نصوص أدبية

الصِغارُ / عبد الفتاح ألمطلبي

أطفال كثيرون، ذكور وإناث بأعمار مختلفة ولكنهم جميعا يصدق القول عليهم أنهم أطفال، بكى الكثير منهم لحاجتهم لآبائهم وأمهاتهم، كثيرٌ منهم لم يُفطم بعد، كنت أرى لهم من كل مكان ومن كل زاوية، لا تسألني، من أنا ومن أكون بالنسبة لهم؟، ذلك غير مهم بالمرة، سمّني ما شئت تخيل أنني أنت أو أنني مجرد جهاز عرض بأبعاد ثلاثية تعتمد جودة عرضه على قدرتكَ أنت على التخيّل مدعيا أن التخيل كان دائما الأمر الحاسم في قضايا كبيرة كلما كان دماغك مجيدا في تصوره لما يجري لهم كان الأمر رائعا، إذن دعك من هذه الأسئلة وتعال نتخيل المنظر، هاهم الأطفال يختلطون ببعضهم وكأن آبائهم وأمهاتهم قد أودعوهم في هذا البيت الكبير على عجل ثم ذهبوا غير مختارين إلى مصائرهم المجهولة، الفوضى عارمة والجلبة عالية في المكان، بكاء وعويل وصرخات مفزعة كل واحد منهم يبحث عن حضنٍ فقده، الأبواب مغلقة جيدا وهي فوق ذلك حصينة من الداخل لا يمكنهم اختراقها بأية وسيلة إلا من الخارج وكان من البديهي أن تكون مفاتيح الأبواب بحوزة الكبار الذين بلغوا من الكبر عتيا فسهل قيادهم نحو نهاياتهم البائسةِ ولم يُمنحوا فرصةً لترتيب أوضاعهم، كان صراخ الرضّع يفطر القلب، تساءلت وأنا أكتب السطر : ما أقسى أمهاتهم وآبائهم!، بعضهم بُح صوته من البكاء والعويل والبعض الآخر اهتدى لإبهامه ِ وراح يمصه بضراوة، وهكذا هدأ صوت الرضّع ولم تُسمع غير وصلات متقطعة من بكاء واهن وعويل مبحوح يصدرُ عن أولئك الذين وضعوا تصاويرَ موغلة في القِدم لآبائهم وراحوا ينوحون على ذكراهم وكان نواحهم لا يشكل في جسد الوجود الصوتي شيئا يُذكر إلا كما يصدر عن حفيف ثوب ناعم، أنصَتَ له بعضُ الذين داهمهم النعاس فناموا، كان الأطفال الآخرون الذين تجاوزوا سن الرضاع قليلا يصنعون جلبة بريئة يركض بعضهم حول بعض ذلك إنهم اعتادوا الركض والصراخ في روضاتهم ومدارسهم في الأحوال الاعتيادية حتى بلغ منهم التعب مبلغا فناموا جميعا كيف ما اتفق بعضهم فوق بعض، رؤوس بعضهم على أرجل آخرين وأرجل آخرين على رؤوس أخرى وهكذا خفت الجلبة كثيرا ولم يبق غير الأطفال الأكبر سنا الذين يحاولون بكل الوسائل اكتشاف الحقيقة وراء اختفاء الكبار وبعد ساعةٍ أو ساعتين نام المتعبون وكانوا غالبية من تساءل عن ذلك السرّ منهم ولم يبق في باحة البيت وممراته إلا أولئك الثلة من المراهقين المولعين بتقليد الكبار من الجنسين وقد أغراهم خلو الساحة إلا منهم وقد سيطر عليهم هاجس تقليد الكبار بحجة أنهم الآن وحسب ما استجد من وضع طارئ لابد أن يأخذوا دورهم وفرصتهم ولأنهم لم يكونوا واثقين تماما مما يفعلون عمدوا أول ما عمدوا إلى إسدال الستائر تلافيا للعيون التي ربما كانت تراقبهم من الخارج ولكي يكون ذلك مشروعا ً ومقبولاً زعم الأولاد الأشقياء منهم أنهم رأوا بأم أعينهم ثمة عيون من وراء زجاج النوافذ تراقبهم بلا هوادة بل وأكثر من ذلك أن بعضهم ادعى أنه يفعل ذلك من أجل الأطفال الذين ناموا بسلام وأصابعهم في أفواههم وقال آخرون أنهم يفعلون ذلك لكي لا يجلب الضوء المنتشر من خلال النوافذ حشرات الليل الطنّانةِ المغرمة بالأضواء ولهذا فقد وجد بعضهم ما يسوغ إطفاء بعض الأنوار والاكتفاء بمصباح صغير في كل ركن من أركان هذا البيت الواسع والكبير، ولما صفا لبعضهم الجو وتحركت هرموناته التي لم تألف انطلاقها بعد راح يخطط لمداعبات غير بريئة ولما كانت مجموعاتهم تتجمع في أكثر زوايا هذا البيت الواسع ضياءً على شكل عصابات صغيرة تبعا للقرابة ولثغة الألسن والأفكار التي لا زالت طرية ولم تنضج بعد في رؤوسهم الصغيرة ولأن هرموناتهم أمعنت في جلد شهواتهم فقد راحوا يتحينون الفرصة لكسر تلك المصابيح الواهنة موفرين بذلك فرصا أخرى لاستدراج بعضهم نحو مناطق الظلام الذي يبيح فعلَ بعض المحظورات وكانوا جميعا يدركون أن الليل لا زال في أوله،ولما حاول بعضهم الاعتراض على اتساع رقعة الظلام وتكدر الرؤية عمد المتهورون منهم إلى ربطهم بحبال متينة وتكميم أفواههم بل وضربهم ضربا مبرحاً إن لزم الأمر وإجبارهم على النوم مبكرا ثم ألقوا بهم في زوايا معتمة وتعمدوا نسيانهم وهم يلعقون جراحهم ويحاولون فك اشتباك الحبال حولهم بأية وسيلة، يستعينون بالشيطان لو توفر لهم ولما افتقدهم البعض قيل لهم إنهم التحقوا سرا بالكبار ولا يعرفون كيف حدث ذلك ولما ازدادت الظلمة بعد كسر المصابيح القليلة تباعاً وحلّتِ الحلكةُ تحركت في بعضهم هرمونات التحفز واستحالت دمائهم إلى دماء وحوش تشتغل بغرائز الميل للبقاء ولانعدام الرؤية ولخوفهم مما يجري في الخارج فقد راحوا يتصرفون كالعقارب يلدغ بعضهم بعضا والظلمة حالكة، نعم كانت الظلمةُ حالكةً والرؤية عسيرةً وما من شيء يمنع حدوث أي شيء لذلك راحت كل مجموعة من المراهقين تشكل عصابة صغيرة وتقتطع لها منطقة نفوذ بعضهم أولئك الأولاد الذين عانوا كثيرا من جلافة آبائهم وصلف إخوانهم الكبار والذين حلموا دائما بعالم خالٍ من الوصاية وخال من الاضطهاد باسم الإخوة ذهبوا بعيدا فاحتلوا الطابق العلوي برمته وجعلوه منطقة محرمة على الموجودين في الأسفل، وهكذا تحددت معالم النفوذ وتُرك الأطفال الرضع مصاصي الإبهام بلا أي شيء يمكن أن يدفع عنهم غائلة الجوع، ولما كثر الهرج وفاقت الجلبة الحدود وأزعج صراخهم المارة والطامعين ووفروا لهم أكثر من ذريعة لكسر الباب أو خلع النافذة  تحت جنح الليل والدخول عنوة ولأن البيت كبير وسكانه من الأطفال والمراهقين وجدوا أنفسهم في وضعٍ لا يُحسدون عليه ولأنهم علموا مؤخرا أن لليل لا زال طويلاً وإن كارثةً قد ألمت بكبارهم، جعلتهم يستبعدون عودتهم في هذا الليل البهيم لذلك انحازت كل مجموعة لدخيل ولا زال الصغار الرّضع يمصون إبهامهم لدرئ غائلة الجوع بينما راحت الثُلة من المراهقين الذين يملكون أسنانا كاملة يمضغون ما يصل لأفواههم وما تتلقفه أيديهم وراح الدخلاء يجوسون خلال البيت من فوق إلى أسفل .

 

قصةٌ قصيرةٌ


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2063 الأحد 18 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم