نصوص أدبية

حَدَثَ ذاتَ يومٍ / عبد الفتاح ألمطلبي

وأضربُ بباطنِ كفيّ على فخذي لأزيحَ ما تعلّقَ من غبارٍ دقيقٍ على بنطالي ذي اللونِ الداكنِ ثم أحمل حقيبتي الصغيرةَ ذاتَ العروتين الكبيرتين و أبدأ لعبتي المحببةِ بِعَدِّ خطواتي إلى مدخل مرآب النهضةِ العمومي غير ناسٍ الانتباهَ إلى أيةِ قدمٍ من أقدامي ستدخل بوابة المرآب قبل الأخرى ودخلتُ هذه المرة بقدمي الشمال بعد ألفٍ وتسعمائة وتسعٍ وسبعينَ خطوةٍ واعتبرتُ ذلك فألاً سيئاً حسبَ قواعدِ اللعبةِ فالعدد كان فردياً استثنائيا بفرديته لاحتوائه على أربعة أرقامٍ فرديةٍ ولأن قدمي الشمال قد سبقت اليمين، قلت في سرّي  ياساتر،ولأنها لعبةٌ قد مارسْتُها من قبل  فقد نسيتها بعد لحظة ودلفتُ بكل ما بيَ من قوةٍ إلى الداخل،وعندما رأيت الباص الأزرق الجميل يقف في الساحة بانتظاري قلتُ في سري أيضاً كَذبَتِ اللعبةُ هذه المرة  و إنه لفألٌ حسنٌ أن أجدَ مثل هذا الباص الجميل  بانتظاري ولم يمض وقت كثير حتى استوفت الكراسي ركابها وحين كنا بالانتظار اقتحم رجلُ غليظٌ بشارب كثٍّ البابَ المنزلقةَ واحتلّ مكان السائق دون أن يلتفت لنا وهكذا انطلقت السيارةُ بنا متجهةً إلى البصرة، كان النزقُ والتهوّر باديين على الرجل خلف المقود فكانت العربةُ تترنح مما يبديه قائدها من استخفاف بها وبالطريق و بالراكبين الذين سرعان ما فرزتهم سماجة قائد العربة،إلى فريقين، فريقٌ انحاز لروح التهور التي تلبّسَت الرجلَ خلفَ المقود فراح هذا الفريق  يؤجج رغبتـَهُ ورعونتهَُ بالتهليل والتصفيق وما كان ذلك جزافا فوراء كلّ مهللٍ ومصفقٍ غرضٌ مضمرً بينما انكمش كبار السن وبعض الشباب الذين نضجوا مبكرا وأحسَبُ أني منهم ونساءٌ وأطفالٌ في مؤخرة العربة الطويلةً وصمتوا بعد إذ لم تنفع توسلاتهم واقتراحاتهم في الحد من نزق قائد العربة وصخب الذين من حوله، وهكذا انطلقت العربةُ وقائدُها لا يني يعرضُ مهاراته في القيادةِ وركوب الأخطار حتى إنه خرج بها عن الطريق السوي إلى طريقٍ آخر يندر سالكه ينتصب عليه جسرٌ ضيّق من فوق هاويةٍ  صنعتها ظروف عسيرة فبدا النهر الذي شحت مياهه من تحته كخيط رفيع وحين بلغت العربة منتصف الجسر سمع الركاب خصوصا المتوجسون منهم والصامتون  طقطقةَ شيءٍ ما ينكسر تحت العربة التي فقد قائدها السيطرة عليها في اللحظة ذاتها فمالت نحو جانب الجسر لولا حديد سياج الجسر الذي اخترق أحد قضبانه المصبوغة باللون الزيتوني صدر قائد العربةِ فمات في الحال وتوقفت العربة على حافة الجسر العالي تبدو من تحتها الهاوية وراحت تتمايل مثل عتلة ألقبّان حتى استقرت ونصفها الأمامي في الفضاء والآخر من منتصفها إلى مؤخرها على الجسر وساد الصمت في تلك اللحظة إلا من صوت إحدى العجلتين الأماميتين  وهي تدور في الفراغ محتكةً بشيء من بدن العربة المحطم، وبعد إن أفاق الأحياء منهم من هول الصدمة انبرى أحد الجالسين في مؤخرة العربة صارخا  إياكم والحركة، حافظوا على هدوئكم، أن أية حركة غير محسوبة العواقب ستتسبب بسقوطنا إلى الهاوية، وكان الطريق في تلك الأوقات مقفراً، ورغم أن بعضا من شلة التصفيق والتهليل كان قد أصيب برضوض وكسور إلا أن فيهم من لازال لا يدرك فداحة الوضع  فراح يتحرك بحركاتٍ عصبيةٍ غيرِ محسوبةٍ أدت إلى اهتزاز العربة وهي في وضعها الحرج، صرخ بوجهه جميع من كان في العربة حتى أولئك الذين كانوا بمعيته يصفقون ويهللون لقائد العربة المتهور قال له بعضهم:

