نصوص أدبية

يحدث يوميا / مسلم السرداح

تقع في جانب اخر من المدينة بعد تنفيذ اجراءات نقله، الذي صدر منذ فترة تجاوزت الشهرين بل واكثر قليلا ربما . ولم يذكر في أمر النقل كالعادة ما يخص المشاعر الانسانية للموظف، بل مجرد إجراءات اعتيادية  تخص المكان الذي سينقل إليه واختصاصه ومصطلح - المصلحة العامة - .

وسبب تاخره بالالتحاق بدائرته الجديدة يعود الى عدة عوامل منها ذلك  التساهل في تطبيق القانون والروتين اليومي  الى حد التسخيف الذي تسببه  هشاشة القانون نفسه واستخفاف القائمين عليه به . والاهم من ذلك كله هو شعوره بالظلم والغبن والإحباط  ما جعله يؤجل  تنفيذ الأمر بمراجعاته  المتكررة لتغيير فحوى الاجراء، او الغائه .

- ولماذا انا وليس غيري ؟ . هكذا قال لزوجته حين استفسرت منه عن سبب ذلك الضجر الذي كان يبدو على وجهه هذه الايام على غير عادته .لقد نقلوا خدمتي الى دائرة اخرى دونما سبب استطيع اقناع نفسي به . وحين سألتهم عن السبب اجابوني انني فائض في اختصاصي . قلت لهم انني انا الاقدم في موقعي هذا . فقالوا لي انها المصلحة العامة . ولم يقولوا غير ذلك لي . رغم اني كنت مخلصا في عملي، مطمئنا الى وظيفتي ولم يصدر أي تصرف فساد مني ولا ما يدل على عدم استقراري في مكاني اضافة لكوني انا الاقدم والاقدر في مجال عملي . وكنت اكن احتراما لمهنتي .

- لايهم، فربّ ضارة نافعة . قالت له زوجته فانت في الحالين تمارس نفس الاختصاص، والمهم بالنسبة لنا ان راتبك الشهري هو نفسه .نعم هو نفسه قال لها، ولكن ما يؤذيني هو ذلك الشعور بالغبن فلماذا انا ونحن ثلاثة وانا اكثرهم حرصا على واجبي ؟ . بل ان اخر الثلاثة، قال لي  بلسانه، انه وصل الى مكانه لقاء رشوة .

في دائرته الجديدة حصلت بعض الازعاجات منها شعوره برهبة المكان الجديد والناس الجدد، امام هذا الحشد الكبير من العاملين الغرباء بالنسبة له والذين لم يتعرف عليهم من قبل . ولقد جيء به الى هنا مع شعور راكز كان يراوده  وهو ان الانسان بهذا العمر يصعب عليه عقد صداقات جديدة ناجحة . خصوصا وهو من النوع المنغلق غير المبسوط الا على مجموعة منتقاة من الناس .

وابتداءا من اليوم الاول صادفته بعض المفارقات . منها انه  التقى باستاذ  حسين الذي قال له انه يعرفه جيدا، لانه كان  صديقا لشقيقه امين في فترة الدراسة الثانوية، وكذلك في فترة الدراسة الجامعية وانه يعرفه جيدا و كان يلتقيه دائما، وتعجبّه منه لنسيانه .

كان ذلك منذ زمن بعيد ولقد تذكر جيدا حقيقة ان امينا ذاك كان صديقه ولكنه بالكاد تذكر الاستاذ حسين رغم انهم  كانوا  يلتقون يوميا تقريبا في بيتهم بعد خروجهما من المدرسة والكلية فيما بعد هو و امين لانهما كانا يهتمان بالاجهزة الالكترونية التي كانت محدودة في ذلك الوقت ولاتتعدى الراديو والتلفزيون والمسجل .

- كان عشقنا لهذه الاجهزة قد جعلنا صديقين لانكاد نفارق بعضنا بعضا . ولقد ادخل السرور الى نفسي  استاذ حسين  لانه  شقيق امين صديقي .ولكنه اثار القلق في داخلي  لسببين  . الاول  ان امينا هو كبير اخوته وهو اصغر مني بسنتين و ان حسينا  قد نال منه الشيب وضعف النظر مابدا معه وكانه اكبر مني بما يساوي  سبع سنوات . وتلك احدى مفارقات ما وجدته، في هذه الدائرة الجديدة . والثاني هو ضعف ذاكرتي ما جعلني اعتبره نذير شؤم لما قد تخباه الايام لي من اسى .

قبل بداية كتابة هذه القصة تذكرت قول صديقي الناقد لي مامعناه انه ليس على كاتب أي قصة ان ينهيها تماما ولا ضير ان يتركها معلقة للقاريء من حيث اكمال الحدث  .  وان من حق الكاتب ان يتخذ اطارا ومضمونا حداثيا وان يهتم بالافكار والغاية اللتين  يبتغيهما من كتابته للنص . ولكن ذلك من وجهة نظري يعرض الكاتب وسمعته من ناحية التشويق للاهتزاز والخطر .

وجد ان احراجا في علاقته مع استاذ حسين  كان  قد احس به فجاة وربما راوده  ولم يتاكد منه تماما  . ذلك ان حسينا في الحقيقة يتباهى بانه اصغر منه بما يقارب الثلاث او الاربع من السنين ويذكره  مرارا بان خدمته الوظيفية  اقل من خدمته غامزا انه سيستمر بعده في الخدمة لعدة سنين . كان ذلك يبعث الشك لدى الاخرين في طبيعة مايحدث ذلك ان صاحبنا الموظف الجديد  يرى  ان ليس هناك من امتياز في ان يطول عمر الشخص امام تلك المسؤوليات المكدسة، والحماقة  الكبرى التي اسمها الحياة . وراح يتساءل  :

- هل ياترى كنت انا حقا اكبر عمرا من اخيه صديقي  امين الذي يكبره ؟ وكيف تم للحال ان يكون هكذا والذي يراه يجزم انه اكبر مني ؟ . انه لامر مقلق .

 الحقيقة لم يكن الذنب ذنبه هو  او الاستاذ حسين ان يكون الامر هكذا بينهما والاخرين بهذا الشكل المثير للشفقة . وكان يتمنى ان يظل الامر مستورا غير مكشوف الغطاء لانه، وهذا الحال فانه اكبر مما يبدو عليه في هيئته ومظهره .

- اين قضى استاذ حسين سنوات عمره ؟ اين قضيت انا سنوات عمري ؟ اكاد اجزم ان ردحا طويلا من اعمارنا قضيناه متشابها بين الدراسة والخدمة العسكرية  . وبمناسبة ذكر الخدمة العسكرية فنحن نقضي فيها خدمتنا المقررة الطويلة جدا التي تقارب السنتين في ايام السلم ثم يضيفون اليها يوما واحدا يسمونه يوم العلم . يوم العلم هو، اليوم  المضاف بعد ان يتم انهاء الخدمة العسكرية بامان . فاين كنا اذن ؟ ونخدم منْ كنا طيلة تلك فترة السنتين من الغربة والمعاناة ؟ . لو انهم اسموه يوم الدكتاتورية لكان اجدر بذلك . انهم يقضمون ايام عمرنا بلذة مابعدها لذة دون ان يدركوا فعلهم والزمن  بنا . وابتسم بسخرية امام اكتشافه  الاخير مع قرارة نفسه .

- ويقولون عمن يشبه حالي، انه قضى حياته مترفا ولم يمر بايام شديدة .  " ان الخير يخيّر وان الشر يغيّر " لانهم يعتقدون ان مظهر العافية هو من فعل الترف والخير اللذين يمر بهما المرء وليتهم يعرفون حقيقة الامر . وانا اجزم اني انا الذي مررت بايام متعبة بل ان حياتي الماضية كلها اشد ايلاما واذى من ايام الاستاذ حسين . فانا اعرف عائلتهم جيدا واتذكر الحقد الطبقي والكره الذي كنت اكنه للحياة التي تجعل انسانا حساسا مرهفا مثلي يعاني ماعانيته . انا كنت متفاعلا مع نفسي ولم اضيّع يوما من حياتي دون ان يكون لي اهتمام بشيء من اشياء الحياة بدأتها بالفيزياء والالكترونيات والقراءة العلمية والعملية والادبية والكتابة بشتى المجالات من ثم . وكنت شبيها بالعربة التي يجرها حمار جائع يتوقف اكثر مما يمشي . وكنت ابحث بمشقة عن الكتاب الذي حين اجده لا استطيع ان اشتريه . وكان صديقي امين  شقيق حسين  يشتري الكتاب بسهولة بمجرد ان يعثر عليه بدلالتي ولكنه سرعان ما يمل من غموضه  ليسلفني إياه لأبدا بتوضيح الأشياء التي صعبت عليه . إذن امين  صديقي لايشبه العربة . انه سيارة حديثة بأربعة اسطوانات وبمكابح جيدة يستطيع التحكم بسرعتها ومع ذلك فانا  لم أكن اسمح لامثاله ان  يدهسوا  امثالي، من السائرين بدرب الحياة  بتعثر وسط الطريق  .كانت عربتي تسير بدفعٍ مجهدٍ من وقود فكري . ولكن امينا صديقي في المدرسة الإعدادية والجامعة لا تتناسب سيارته مع وقود دماغه .

- وأين امين  الآن ؟ سال  الأستاذَ  حسين، سؤال المطمئن على انه سيجد الجواب ان امينا  في وظيفته الكبيرة  لطموحه الكبير ولحالتهم المادية العالية . ولكنه اجابه  وكانه كان يستفز الحياة  :

- لقد اعطاك عمره، مات امين . لقد كان مصابا بالقلب الا تتذكر ؟

لقد أسف لذلك حقا من كل قلبه . وهو  في الحقيقة لا يتذكر شيئا من هذا الامر، وهو ان المرحوم كان  مصابا بمرض القلب . وربما ان امينا  لم يخبره بذلك لتناقض مرض القلب مع تفتحه للحياة .

وتذكر كيف ان العجيب في الامر ان اكثر اصدقائه القدامى لطفولته ويفاعته الاولى ماتوا اما في الحرب او اعداما على يد الدولة . او كما هو حال امين لم يستطع قلبه المتعب ايصاله الى ضفة سلامته . 

- كنت اشعر بالغربة امام هذا الامر كثيرا لقد قتل صديقاي سلام وحقّي وعادل  في جبهات الحرب وغيّب نزيه  في متاهات الدولة، ومات صديقي الحميم وطن غريبا في دهاليز بغداد . والنتيجة لم اعثر على امين بل عثرت على استاذ حسين . ولم اعثر على نزيه بل عثرت مرة على اخويه كريم وطه . ولم اعثر على سلام او حقي  ولا على اي شيء يذكّر احدا  بهما . و عثرت على ياسين شقيق عادل . صحيح ان لاستاذ حسين طعما جميلا لانه شقيق صديقي ولكن يالجمال اللقاء لو كان صديقي امين  هو من التقيته . وشتان مابين ما بقي وما راح . عند ذلك ساتباهى امامه بايجابياتي التي استبدلت بها وضعي الطبقي البائس . وسيكون الحال كذلك مع الاخرين الذين غادروا ولم يقولوا وداعا  . ولكن ما الذي ساقوله لاستاذ حسين  او لكريم او طه  او ياسين، وهم لايعرفون عني سوى اني كنت صديقا لاخوتهم الذين لم يبق مايشبههم ؟ .

- كذلك فان علاقتي بالحياة بعد رحيل اصدقائي تشبه،  الى حد ما، علاقة مطرب موهوب، نشا في بلاد الغربة، بوطنه . فلو ان مهاجرا عن بلاده وقريته واهله صار  ما صار وصعد في مستواه العلمي او الادبي او الفني اينما صعد فلسوف لن يشعر بلذة ذلك . لانه امام من  سيتميز ويتباهى وان  احدا  لم يكن يعرفه من قبل ؟ .

امام كل ذلك تعمد ان يبعد نفسه عمن كانت له به علاقة غير حميمية في دائرته القديمة باعتبار انها عقوبة جماعية ضدهم وضد نفسه . معتبرا انها مجرد علاقات يومية لاتختلف عن تعارف من يلتقي في طريق السوق . قائلا في نفسه :

-            أشياءٌ تحدث يوميا، بما لا يعني  بشريتنا .... !!

  

مسلم السرداح

البصرة العراق

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2081 الخميس 05 / 04 / 2012)


في نصوص اليوم