نصوص أدبية

مطر ملون / حكمت مهدي جبار

وبضعة فسائل من نخيل وأحراش القصب المدغل فوق تلة تطل على ضفاف النهر الخالد.

كان الصبية يتلذذون بمشاكساتهم .يتقافزون بدشاديشهم (البازة)المقلمة، يرتفعون عن ألأرض فتبدوا سيقانهم السمراء وهي محملة بالتراب لتعود هابطة لحظات قصيرة كلمح البصر حتى ترتفع مرة أخرى، من ثم تبدو مؤخراتهم دون أن يشعروا بالحياء الا اذا نهرهم أحد...قفزات لم تتوقف..في دنيا تضج بالفرح الساذج، والأرواح البريئة

يزداد حماس الصبية في صخب يتصاعد مع كركرات وضحكات يسيل على اثرها أللعاب فوق الشفاه، وخيوط المخاط يتطاير على الوجنات.ففي الشتاء لم يشعر هؤلاء بشيء رغم قساوته.لأنهم اعتادوا على لسعات برده ونقرات حبات مطره الوابل..انهم لم يهربوا من المطر..انما فاضت بهم النشوة وراحوا يغنون لصخب الطبيعة ..

ينسل الصبي النحيف من بين الجموع الزاعقة.كمن يتخفى لمراقبة أمر ما.يهرع نحو بيته .يلج غرفة معتمة..يتلاشى جسده في دخان الموقد المستعر ليصنع الدفء للماكثين ما بين الجدران الطينية.في العتمة تسكن ألأشياء.وثمة رائحة طيبة تعبق من بين (صفطات) الأفرشة وطيات ألأغطية السميكة.كان الصبي يدندن متسائلا:-- - أين ذهب دفترالرسم؟

لامست أصابعه حافات دفتر ذو ورق منتظم ناصع البياض محشورا مابين الأفرشة المتراكبة بعضها فوق بعض. سحبه ليزيح عنه بقيا غبار.أدلف الى مكان كمن يعلم بما أخفى فيه .فأخرج علبة ألأصباغ.ليضعها جانبا قريبة من يده.

كانت السماء عباءة رمادية يتموج فيها السحاب، تغلف الكون وهي تحجب أشعة الشمس.والمطر لم ينفك عن الهطول.ألا أن هاجسا بدأ يتسلل الى خيال الصبي ليدفع به نحو الرسم.

-         الى أين؟؟ أأنت مجنون؟ من يرسم تحت وابل المطر؟

-         هي ..هي ..مخبل.

-         رسام ........

-         ماذا تريد أن ترسم؟ هل ترسم الريح العاصف؟أم المطر الغزير؟

الطبيعة المجنونة تراود مخيلته .وزخات المطر تعزف سيمفونية تسحره . ما أن أخرج ألأصباغ حتى ظهرت فجوة بهية في افق السماء العالية عندما تلاشت سحابات رمادية مثقلة بالمطرلم يسقط.انبثق من تلك الفجوة شعاع الشمس المصطج ليتجه بخطوطه الذهبية الى اديم ألأرض المخضرة..ثمة قطرات بدأت تنزل بحياء من غيمة أخرى .تنقر وجه ألأرض ليتصاعد رويدا أيقاع بديع يتناغم مع هسهسات نسيمات هواء يلاعب ذؤابات النخيل وأطراف أغصان الشجر..موسيقى .تبدأ حركتها .تأخذ هداها من الحان مملكة الأنعكاسات الضوئية من منحنى القوس قزح عنما اخترقت اشعة الشمس المطر.

حار الصبي أي شيء يرسم.وهو لم يأبه بزعيق زملاءه الصغار، الذين غرقوا في صخب عال .الا أن احلام الصبي مازالت عريضة تتسع مع اتساع ضوء الشمس وهو يعاند الغيوم.مابين يديه ألأقلام الملونة يرنوا ليرسم مايرى من مهرجان الطبيعة الصاخب..كانت كل ألأشياء أمامه ترقص .اصدقاءه الصغار.والحملان.والعصافير.والقطط.وأوراق أشجار التوت.وسعف النخيل. لايبدو لعينيه سوى قرية تبتهج بالمطر وتنشد لربيع خصب.

لم يبرح اصدقاءه الصبيان مكانهم.لينتشوا بنقر زخات المطر.مندهشين بألوان زاهية تتلألأ في افق السماء قبالة قرص الشمس البهي.فيتلون المطر بالزرقة والحمرة والصفرة.والصبي الرسام ساكن في هدوء باهر عميق يتأمل ألأشياء.كل شيء أمامه جميل.وفي روحه توق للأندماج في الطبيعة .شوق في أن يصب الوانه على أوراقه العذراء ليرسم الشمس والمطر والغيوم العالية وفرح العصافير.نشوة تتصاعد في ثنايا صباه.

وضع قلما ملونا وسحبه على وجه الورقة .ثم سرعان ما تراقصت اقلام أخرى بيده وكأنه عثر على ضالته.راح يرسم بفرح.منذهلا بجمال الكون والطبيعة .تتناغم الوانه مع اغاني اصدقائه الذين لم ينقطعوا عن الرقص تحت المطر.ظل الصبي يرسم منقطعا عن وجوده المادي.والمطر اللذيذ ينزل قطرات ملونة تضمه الحشائش الخضراء والشمس لم تبخل بنورها الباهر لتضيء كل شيء.

سكتت افواه الصبية.وتوقف المطر .وانجلت الغيوم.انتهى الصبي النحيف من آخر لمسة لورقة الرسم الصغيرة.عرضها لعيون اصدقائه الصغار.هرعوا اليه .تزاحموا على ورقة الرسم كل يريد أن يمعن نظره فيها.صفقوا له .وأثنوا عليه.عندما ابقى المطر ينزل ملونا.

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2051 الثلاثاء 06 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم