نصوص أدبية

ثورة الطيور / احمد فاضل

بنى لها في سطح داره برجا كبيرا وبعد أن أنهى برنامجه الذي اعتاد عليه يوميا في تفقده إياها نزل إلى الدار متجها صوب مقهى الملا لملاقاة أصدقائه القدامى ولعبه الدومينو معهم والتي يقتلون بفضلها أصبوحة كاملة وحتى منتصف النهار وقبل أن يضع قدماه خارج الدار صاحت به زوجته :

- أبو أحمد بلكي وياك من تجي بالسلامة فد ركية زينة ؟

- حاضر .. وبعد ؟؟

ها هية سلامتك ..

مشى أبا أحمد قاصدا المقهى وهو يرفع رأسه إلى السماء متفحصا مجموعة من الطيور وهي تطير على إرتفاعات منخفضة تعود لعباس الأخرس إبن جارنا الذي يعمل والده في وزارة العدل والذي كان صياحه وخرقة بالية لفها على خشبة طويلة راح يلوح بها سببا في هياج طيوره ، هز أبا أحمد يده مدمدا مع نفسه قائلا :

- خل يجي أبو قسمة وأبو محمد يشوفون مطيرجية آخر زمن ..

والدي هذا يعرفه جمع غفير من سكنة محلتنا " الطوبجي " خاصة الذين تجمعهم هواية تربية الطيور ويحترمونه لتعامله الصادق معهم فهو سليل عائلة عريقة سكنت محلة " باب الشيخ " في رصافة بغداد بعد انتقالهم إليها من محلة سوق الغزل ومنذ أمد بعيد ، وقد نمت عنده هذه الهواية مذ كان صبيا يركض وراء الحمام في مرقد مولانا الشيخ " عبد القادر الكيلاني " وعندما كبر وتزوج من والدتي وهي ابنة عمه ظلت هذه الهواية تلازمه ومن فرط حبه لها أفرد زاوية في غرفة منامهما لتربيتها والسهر على راحتها مع أن والدتي كانت غير راضية عن ذلك إلا أنها لم تكن قادرة على التصريح بذلك خوفا منه واحتراما لمشاعره تلك ، وعندما إنتقلنا إلى بيتنا الجديد نقل الطيور معه مع أن له مجموعة أخرى منها كان قد بنى لها برجا آخرا في سطح دائرته التي يعمل بها في سراي الحكومة القديم أو" القشلة " كما كان يطلق عليها والتي تظم عدة وزارات ودوائر مهمة منها مديرية للشرطة كثيرا ما كان أفرادها يتذمرون من طيوره التي تحط على بنايتهم وتترك على شبابيكها بقايا فضلاتها ، لكنهم لم يجرأوا على وقف هوايته تلك بسبب أنه يعمل بصحبة أحد الوزراء المعروفين آنذاك ، لكنه في النهاية أغلق برج طيوره ونقلها إلى بيتنا تحاشيا للإحراج وهو الآن يحظى بمكانة خاصة بين مربي الطيور الذين يعتبرونه أكبر مستشار لهم فيما يخص أمراضها وطريقة تربيتها وتناسلها .

دلف أبا أحمد إلى مقهى الملا الذي كان يقف أمام " الأوجاغ " يغسل أقداح الشاي بالماء الحار المنهمر من " السماور " الذهبي الذي تربع وسط " القواري " و" الكِتالي " وهو ما يحتاجه كل صاحب مقهى منها :

- صباح الخير مُلا .. قالها أبا أحمد وهو يجول بناظريه المقهى ..

- صباح الخير أبو أحمد .. إليوم مغبش ؟

- إي والله .. شعدنا متكلي باقين بالبيت بعد ما فطرنا وفطَرنه الطيور ويانة ..

- والله يابة صحيح .. الكعدة بالبيوت متراد .. بس الحمد لله آني ما اربي طيور ..

- خسران ملا .. تعرف تربية الطيور بيه شلون ونسه .. وها .. بيه فائدة لتنسه وأجر عند الله ميضيع ..

- يمعود بيه دوخة راس .. خاصة وي ذوله المزعطة ..

- صحيح ولكن موكلهم ؟

- نعم .. بس .. ها جا أبو قسمة هو يكملّك باقي الكلام ..

تبسم أبا قسمة وهو يتلقف كلمات الملا قائلا :

- السلام عليكم .. ها شبي الملا اليوم من الصبح ؟

- لا .. ما كو شي .. بس كلامي مع أبو أحمد ومن حِضرتْ كِلتله البقية يم أبو قسمة ..

جلس أبا قسمة بجانب صديقه أبا أحمد مبتدأين حوارهم كالعادة عن الطيور حتى إذا حضر أبا محمد حضرت معه أقداح الشاي والدومينو ، إلا أن الأخير دفع بها وهي بعد لم تستقر على المنضدة قائلا :

- رحمة على والديك ملا رجع الدومنة تره ماكو خُلك للعب ؟

دهش باقي أصدقاؤه مستفسرين :

- عيني أبو محمد .. خير ؟

- لا .. ما كو شي .. بس أحس براسي راح ينفجر ..

-هم بسبب القطار ؟

- طبعا .. هو أكو غيره ..

- ملا .. يمعود إلحكنه بحباية أسبرين ..

صاح الملا وهو يعبث بجهاز الراديو القديم :

- لحظة بلكت ألكي .. ها لكيت وحدة ..

وبعد أن تناولها أبا محمد وشرب ورائها رشفة من الشاي الموضوع أمامه بادره أبا قسمة قائلا :

- إي هسة مو كتلك بيعه للبيت وأخذلك واحد بعيد عن سكة القطار الكشرة ..

- هذا موكلام أبو قسمة .. يرادنا بيت واسع وهنا بالطوبجي البيوت كله اصغار ..

- لعد ضل دايخ بسببه ..

بيت أبا محمد يقع إلى جوار سكة القطار ومثله الكثير من البيوت يشكون من هذا القادم والذاهب يوميا بسبب هديره القوي ما يجعل من بيوتهم تترنح من أثر اصطدام عجلاته بالسكة الحديد ، اضافة إلى ما يتركه من إزعاج يومي لساكني هذه البيوت سواء أكانوا في صحوتهم أو منامهم :

- والله هاي مشكلة أبو قسمة !

قالها أبا أحمد بينما حاول أبا قسمة أن يغير من الموضوع :

- يابة معلينا .. دومنة ملازم .. زين خلونا نتكلم بموضوع آخر ..

- شنو هالموضوع ؟

- البارحة راحتلي أربع طيور ..

- شلون ؟

قالها أصدقائه بتعجب ..

- تعرفون ذولة المزعطة جواريني .. يطيرون عامي شامي .. إتصوروا حتى بها الظهرية الحارة اللي الحصان بيه يبول دم ، خطية يطيرون الطيور .. وكتلهم بابا من أطيّر شوية اصطبروا لطيرون وياية .. بس ميفيد .. آني طيّرت منا عبالك كاعدين ينتظروني .. فكوا طيورهم على طيوري وروحولي أربعة ..

- زين بعدين إسويتلهم ؟

- شسويلهم .. هذولة زعاطيط من تتكلم وياهم بها المسألة إصير مثلهم .. وأهاليهم ميتفهمون هاي الشغلة .. أسكت أحسن ..

أخذ الحديث يطول وهؤلاء الأصدقاء الثلاثة لايتعبون وهم بمثل هذا العمرعن حديث الطيور وبعض من في المقهى ينصت إليهم بإعجاب وحيرة ، لكن السماء أنصتت إلى حديث آخر أشد غرابة فقد داهمتها أسراب من الطيور لم تعهد أن رأتها بمثل هذا العدد أو هذه الأنواع ، فقد أختلطت طيور حمراء بأخرى صفراء وبيضاء ورمادي حتى باتت تشكل لوحات تشكيلية جميلة أخاذة انتبه إليها الملا فقصد الأصدقاء بصوت جهوري :

- أبو أحمد .. أبو قسمة .. أبو محمد .. يمعودين متشوفون شنو هاي الهوسة بالسما ؟

أطل الثلاثة بنظرهم من خلال زجاج نوافذ المقهى وهرولوا مسرعين خارجها وصاح أحدهم وكأنه ينظر إلى أعجوبة سماوية :

- شنو السالفة يا جماعة ؟ هاي الطيور منين جتي ومالمن ؟

- والله أبو قسمة آني بحياتي مشايف جوكة من الطيور مثل هاي الجوكة ؟

صاح أبا أحمد بهم وهو يودعهم :

- عيني .. خلي نروح لبيوتنا ونشوف قصة هاي الطيور .. ثيمالا ...

أسرع الأصدقاء قاصدين بيوتهم ولأن أبا أحمد أقرب منهم فقد وصل إليه بسرعة ثم طرق بابه وهو ينظر إلى السماء التي اكفهرت بهذه المجاميع من الطيور وعندما فتح له الباب دخل مسرعا إلى السطح وسط ذهول واستغراب الحاجة أم أحمد التي وقفت تنظر إليه وهي تقول :

- لعد وين الركية أبو أحمد ؟

فأجابها بصوت يشوبه الإستعجال :

- بعدين ؟

ردت أم أحمد عليه وهي تهز كفيها بتبرم :

- بالله شكد عيب أختي أم سعد على جيه واحتمال تبات عدنه .. إي شنقدمله ويَ العشه ؟ كُله من وره الطيور الكش .......

أخرج أبا أحمد طيوره التي سرعان ما انطلقت إلى السماء التي تغيرت سحنتها بسبب جحافل الطيور التي خرجت من قمقمها كالمارد وهي تنشد للحرية :

- معقولة هاي الطيور طلعت من الطوبجي كُلهه ؟؟

قالها أبا أحمد بينما راحت طيوره تتمايل جميعها مرة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال آخذة بالإرتفاع ثم مالبثت أن التحمت مع تلك المجموعة الكبيرة من الطيور الغريبة ودارت معها دورة كاملة ثم سرعان ما انسحبت منها تتبعها تلك الطيور حتى إذا ما صارت فوق دارته خرت على سطحه فرادى ومجاميع بينما الأخير يهرول وهو ينثر الحَب ، وسرعان ما تهاوت الطيور عليه وبعد أن شعرت بالأمان أخذت تلتقط الحَب ثم مرقت نحو القفص الكبير تطلب الماء بينما أصاب أبا أحمد الذهول لأنه لم يتصور أن هذه الطيور يمكن لها بهذا العدد الكبير الذي تجاوز ال 90 منها أن يصطادها بهذه السهولة مع أن طيوره لم تكن تشكل ربع عددها .

كان الوقت عصرا حينما انتهى أبا أحمد من إدخال آخر مجموعة من الطيور إلى داخل القفص الكبير والذي أعده من قبل لاستقبال كل غريب لأنه لايجوز إدخالها مع طيوره لأسباب تتعلق بالمرض وأحيانا قد تكون شرسة الطباع وهذه قواعد ثابتة مشى عليها مربوا الطيور الذين يعرفون هذه اللعبة ، ثم ما لبث والدنا إحكام غلقه له وهو ينظر إليها تعبة فعرف أنها قد قدمت من مسافات بعيدة وأنها بحاجة إلى الراحة حتى تستعيد نشاطها ، وقبل أن يتركها سمع جاره عباس الأخرس وهو يشير عليه بيده إشارة من يريد أن يعرف كم من الطيور حصل عليها ، فأجابه بالإشارة أيضا أنها 90 ففغر الأخرس فاه وعلامات الإستغراب تحاول أن تنطق بدل لسانه المتوقف منذ طفولته ورجاه أن يعطيه بعضا منها ، لكن أبا أحمد قتل الأمل عنده حينما أشار له بحركة قوية من يده فهمها الأخرس وهو ينظر إليه بغضب .

نزل أبا أحمد إلى أسفل الدار وقد أخذ منه التعب مأخذا واصطدم بوجه زوجته التي بادرته قائلة :

- إي مدكولي إصاير عليك .. حتى أكل مأكلت .. إي مو الطيور راح تموتك ؟

- تعرفين أم أحمد آني هسة شكد لزمت طيور ؟

- لا والله ؟

- تسعين طير ..

- اللهم صلي على محمد وآل محمد .. يمعود إستر علينة .. هذني قابل ما إلهن احد ؟

- طبعا إلهن احد .. وآني راح انتظر منو يطلع راعيهن ؟

- إي .. وبعدين ؟

- أنطيهياه .. قابل إحنا منعرف ها الشغلة ..

- عفية عليك أبو أحمد .. هاي المرجية منك .. لو هيجي ليربون طيور لو ملازم ..

- هسه شعلينه .. تره ميت من الجوع .. شعدكم غده ؟

- استريح ويجيك الغده ..

وما إن جلس أبا أحمد لتناول غدائه المتأخر حتى سمع طرقا على الباب فقام ليجد حشدا من الشباب تعرف على بعضهم الذين بادروه بالسلام :

- مرحبه عمو أبو أحمد ..

- أهلا وسهلا .. خير ؟

- عمي جيناك بخصوص طيور لزمته قبل شوية ؟

- إي نعم ,, أنطوني تواصيفه ..

عجز الشباب من إعطاء أوصاف الطيور مما اضطر أبا أحمد أن يقول لهم :

- يابه .. الطيور اللي لزمته كله هي مونفس اللي نطيتوا أوصافه .. فبلا زحمة طيوركم مو عندي ..

- بس ؟

- مو كتلكم عيني .. روحوا شوفوا منو لزم اطيوركم.. أكيد غيري ..

تابع أبا أحمد رحيل الشباب ودخل دارته وهو يتأفف قائلا :

- لعد ميلام الملا من يكول الطيور دوخة راس وخاصة وي ذوله المزعطه ..

عاد أبا أحمد إلى غدائه المتأخر مرة ثانية فتناول قرصا من الخبز الذي اشتهرت زوجه بإعداده ، لكن طرقا آخرا على الباب جاء هذه المرة بقوة مما حدا به أن يصيح وسط دهشة الحاجة أم أحمد :

- يعني شلون اليوم مرح نكدر ناكل ؟

كانت المفاجأة كبيرة هذه المرة فقد تسمر أبا أحمد في مكانه وهو ينظر إلى سيارة جيب عسكرية ترجل منها ضابط في الخمسين من عمره وبرتبة كبيرة فحياه بابتسامة من يعرفه من مدة طويلة :

- أبو أحمد على ما أعتقد وآسف على إزعاجك .. الحقيقة شاهدتك كثيرا في سوق الغزل أيام الجمع لكنك لاتعرفني بفضل هاي الملابس وصيتك ماشا الله مالي الصوبين كرخ ورصافة ..

- تبسم أبا أحمد من كلامه ورحب به قائلا :

- الحقيقة تعرف سوك الغزل يطبله الجمعة هوايه من محبي الطيور وغيرها العفو من الحيوانات .. لكن أمر خدمة ؟

- أبو أحمد آني العميد الركن أبو أنمار بيتي بالمنصور واليوم راحلي 150 طير بالتمام والكمال بسبب إبني الزعطوط وخابروني الأهل وآني بالدوام ديكلولي بهذا الأمر .. حراس بيتي أكدوا أن الطيور دخلت منطقتكم وآني داخلها استفسرت عن أشهر مربي الطيور بيهَ كالولي روح لأبو أحمد .. يعني تعرف إحنا العسكر لازم أول مرة نستطلع المكان وبعدين نحدد الهدف ..

ضحك الإثنان واستمر الضابط بالكلام :

- وجيتك عيني أبو أحمد أستفسر عنها وأطلب مساعدتك ؟

- أبو أنمار أغاتي 90 طير من طيورك عندي .. إتفضل للبيت وكلشي ايصير على مرامك ..

دخل الضابط ذي الرتبة الكبيرة بيت أبا أحمد وخرج منه محملا ب "حَلتينْ " مليئتان بالطيور يتبعه صاحب الدار بمثلهما ، هنا ترجل سائق الجيب العسكري بسرعة منها وأخذ " الحلات " ليضعها داخل السيارة وراح يعاونهما في نقلها جميعا حتى إذا انتهوا منها قال الضابط وهو يمسك بيدي أبا أحمد :

- بحياتي ما راح أنسه معروفك هذا .. وصدك اللي كالوا عنك شفته موجود فعلا عندك يا شريف .. أما البقية فلا داعي أدوخ نفسي وادور عليهن ..

- لا أبو أنمار .. وداعتك كلهن أجيبهن إلك ..

- عيني أبو أحمد .. هسة شتؤمر آني بالخدمة ..

- موعيب أبو أنمار كلشي ما أطلب غير سلامتك وبس ..

- ميصير .. أطلب وآني حاضر ..

- ما أطلب غير بوسة منك وهسه خلي نروح لبو قسمة وأبو محمد نشوف بقية الطيور وين راح نلكاهه..

وبعد أن عثر الضابط الكبير على أغلب طيوره أوصل أبا أحمد إلى داره وودعه وهو يلهج بالشكر والإمتنان له ، بينما وقف جمع كبير من الجيران يشهدون صفحة من صفحات التاريخ قد لا تتكرر أبدا عن هواية مرهونة بمحبة لكل البشر من الذين يفهمونها كعاطفة ربانية غرسها الله في قلوب من يعرف الحب حتى وإن كان ذلك الحب طيرا يطير في السماء .

?قصة قصيرة

 

أحمد فاضل 


العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2060الخميس 15 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم