نصوص أدبية

إسـورة الصـنوبر/ سلوى فرح

لم أستطع فهم كلمة واحدة مما شرحته معلمتنا "هند" في ذلك اليوم.. كنت منهمكة للغاية في عَدّ القروش القليلة التي كانت في جيب مريولي البيجي العتيق من أجل شراء هدية لأمي في  يوم عيدها.. بعد عدة محاولات من البحث اليائسة اقتنعت بأن عدد القروش الموجودة بحوزتي لا يكفي  لشراء الثوب المزركش الذي كانت أمي تحلم بارتدائه وأن تتزين به أسوة بباقي النساء في القرية، وقد رأيته في أحد محلات الملبوسات في القرية، وأنا برفقتها وسمعتها حينئذ تردد كلمات الإعجاب به.. استسلمت للأمر.. انتظرت حتى قرع جرس المدرسة إيذانا بانتهاء الدوام المدرسي.. حملت حقيبتي المدرسية.. وخرجت من صفي الثالث الابتدائي مطأطئة رأسي.. حزينة.. محبطة والدموع تترقرق في عينيّ.. والغصة تنهش صدري.. توجهت إلى شجرة الصنوبر الملاصقة لسور المدرسة.. جلست تحتها.. لا أعرف كيف أتصرف..قروشي قليلة لا تفي.. وأنا طالبة صغيرة لا زلت.. لا أملك وسيلة أخرى.. و لم أحصل من أبي  في هذا الشهر  على النقود الكافية نظراً لكثرة التزاماته، ومسؤولياته المعيشية تجاه أسرته المكونة من تسعة أنفار ناهيك عن دفع أجرة البيت الشهرية وتسديد مصاريف إخوتي المدرسية.. وكنت أنا البكر وأكبرهم جميعا و أحس بمدى المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتق أبي، وأتفهم مدى حاجة أمي لهدية ولو رمزية في مثل هذا اليوم الذي تحتفل به كل الأمهات في العالم.. مع أن هذه المسؤولية هي أكبر مني لكنها كانت تقرع في داخلي وتحثني على شراء الهدية كقرع جرس المدرسة.. 

نظرت إلى أعلى شجرة الصنوبر.. رفعت يديّ نحو صدري.. صلّيت وتَضرَّعت إلى الله أن يساعدني على إدخال البهجة والسرور في قلب أمي المهمومة، وأن أزيح بعضاً من الهم عن صدرها المغموم بهدية رمزية في يومها..

فجأة لمعت في ذهني فكرة.. تذكرت كلام جدتي عندما كنت عندها خلال العطلة المدرسية الفائتة وكيف علمتني أن أحيك عقداً جميلاً من أوراق شجرة الصنوبر الإبرية.. قمت على الفور بجمع كمية منها.. وقررت صنع إسورة لأمي منها.. فكنت أدخل ورقة الصنوبر إبرية الشكل في جذع الورقة فتتشكل حلقة مترابطة مع ثانية وثالثة متتالية  جميلة الشكل، وهكذا دواليك حتى غدت إسورة فعلا خلابة خضراء زاهية.. فرحت بها .. وعدت إلى المدرسة.. قطفت عدداً من بتلات ورد الجوري وصنعت منها ظرفاً صغيراً مزيناً بالقلوب.. وضعت الإسورة الصنوبرية بداخله.. فصارت الهدية خلابة المنظر.. هرعت مسرعة إلى البيت قبل عودة والدي وإخوتي من مدارسهم كنت أريد مفاجأة أمي بها.. قرعت الباب لكن أمي لم تسمع بسبب انشغالها وانهماكها في أعمالها المنزلية المتنوعة..

وقفت أتأملها.. أراقبها  من خلال الشباك.. وأيقنت أنها لن تسمعني وهي تخوض معركة طاحنة مع بابور الكاز حيث  تارة  يختنق ويخبو فتنكشه فيتدفق الكاز كالنافورة ، وتارة أخرى يرتفع لهيبه، وهكذا حتى هدأت حالته وتمكنت أخيراً  من وضع الطنجرة النحاسية عليه لطهي الطعام.. وشاهدت خلال هذه المعركة كيف كانت تكويرات العجين تتمدد وتترنح على صينية  القش تنتظر دخولها في بطن التنور وأن يلتهما شوق لهيبه المستعر .. ولا زلت أراقب أمي عن كثب من الشباك ماذا تفعل وكيف تكافح في حياتها..

أثناء ذلك انتقلت لأداء مهمة أخرى.. أحضرت طشت الغسيل جلست حوله القرفصاء.. وانكبت على غسيل الملابس بيديها المبللتين على وقع أنغام صوت ببورها.. كم كنت أشفق عليها وأنا أرى العرق يتصبب من وجهها كقطر الندى يداعب خديها الورديين..    ليس لديها الوقت الكافي لتتذكر عيدها السنوي..

 تسللت من على سور البيت كالعادة واتجهت نحو أمي خبأت الهدية التي أعددتها خلف ظهري.. ناديتها: يا أماه.. يا أماه أحضرت لك مفاجأة..أغمضي عينيك.. ففعلت .. عندما فتحت عينيها فرحت كثيراً.. و بكت كثيراً عندما قلت لها: كنت أود أن اشتري لك الثوب الذي ترغبينه لكنني لم أملك النقود الكافية فصنعت لك هذه الإسورة كما علمتني جدتي.. احضنتني بحرارة وقبلنا بعضنا بعضا وهنأتها بعيدها..ثم ساد البيت حالة من الصمت لكن نوبات ببور الكاز أعادتنا إلى واقع الحياة فقمنا بإنهاء الإعمال المنزلية معا وساعدتها في عملها ..

مرت الأيام ورحل عهد الببور والتنور وطشت الغسيل..  وها أنا الآن أعيش في بلاد التكنولوجيا، ولكن كل أنواع الخبز الإفرنجي التي آكلها لم تشبع  روحي كما أرغفتك السمراء يا أمي،  ورائحة التنور ما زالت عالقة في ذاكرتي حتى طعامك المطهي على ببور الكاز له نكهة خاصة ما أزالتها مباهج الغربة.. كما أن رائحة غسيلك حكاية بحد ذاتها..

وقد فاجأتني والدتي عندما قمت بزيارتها خلال السنة الفائتة وقد تقدم بها العمرعندما أخرجت من خزانتها القديمة  ظرفاً، وقالت: لقد تلقيت الهدايا الكثيرة يا بنيتي في حياتي لكن إسورة الصنوبر التي حاكتها براءة طفولتك  لها وقع مؤثر على نفسي لن أنساه مدى حياتي .

 

أقصوصة

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2059 الاربعاء 14 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم