذي نطقتُ لك باسمه موجود، فاربطْ على بقاياه خرقة خضراء . إعلمْ أنه شيد بيته من القصب بوصيد يستقبل شروق الشمس، ثم ملَّطَه بالطينِ لتراهُ والأفقَ بلا اختلافٍ كاستواء الأرض بالماء .
إستدركتُ عقب ذلك بأيام دفنه بعد خرابه على جنبه الأيمن برأس يتجه نحو الشرق بين عدد هائل من القبور، واختلاف الناس على اعتباره من علية القوم أو من (السادة) ..! وعلى الرغم من أن الرأي الأول ظل لدي هو الأرجح – حتى أتت به القصص – فإني طفقتُ أدون ملاحظاتي التي اتخذت حيوية إستدعتها شفرات السيدة الغريبة في القاعة . أكان عليه أن يترك بقاياه بكل هذه الأشكال ليفتح باباً للتاريخ واحتمالاً للأزل؟ مع أن رطوبة الأرض كانت تقلل مناعة ماتبقى من اللبن والآجر في قبره . ترى أين ذهبت به تلك الرياح وما نفع كل هذه الحرارة؟
كنتُ – وأنا الأكثر التصاقاً بما يريب – أُرعبُ من آثار الدهور التي جعلتْ حافات الحجارة المدببة تمتد إلى حافات وأوجه الأقراص في أجواف الكومبيوترات، أنا من يستعين ببسمة متشحة بالسواد للإقتراب خفيفاً من عالم الناس، لذا تركته والشفرات مغادراً إلى حناجر الغجريات السائمات بين القصور والخيام، حتى التقيتُ بإحداهن وهي تلتهم الثريد حقاً كالغجريات من دونما اعتبار لمن يحيط بها من المتعلمين وأنصاف المثقفين والمتقاعدين وأرباب القدرة على القتل لأتفه الأسباب . إنتبهتْ لي وقالتْ :
- إنك لا تنتمي إلى هؤلاء
إبتسمتُ وناولتها فخذ دجاجة محمر مسترسلاً بافتراض حديث معها في زحمة الآخرين :
- ما أطيب الشهية بعد الغناء !
كنتُ في غفلة تلك اللحظة قد تخلصتُ من عبء ما يحيط بي، ونفذتُ من رعب الضيافة متسلحاً بما ظل لي من قوة على ترتيب المعاني بعد هز الأرداف، وقرع الكؤوس، وتقيؤ الآخرين، دهشاً بمن فاجأني وهومواجهاً لي على جفنة الثريد ومعقباً على الشهية بعد الغناء، يسائلني :
- كيف وقد مرت هذه السنين بعذاباتها ووطأتها بأطفال يذبلون وشيوخ يحتضرون وأنت على ماعليه قبل هنيهات كنتَ ثملاً تستفسرني عن قبر سيدنا (هاشم) في غزة وعن سواحل يافا ؟ ثم من أنبأك بفلسطينيتي ؟
حينها تذكرتُ أن لطالما ظلت الحيواناتُ أكثر إتقاناً منا في حدس الخطر ! فنظرتُ مشيحا عنه إلى تلك الغجرية بجسم الأنثى وهيئة القردة ووجه اللبوة، كأن فيَّ كل بدايات الرعاة وأجبته :
-1-
- ما يضيرك إذ تسمر المظهر وقد مضى أوانه ومضى عصره وتجمعت حوله الأساطير فهيأت عقولنا لتجعل منه ذِكْراً ؟ إنه بعيد، وما أبعد المسافة بيني وبينه، لكن الكثير منا لا يتوانون في التساؤل عن أي شيء ليعودوا إلى ما خطته لهم أساطيرهم، أعتذر عن بدايتي الخشنة ولا أعتذر عن إعجابي بإتقانك السؤال .
لكني أضفتُ في سري (كيف يمكن خلق حرية حقيقية طالما ظل هناك قرّاء وكهنة ومفسرون ينبثقون حتى من بين أرداف الغجريات ؟!) .
هكذا كان ينبغي علي المرور عبر العالم – كل العالم – لأثبت لنفسي عزلتي عن الآخرين . ولأني أدرك بشكل خارق معنى بعض ما يريبني غفلة بين الحين والحين، فقد عدت في اليوم التالي إلى القاعة بحثاً عن سيدة الشفرات بدافع شيء يهمني كثيراً . مررتُ بالعديد من الشواهد التي تنبي عن أولئك الأبطال في هيئات تجمع بين رؤوس البشر وأيديهم وبين أجسام وقرون الفحول . ولمحتُ فيما مررت به شاهداً لرجل يتقدم بسنبلتي شعير إلى ستة رؤوس من ماشية معبد مدينة مقدسة، قلتُ إنه العقل الرائع صاحب الأخطاء المقدسة، وهو ليس ما أريده، بل ما أدين له . فأبرقتُ لفراستي، أتراه كان كاهناً ؟ وإلى أي حد كان ملكاً ؟ وبين الآونة والآونة وبين الأروقة، ظهرتْ كما هي ببهائها ووجودها الهلامي مجيبةً على ما في فراستي :
- ألم ترَ أن الناس كما كانوا يعتقدون أن المعبودات تشاركهم إنتصاراتهم، كانوا يعتقدون أنها تشاركهم أخطاءهم أيضا ؟
قلتُ :
- لكنه وحده أضفى على حياته مغزى وهو لا يعرف مايريد، إذ أسرى إلى فلسطين لأمر لم يسجله أحد ما، وظلت آثاره كبيرة، أكثر بقاءً من غيرها، كالعاصفة الهادرة والطير الجارح !
قالت :
- إبتعد
قلتُ :
- إقتربي
قالت :
- إبتعد
قلتُ :
- إقتربي
قالت .. إختفت .. واختفى مني ذاك الإلتصاق بما يريب لأني كنت الأكثر حباً، والأكثر شجاعة، والأكثر جبناً في الوقت ذاته ! .. ولنغمة ما خالصة ظلت ترن فيَّ (إذا كنتَ ناجحاً وأثثتَ بيتك، وكنت تحب زوجة قلبك، إملأ بطنها وإكس ظهرها، وأدخل السرور على قلبها طوال الوقت الذي تكون فيه لك، ذلك أنها حرث نافع لمن يملكه، وإن عارضتها كان في ذلك خذلانك) .
جلستُ قرب زوجتي وأخبرتها بتفاصيل القاعة وتأملاتها، وما نبا من أحلامي عنها، مضمراً شفرات السيدة الغريبة، ومثيرا فيها التساؤل عن بقية أجدادنا، فاسترسلتْ وهي تخلط الطحين بالسمن المذاب لليلة العيد أن أمي أخبرتها (بأننا خلقنا منعمين سعيدين، ثم أذنبنا وارتكبنا الخطايا وعدنا لانعرف شيئاً عن خبز يؤكل أو ثياب تلبس، فكان الناس يمشون مكبين على وجوههم، يقتلعون الأعشاب بأفواههم ليقتاتوا بها كما تقتات الأغنام، ويشربون الماء من حفر في الأرض . ولم ينج من أسلافنا سوى الحائك . وأن هذا خسر خلوده لأنه أكل من فاكهة شجرة محرمة وأفقدنا ما كنا نجد فيه آخر حصن روحي وطبيعي يعصمنا من الغواية والغزاة) .
-2-
من تلك الحروف البريئات المطعمات بنكهة الهيل والحبة الحلوة المنبثقة من فم زوجتي ترسختْ فيَّ بداية ما نشأ من اختلافات يخطؤها الحصر، والتي أعادتني للبحث عن قبر في أقصى البلاد مردداً مع نفسي (يالسعادتي لو تخليتُ عن كل شيء) ! .. بيد أن صدى شفرات السيدة بقي يرن ويفجر التحدي سيما بتلك التي تقول فيها (ألأيام الخوالي منحوسة بأيامكم التي بلغتْ الحد الأقصى من الكمال) ..
قلتُ سأنبش في تلك الأيام مبتدئا يأروع ما خلفته، الكـــــــــتابة، مذ كانت صوراً للأشياء حتى صارت رموزا للأصوات، ثم شعارات على جدران آيلة للسقوط، ذلك أن أمي الأمية جداً قالت : (إن رغبة أهلنا في الأمن جعلتْ من حجراتهم تطل على الداخل بدل أن تطل على ما يحيط) وأضافت (لكني لا أنكر أنه كان أيضاً تخلصاً مما تعج به ضوضاء الإنسان، لذلك ظلت جدراننا تميد بنفسها إلى الخارج، حتى أن بعضها سقطت على من يتكيء معتصما بها من جريرة أو ملاحقين) .
وحين عدتُ إلى كتب السيرة وجدتُ أن صاحب القبر كان معرضاً قي كل وقت إلى أن يُقضى عليه بنفس الوسائل التي قضى بها على أعدائه، وكان محترساً بوصيده الذي لا يتسع لدخول اثنين، ومخابيء على جنبيه يؤدي فيها طقوسه دون أن تراه الأعين أو أن يغفل إداءها دون أن يعرف الناس عن هذا الإغفال شيئا . ذلك أنه أسر القلوبَ ولقب بالأسد وأنجب الأسود واحتبى لنفسه أجمل النساء بشهية أشهى من الشهد ونفَس ينافس مطلع الفجر وفرض بقاءه على آخر شعائر الموتى . وبوحيه تخيلتْ أجياله السماء والأرض ملتصقتين بمحيط مائي عظيم تَبَقَّـــى من استواء بيته مع الأفق والماء .وتمهلوا مع الزمن حتى تتاح لهم فرصة الظهور والغلبة مرة أخرى منذ أكثر من دهر .
ثم رحتُ أبحث في بقايا ما يحيط بالقبر من صفوف أحجار متراصة وقشور بيض ورمل أحمر، حتى وقعتُ ببصري على صورة حجر نقش عليه مركز دائرة في صفحة بخطوط مائلة، تكاد تقرب من هيئة الأهلة وهيئة الصليب المعقوف ! فارتدتْ إليَّ صور أولئك المتسائلين عن معنى الرموز، وأولئك البعيدين على قارعة الرشيد وخلف واجهات مقهى البرلمان، رحيلاً حتى بويب وجيكور والحقول الخضر والتساؤلات والزوال وقمر شيراز وبستان عائشة، لأجد نفسي مستعيداً النظر بموقف المتفرج في صفحة قرطاس أناظر بكلماتي ألقاب ملوك و(واجهات براقة) كهامة مجنونة، تنفرد بعدما انتهى الأمر أمام أطفال ينقشون التيجان على وجه العجين ويلصقون أشكال القرون كنهرين يلتقيان في رأس واحد .
أما حجارة القبر، وحكايات زوجتي، وطلاسم أمي، وشفرات السيدة الغريبة، فقد انزوتْ كلها في فلوق نخل قصيرة، وحديقة أوراد صغيرة، ترتسم على ما كان في نفسي واجهة البناء التي تخفي وراءها أشلاء القتال، ربما في بيتي، وربما حول قبر ما برح الأطفالُ على جنبيه .. يقذفون اليهود بالحجارة .
1999
تكريت
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2051 الثلاثاء 06 / 03 / 2012)