نصوص أدبية

حكايا عكموس المنحوس / زيد الحمداني

النظرة الأولى، اللقاء الأول، واللمسة الأولى. أما لقائي الأول فصادف في اليوم الثاني من شهر فبراير سنة الف وتسعمائة وثلاثة وتسعين. الشمس الحانية تميل الى الزوال، واشعتها التي تخترق سحب السماء الكثيفة بالكاد تصل الينا ونحن جلوس حول حوض السمك في احدى الكليات التابعة لجامعة بغداد. هنالك كان ينزوي أهل العشق في زماننا والازمنة التي سبقتنا ويلتقون بعيدا عن أعين الرقباء وكيد الوشاة وغمز العذال.

-" لوعشتُ الف حياة وحياة، سأحبك فيهن الف مرة ومرة. فحبك شهادة والبوح اليك صلاة."

قلتُ لها ما كان يعتمل في صدري. ابتسَمتْ مليا، ثم امسكت بيدي ولثمتْها. احسستُ لحظتها بانفاسي تتسارع وتكاد دقات قلبي تتوقف من فرط الانبهار. دنوتُ منها وصرتُ قاب قوسين أو أدنى من الفوز بنسمة عطرة كانتْ تفوح من بين ثناياها. سكنتْ الاصوات من حولنا وطمستْ الاشواق صورعشاق آخرين دفعتهم صولات عشقهم الى اللجوء لنفس حوض السمك الصغير.

سمعتُ الكثير عن أهل الصفاء العارفين وعن آثار الوجد التي تلوح على هياكلهم لكني لم أصلْ الى ماوصلوا اليه الا في تلك الساعة. وصرتُ اترقى في وصالي حتى اوشكتُ على بلوغ قُبلة المنتهى. فجأة سمعتُ صوتا يخترق صفاء تلك الجنة ويخربشُ تراتيل مرتاديها:

-" بطاقتك الشخصية رجاء." قال لي بصوت حازم يقترب من لهجة الأمر.

-" قبل ان اُعطيك بطاقتي الشخصية عليك ان تُعرف بنفسك اولا" قلت له بلهجة واثقة.

ارتسمتْ على وجهه علامات غيض وغضب. لكنه لم يزد حرفا على طلبه الأول ثم تركني ومضى. شعرت بقلق خفي، لكني كنت مزهوا امامها بعد ان اظهرت رباطة جأشٍ في الحوار مع شخص متطفل. نظَرتْ الي باعجاب ومنحتني شعورا عارما بأني الذكر الذي طالما حلمتْ به. صرتُ اُحس بدبيب هرمون التوستيرون في اوردتي. فعدتُ الى الاقتراب منها والدنو من منابع انوثتها الظاهرة والباطنة. الا ان صوتا آخر اشد فضاضة واعلى نبرة هذه المرة اخترق علينا لحظة الاقتراب الثانية:

-" لماذا لم تُعطه بطاقتك الشخصية." التفتُ الى مصدر الصوت وليتني لم التفت! كان رجلا في منتصف الاربعينات من عمره. بشرته شديدة السمرة و له شاربان سوداوان ينحدران بتهورعلى جانبي فمه ويشكلان شكلا يشبه رسم الرقم ثمانية. طويلُ القامة،احسبه يقترب من المترين. عريضُ المنكبين واسع الصدر وممتلء البطن. عبوس وعلى وجهه ملامح من مات قبل الف عام وعاد الى الحياة للتو. خُيلَ لي ان له نسبا عريضا مع (مالك) خازن النار ورئيس الزبانية في جهنم.

-" أنا آسف ولكني لا اعرف حضراتكم." قلت بلهجة تقترب من الاعتذار بعد ان ايقنت بأني في ورطة حقيقية.

-" أنا ضابط أمن الجامعة. اعطني بطاقتك الشخصية والحق بي. سأكون في انتظارك في مكتب الأمن."

اعطيته بطاقتي دون تردد.

" لا تقلقي سأكون بخير. أنا اعرف كيفية التعامل مع اولئك الناس." قلت لها ومضيتُ بخطوات وجِلة من المصير الذي ينتظرني. تلاشت جرعات التوستيرون كما تتلاشى وريقات الخريف عند هبوب ريح عاتية. وحين وصلت الى المكتب المذكور وقفت اتأمل المكان لبضع ثوان. ثم ولجتُ الى عرين السبع.

في الواقع لم يكن سبعا واحدا بل كانوا ثلاثة سباع. اقترب مني كبيرهم الذي تحاورت معه قبل قليل. اقتربَ مني جدا. وصرتُ اشعر بانفاسه الثقيلة تلوث وجهي. ثم قال لي:

-" ِلمَ لمْ تعط بطاقتك الشخصية من المرة الاولى؟!"

-" اكرر اعتذاري ولكن كان ينغي ان يعرف بنفسه قبل ان.... "

لم يدعني اكمل جملتي. وباغتني بضربة قاسية على ام وجهي. الضربة كانت بزخم عال اضطرني الى ان اتهاوى على اريكة جلدية كانت مستقرة خلفي. تملكتني دهشة هائلة. وشعرت باهانة عميقة ولكني لم أقو على الثأر لكرامتي المهدورة. فانا في حديقة حيوان. وحولي ضوار جائعة.

-" لاشك ان لك عقل حمار. بل انت حمار حقا، لانك تتحدى سلطة من يحفظ الأمن في هذا البلد العظيم. لكن لا بأس، فهنالك سوف تلقى المعاملة التي تليق بك وبامثالك. اتصلت بهم قبل قليل وقالوا لي ان سيارة البيك آب ستصل خلال دقائق."

كان يتحدث الي ويدون في سجل كبير بعضا من المعلومات الموجودة في بطاقتي الشخصية. مرت اكثر من دقيقة حتى استوعبت كم الاهانات والتهديدات التي تنتظرني. فكرت بسرعة ثم سالته:

-" الى اين سترسلونني؟."

-" الرضوانية ان شاء الله." ابتسم ابتسامة عريضة ومقيتة كشفت عن اسنان صفراء غامقة من أثر السكائر البخسة التي كان يتنفسها دون توقف.

" أووووف!" قلت في نفسي بعد ان سمعت ذلك الاسم المثير للذعر.

الرضوانية وماادراك ما الرضوانية؟! سجن الموت القابع جنوب غرب بغداد وقريبا من مطارها الدولي. تخيلتني هناك تحت سوط جلاد ملعون يقتات من دم المعتقلين ويغفو على انين جراحاتهم. بصراحة، كلما تحضرني سيرة تلك السجون العفنة أحمد الله حمدا كثيرا لانه أرسل الينا من بلاد العم سام من يقوض اركان تلك السجون التي كان الناس يسامون فيها سوء العذاب. الا ان ذلك المخلص اضطر الى تشييد معتقلات جديدة لم يكن فيها العذاب اقل وحشية الا انها دون شك لم تكن مزدحمة كسجون النظام السابق.

في تلك الاثناء وانا في انتظار ترحيلي الى الرضوانية، فُتحَ باب المكتب حيث كنت محتجزا ودخل شاب حسن الهندام يرتدي بذلة سوداء. يبدو انه شخص مهم لان ضابط الأمن وقف احتراما له عند دخوله. وانا وقفت ايضا. خوفا لا احتراما. تقدم نحوي خطوتين ثم قال لي:

-" هل انت فلان ابن فلان؟"

ترددتُ في الاجابة قليلا. لربما يود هذا السيد المتأنق ان يُفرغ مالديه من طاقة سلبية في وجهي ايضا كما فعل ذلك الضابط الشرير. هذه المرة ان حاول احدهم الاعتداء علي سوف ادافع عن نفسي وليحصل ما يحصل." قلت في نفسي ثم اجبته جوابا مقتضبا:

-"نعم أنا هو."

-" نحن متأسفون لما حصل لك. هنالك سوء فهم. سوف تخرج بعد قليل. ارجو المعذرة عما حدث!"

لم تحدث معجزة بكل تأكيد ولم يرسل لي الرب ملاكا من السماء ينقذني في اللحظة الأخيرة من سفرة قسرية الى سجن الرضوانية. كل ماحدث ببساطة هو ان ذلك الرجل المتأنق كان رئيسا لاتحاد الطلاب في الكلية ووالده كان عضوا مهما في الحزب الحاكم وله سطوة لا يستهان بها. في الحقيقة، لم اكن اعرفه معرفة شخصية ولم اره في حياتي قط الا ان احدى زميلات البنت التي كنتُ اجلس معها قرب حوض السمك كانت خطيبة له. وجرت وساطة نسائية سريعة خرجت بعدها باعجوبة. اللكمة شفيت منها بعد بضعة ايام الا ان الشتائم لم اشف منها لسنوات طويلة!

الحكاية الثانية

كما ان لأوائل الاشياء في القلب مستقر دائم، فان لاوائل الناس الذين نصادفهم في مشوار حياتنا بصمات لا يمحيها توالي الحدثان، الليل والنهار. ولاشك ان جاري محمد الذي التقيته اول مرة وانا لم اتجاوز الثامنة من عمري هو من اولئك الناس. كانوا يسمونه باسم مركب وغريب: محمد زيكو. كبرنا -نحن ابناء المحلة- ولا نعرف له اسما آخر. وقد أخبرني في الايام الخوالي من أتمنى أن يقرأ في يوم ما هذه الحكايا وهو جاري أيضا واسمه محمد أيضا ولكن بلا زيكو، أخبرني ان اسم زيكو اُطلق على محمد تيمنا بلاعب كرة القدم البرازيلي الشهير زيكو. لربما لان جارنا المذكور كان يمارس كرة القدم بصورة شبه يومية. الفرق بين زيكو البرازيلي ومحمد زيكو هو ان الأول يمارس كرة القدم في ملعب الماركانا في العاصمة البرازيلية ريودي جانيرو، اما الثاني فيمارسها في ساحة كرة القدم الشعبية في منطقة الهبنة التابعة لمدينة الكاظمية الواقعة شمال بغداد.

عتمة مساء غاب عنه القمر كانت تختلط بضوء شمعة صغيرة تنير احجار الدومينو الموضوعة بين اخي وجارنا مقبول. كانا متكئين على حائط بيتنا ويفترشان حصيرة تقيهما اتربة الرصيف. اما انا فكنت اجلس على دكة اسمنتية اراقب تلك المباراة التي لم يسمح لي بالمشاركة فيها لصغر سني. فاخي يبكرني بست سنوات ومقبول يكبر اخي بسنتين.

قبل بدء اللعب بثوان معدودة تناهى الى مسامعنا صوت محمد زيكو وهو يصيح كما يصيح الدوارة   -وهم الشباب الذين يتجولون في شوارع وازقة بغداد يشترون ويبيعون البضائع القديمة المستعملة-:

-" يا جماعة يا جماعة سمعتوا آخر خبر؟!"

تطلعنا اليه بلهفة وشوق لسماع خبره الأخير. كان يرتدي بجامة بيضاء مخططة باللون الاسود وينتعل خفا مصنوعا من مادة البلاستك المعاد على ما أظن والذي كان كثيرا ما يستخدم كاداة فعالة في العقوبات التي يتلقاها الاولاد المشاغبون على يد آبائهم. كنت مشاغبا بالطبع. لكن أبي كان ينتعل خفا جلديا لا بلاستيكيا. أظنه اقوى وأشد ايلاما. المهم، اقترب من الحصيرة حيث كان يجلس الاثنان -أخي ومقبول- ثم ابتسم ابتسامة ساخرة وقال:

-" غريب ابو شحمة صخّم الزُمالة!" بتشديد الخاء في كلمة "صخم". في الحقيقة كل ما تبادر الى ذهني في حينها هو السؤال التالي: ما الذي يقصده زيكو بقوله "صخم الزمالة"؟!

ما كنت اعرفه عن غريب في تلك الأيام، هو انه يبيع الفلافل في احد الشوارع الرئيسية القريبة من دارنا. اتذكر هيئته بوضوح رغم صغر سني. مربوع القامة واسمر اللون ودائما ما أراه يتصبب عرقا. كنت اتسلل اليه خفية حين اذهب مع أخي لشراء الخبز من مخبز قريب من بيتنا. منظر عربته التي تنبعث منها روائح الاطعمة المغرية يجذبني بقوة. ويجعل لعابي يسيل انهارا. وكنت لا أنطق حين اكون في حضرة ذلك المطعم المتنقل الا بجملة واحدة اكررها بطريقة هستيرية:

-" عمو غريب عمو غريب، ساندويشة فلافل وطرشي وكثر الطماطة الله يخليك."

عودة الى جملة زيكو: "غريب ابو شحمة صخم الزمالة." فعلى الرغم من اني لم ادرك في حينها المقصود منها لكني كنت ادرك معاني مفرداتها كل مفردة على حدة. فغريب ابو شحمة هو بائع الفلافل. و"الزُمالة" بلهجة البغادة -أهل بغداد- هي انثى الحمار. اما الفعل "صخم" فلربما مشتق من الصخام وهو الفحم، بلهجة أهل بغداد ايضا. بصراحة، كلمة الصخام لم تكن غريبة عني أبدا. فلطالما كانت أمي تقول لي حين ارتكب حماقة في البيت:

"ولك صخام الصخمك." ومازالت تستخدمها الى الآن ولكن عند الضرورة القصوى فقط.

بعد مرور بضع سنوات، سمعتُ القصة الكاملة لغريب ابو شحمة. حيث أخبرني أحد الذين عاصروا تلك الواقعة وعاشوا احداثها عن قرب انه كان لحميد البقال أتان -هي أنثى الحمار- صغيرة. وعربة غريب كانت تقف بالقرب من محل بقالة حميد. أما الأتان فكانت تسرح وتمرح بينهما. وفي ليالي الصيف كان غريب ينام على دكة في الشارع بالقرب من محل حميد. كان فقيرا فقرا مدقعا وكان ايضا غريبا عن منطقة الكاظمية. وقد اختلفت الروايات في تسمية المنطقه التي جاء منها في اوئل الثمانينات من القرن الماضي. علي اية حال، يبدو انه في تلك الليلة تعاطى مشروبا قويا. عرق او ماشابه ذلك. وحين اقفلت المحلات ابوابها وخلى الشارع من المارة احس غريب بميل نحو الاتان. كان يتيما وكذلك كانت هي. كان مغتلما وهي تتفجر انوثة. أقصد انوثة حيوانية. وقد اعتادت على ملمس كفيه وهو يربت على ظهرها اثناء ساعات العمل في النهار. لذا فهي لم تستغرب من الحميمية التي ابداها لها في تلك الساعة المتأخرة من الليل. الا انه في هذه المرة أوغل في الملامسة أكثر وصار يقترب من مناطق حساسة في جسدها.

صدق من قال: "الشيطان شاطر." وصدق ايضا من قال: "لا تقرب البنزين من النار." فغريب -وهو يمثل النار في هذه العلاقة- تجاوز الاربعين من عمره ولم يعد يصبرعلى وحدته فوهن أمام غلمته وتجاوز فارقي السن والنوع بينه وبين الأتان الشابة -البنزين- ووقع في المحظور. ما أدهشني حقا هو كيف أُكتشفتْ تلك العلاقة المحرمة بينهما؟! وكيف يمكن التأكد من انها حدثت فعلا؟! لربما كل ماقيل ويقال عن تلك الواقعة هو حديث خرافة وظلال. من يدري؟!

المهم حميد البقال اضطر بعد ان صارت أتانه تعامل معاملة العاهرات ويُنظر اليها في المحلة نظرة دونية وتتلقى من الصبيان كلمات بذيئة للغاية الى بيعها لرجل كان يعمل بائعا لاسطوانات الغاز ويملك عربة صغيرة يجرها حصان نفق مؤخرا. يزعم محمد زيكو بأن تلك الأتان قد باعها من اشتراها من حميد البقال بعد فترة وجيزة لاسباب مجهولة الى تاجر حمير يقطن في منطقة الكمالية شرقي بغداد والتي كانت تأوي بعضا من غجر العراق. ويزعم زيكو أيضا بأن الاتان المذكورة قد انجبت بعد شهورعدة من انتقالها الى حي الكمالية مولودا غريبا له رأس انسان وجسم حيوان. وقد حدثني زيكو في احد الأيام وقبل ان يهجر هو الآخر محلتنا في مدينة الكاظمية حديثا غريبا يوحي بأن لتلك الواقعة ما يؤيد صحة وقوعها: " والله مشتاق لغريب ابو شحمة والفلافل مالته. ياترى وين حل بيه الدهر؟ عايش لو ميت؟ بس تدري راح يبقى ذكره بهالدنيا موجود لانه الي خلف ما مات!"

        

الحكاية الثالثة

هذه الشوارع المكتظة بالسابلة والسيارات، وتلك الأبنية العامرة بمحلات البضائع ومكاتب الشركات والمطاعم والمقاهي، عشرات بل مئات الوجوه التي تمر امام ناظري، التعيسة والسعيدة، بما تحمله من شقاوة الاطفال وحيوية الشباب وتأني الكهول وحكمة العجائز، بعد قرن من الزمان، ما هو مصير كل تلك العمائر والشوارع؟ ومن سيقطن فيها؟ ويملاؤها ضجيجا وزحمة؟

تلك السؤالات كانت تجتاحني وأنا أتجول في شارع الرشيد والأسواق المتفرعة عنه في الثمانينات من القرن الماضي. الشارع المذكور في الأيام الخوالي كان قلب بغداد النابض، حيث كان علية القوم يتبضعون من محلاته ذات الماركات التجارية الشهيرة. اليوم وقبل ان ينقضي قرن من الزمان، تغير الحال بدرجة لا تصدق. وما كان فلما بالالوان صار بالاسود والأبيض. وكأننا نرجع القهقرى كلما تقدم الزمان وتوالت السنون.

في سيدي عامود، الزمان كان يتقهقر أيضا، ولكن الى الأمام والخلف في الوقت نفسه. فالابنية تتجدد والشوارع تكتسي ببلاط جديد أما الناس فكانوا يهرمون من كتم الانفاس وعيون المخبرين وقساوة عسس الحزب الحاكم والذي يحمل نفس اسم الحزب الذي كان يحكم في العراق قبل الاحتلال الامريكي في العام الفين وثلاثة. الا انه كان يمثل الجناح الأيسر منه، بينما في العراق كان الجناح الأيمن هو الذي يتولى زمام الأمور. وكأننا في ملعب لكرة القدم صار فيه الشعبان اللذان تجمعهما اواصرعميقة الكرة التي تركلها الأقدام. على أية حال، سيدي عامود لم يعد له وجود. والمنطقة التي تقع بين سوق الحميدية العتيق وشارع مدحت باشا في قلب الشام القديمة قد تغير اسمها الى ساحة الحريقة. ولا يخفى ان الاسم مشتق من الحرائق -وقانا الله شرها-.

حيث تروي كتب الأخبار نقلا عن رواة ثقات ان فرنسا الباغية وفي تمام الربع الأول من القرن الماضي كانت تصب نيران مدفعيتها -القابعة في مناطق حساسة ومرتفعة في دمشق- وقنابل طائراتها على معاقل الثوار في المنطقة الواقعة بين سوق الحميدية وسوق مدحت باشا والتي كانت تسمى بسيدي عامود نسبة الى الولي الصالح الشيخ احمد بن عامود المدفون هناك. ويقول احد المعاصرين لتلك الجريمة:

-"كانت دمشق تظهر للرائي من جبل قاسيون وكأنها كومة حطب مشتعلة. والخراب يعم أرجاء المدينة."

فتغير اسم الحي المنكوب بعد تلك الهجمات الشرسة من سيدي عامود -الذي أكلت النيران ضريحه- الى حي الحريقة. ومازال اسما على مسمى. والتالي من الأحداث سيكشف الألم المتواري في أزقة ذلك الحي.

- "ولاك أجدب، بدك تحرك من هون بالصرماية."

لم يجد ابو فهد بائع التمرية والكعك في دوار الحريقة بدا من ان يمتثل لاوامر مفوض الشرطة الذي كان يحمل في يده عصا قصيرة ويتجول في الدوار متبخترا، فحرك دراجته الهوائية التي تحمل على ظهرها صندوقا زجاجيا مربعا يحوي في داخله المواد اللازمة لعمل التمرية التي امتهن اعدادها وبيعها في الدوارالمذكور منذ ما يقرب من الاثني عشرعاما.

-" حسبي الله ونعم الوكيل. لا ترحمون ولا تدعون رحمة الله تنزل على الناس" قالها ابو فهد بصوت خفيض وبدأ بتحريك الدراجة. في الواقع كان قد اعتاد ان يركنها بالقرب من النافورة الموجودة في قلب الحريقة الا انه اضطر ذلك اليوم الى اللجوء الى احد الشوارع الفرعية ليركنها هناك. المارة في الدوار كثيرون والبيع افضل. الا ان للحكومة ومخبريها رأي آخر: "جوع كلبك يتبعك." حيث يعتبرون الشعب المسكين كلبهم المطيع. ولا يعلمون بانه سيتجرأ يوما ما وينهش لحمهم المهترئ.

-" الرزاق موجود في كل مكان. لاتحزن ياصديقي" قلت له بعد ان تبعته الى موقعه الجديد.

في الحقيقة وبعد ان تركت بغداد وأقمت في الشام كان يطيب لي التجوال بصورة شبه يومية في الشام القديمة. وهناك تعرفت على ابو فهد واعتدت المرور عليه كلما سنحت لي الفرصة بذلك. فللتمرية في قلبي موقع مميز. خصوصا تلك التي كان ابو فهد يسكبها فوق لوح الزجاج بطريقة غاية في الروعة. وكأنه قد توارث هذه المهنة عن ابائه واجداده. في حقيقة الأمر لم يكن الرجل قد ورثها من أحد. فابوه كان موظفا في بلدية العاصمة اما هو فبعد ان حصل على بكالوريوس التاريخ من جامعة دمشق قبل ربع قرن لم يجد وظيفة تطعمه وتطعم عياله الاربعة وزوجته. ولما لم يكن له ورثا يتكأ عليه لجأ مضطرا الى هذه المهنة التي لم يكن رأسمالها سوى دراجة هواية وحفنات صغيرة من السمسم والسكر والطحينة والدبس.

-" من علمك هذه المهنة يا ابافهد؟" قلت له متعجبا وانا التهم التمرية مع الكعك.

-" تعلمتها من شيوخ الكار في محلة الشاغور القريبة من هنا."