-ألا يكفي ما نحن فيه من وضع  لا نُحسَدُ عليه؟

-وما دخلي أنا ؟ أأنا الذي كنت أقود العربة؟

- لولا تصفيقكم وتهليلكم ما تهور الرجل؟

كنت أستمع لهذا الحوار  البائس شاعرا بعمق الورطة التي شملت الجميع، مدركا في الوقت ذاته أننا نحن الذين في مؤخرة العربة قاب قوس عن النجاة، يكفي أن نزحف للنوافذ المكسورة لنلقي بأجسادنا المنهكة على الجسر لكننا إن فعلنا ذلك ستختل موازنة العربة وتهوي بالباقين  إلى الحضيض وربما يحصل ذلك حال خروج أحدنا خارج العربة ، ولما جرب أحد الذين كانوا في الجزء المعلق في الهواء تمايلت العربة تمايل ذراعي ألقبان وكأنها ستهوي فصرخ الجميعُ به فأحجم عن الحركات غير المحسوبة، في هذه الأثناء بدأ الليل ينشر ظلمته على المكان وزاد احتمال أن يرتكب البعض من الشلة المتهورة ما لا تُحمدُ عقباه فيتسبب بضياعنا جميعا، قال أحدُ الشباب الذين نضجوا مبكرا وتصرفوا منذ البداية بحكمة الكهول، برنةٍ يشوبها الخوف: الليلُ قادمٌ ثم أردفَ: إن كل ما لا يصح يحدث أحياناً في الليل، بدا الجميع موافقاً على ملاحظة الرجل العابرة وسكنوا سكوناً كان مريبا عند بعضهم ويشي بأمل ما عند بعضهم الآخر لكنهم جميعا أدركوا في اللحظة ذاتها أنهم جميعا متورطون بقلق العربة المفتوح على الموت وبالليل البهيم القادم.

فكرتُ أن الأمر منوط بنا جميعا وليس بواحد أو مجموعة مادمنا جميعنا في العربة ولا أدري كيف سمع احدهم أفكاري وكان يجلس على يميني قائلاً : كان يجب أن ندرك ذلك مبكراً  قبل أن نسمح لهم بدفع الرجل إلى أقصى حدود نزقه واستهتاره حد تهديد حياتنا، أجبته موافقا باقتضاب وكان يرعبني أن تكون أفكاري مسموعة حد هذا الوضوح، ثم ساد صمتٌ ثقيل  ورحنا جميعا نتصور الليل يداهمنا كوحش  يرانا ولا نراه و أدركنا  تحت تهديد القادم المجهول أننا شركاء في المصير تحت هذه الشروط  المحكومة بهذا الواقع البائس وباستفراد الليل القادم بنا فليس هناك غيرنا يهيمن عليه الخوف والليل الذي يدفعنا إلى حافة اليأس لننظر للوقت المتبقي لنا بكل هذا الفزع، أدرك الجميع أننا ما زلنا أحياء وإن ما يهددنا أولا هو هذا الذي نحسه من فزع، فزعٌ من الليل ومن بعضنا البعض ومن قلق العربة وعدم اتزانها، أدرك الجميع ذلك بصورة عجيبة وكأن الخوف يفتح نوافذ بين الرؤوس يفضي بعضها لبعض ووجدت في ذلك تفسيرا لقراءة أفكاري من قبل جاري الجالس إلى يميني وهكذا راحت ظروف المحنة تكشف عن الأفكار وتعريها  وكنا متفقين جميعا على إننا لا نختلف عن بعضنا إلا بألوان ما نرتدي من ملابس وراودتنا جميعا الفكرة ذاتها فرحنا نخلع أرديتنا وقمصاننا 

  وكل ما نستطيع التخلي عنه مما يلي أجسادنا لنصنع حبلا متينا نربط طرفه بأقصى مؤخرة العربة ونوصل طرفه الثاني لأقرب الجالسين في المقدمة فإذا نجحنا بسحبه للمؤخرة فقد مالت كفة التوازن نحو الاستقرار، وهكذا بدت الفكرة معقولة ورغم تشاؤم اليائسين إلا أننا نجحنا بسحب الجميع واحدٍ إثر آخر لمؤخرةِ العربةِ وكلما زاد عدد الوافدين إلى مؤخرة العربة بواسطة حبل قمصاننا الملون وذي العُقد الكثيرة زاد استقرارُ العربة وتبين أن حبلنا رغم عقده الكثيرة كان قويا  لكننا اتفقنا أن لا نغادر مؤخرةَ العربة حتى ينجلي الليل وتشرق  شمس جديدة وهكذا أنفقنا الليل بوجلٍ خوفَ هبوبِ رياحٍ غير متوقعة .

في الصباح ولما تبين لنا الخيط الأسود من الخيط الأبيض تسلل أحدنا خارج العربة وربط هيكل العربة بدعامة الجسر وبدأنا نخرج من العربة بسلام إلا أنه في اللحظات الأخيرة و إذ لم يبق في العربة غير قائدها الميت الذي اخترقه قضيب الجسر ذو اللون الزيتوني، طقطق الحبل الذي كان يربطها بالجسرِ و المصنوع من قمصاننا وانحلّت عُقَدَهُ واحدةً إثر أخرى وتردّت العربةُ نحو الحضيض فقد كان ثقل جثة قائدها وحده كافيا لتردّيه مع عربته للهاوية

 

قصة قصيرة  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2076 السبت 31 / 03 / 2012)


في نصوص اليوم