سكت قليلا لينهي اعداد تمرية أخرى لطالب مدرسة يبدو انه قد تسرب من مدرسته ليعمل في احدى المحال الموجودة هنا. وبعد أن قدمها له، اقترب مني حيث كنت اجلس على طابوقة اسمنتية بالقرب من دراجته ثم قال لي بصوت منخفض جدا:    

-" اتدري ان لاولئك الظلمة يوما اسودا ينتظرهم في القريب العاجل. قلبي يحدثني بذلك"

لبعض القلوب فتوحات عجيبة وأسرار غريبة قد لا نستطيع تصديقها احيانا. وقلب صديقي بائع التمرية كان من فصيلة القلوب المستبصرة تلك. حدث ذلك في العام الماضي. حوالي منتصف فبراير من عام الفين وأحد عشر. أي بعد ست سنوات من تركي للشام. كان الوقت قبيل العصر. والزحمة في الحريقة على أشدها. ركن احد الشباب وهو ابن تاجر معروف من تجار الحريقة سيارته على جانب الطريق في احد الشوارع الفرعية المؤدية الى دوار الحريقة. وحين عاد الى سيارته اقترب منه مفوض للشرطة لربما يكون نفس المفوض الذي صادفناه انا وابو فهد قبل سنوات خلت، ثم اخذ يضرب بيده سقف السيارة ويقول لصاحبها:

-" امشي يا حمار"

اشتاط الشاب غضبا وحاول الثأر لكرامته وفعل ما لم افعله مع ضابط الأمن حين هوى بكفه على وجه الشرطي الوقح. وفي غضون أقل من دقيقة، اجتمع الأسود -وهم رجال الأمن والشرطة- كما كانوا يحسبون أنفسهم، وسحبوا الشاب من سيارته واشبعوه ضربا امام الناس. الا ان ماكان بالامس عادة مألوفة صار اليوم جريمة كبرى. وماعاد بمقدور عسس السلطان ان يبصقوا في وجه احد الرعايا ثم يقول المبصوق عليه للباصق:

-"شكرا سيدي، أنا آسف للغاية لأني جعلتك تخسر بعضا من ماء فمك الطاهر"

ففي ذلك اليوم المشهود، حدث ما طال انتظاره، وما تنبأ به صاحبنا بائع التمرية قبل سنوات قليلة، وبدأت الانتفاضة. في عاصمة الياسمين، أقدم عاصمة مأهولة على وجه البسيطة. اما ما الذي حل بابي فهد ودراجته القديمة وصندوقه الزجاجي المدهش؟! فذلك الذي مازلت ابحث عنه.

خاتمة الحكايا

رُغتُ في ليلة استرجاعي لتلك الحكايا الى كتب المعاني افتش بين صفحاتها عن اسماء أخرى للحمار فلربما صادفت يوما ما اسما من تلك الاسماء لأن الأمر في هذه البلاد -اقصد البلاد العربية- لا يسلم من ذكر له او لواحد من اسمائه المعروفة او كناه. وقد لقيت في بحثي الحماري ذلك خيرا وفيرا:

الجورف - العرد - الكسعوم - المكراف - النخة - الكباص -العلج - الفيدار - الجلعد - الاخطب - الصعل - الصلصل - المصلصل - الصلاصل - الهمهيم - الدبل - النهاز - الكندر والكندير والكنادر - القلح - القلو - المعضض -المحلج – المحلاج، العكموس ... وفي رواية أخرى الكعموس..  

كل تلك الأسماء العربية الرنانة والمجلجلة لم تشفع لذلك الحيوان المسكين، الذي لم يسلم من أذى البشر جسديا، كما شاع في حكاية غريب ابو شحمة الغريبة. ومعنويا، حينما صار اسمه مرادفا لالفاظ السباب والشتائم كما كان يظن ضابط الأمن الدميم الذي يترصد العشاق المتسورين حول أحواض السمك وشرطي المرور الأحمق في دوار الحريقة.

أما أنا فأشهد بعد طول تأمل وعميق تفكير ان الحق لم يجانب أهل الفهم في علم البخت وضرب الرمل لما وصفوا حال أبي صابر في قولهم الشهير:

- "العكموس منحوس ولو علقوا في أذنه فانوس!"  

 

أبوظبي

04/04/2011

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد 2083 : السبت 7 / 04 / 2012)

في نصوص اليوم