نصوص أدبية

الحرب / صالح الرزوق

أن يتوقفوا حتى الفجر في محطة فابريانو الصغيرة، ثم أن يتابعوا الرحلة بالعربة الصغيرة المحلية ذات الطراز القديم، قبل الانضمام للخط الرئيسي في سولمونا.

وعند الفجر، دخلت امرأة ضخمة إلى عربة الدرجة الثانية التي تختنق بالدخان، حيث أمضى الليل خمسة أشخاص، وكان يخيم عليها حزن عميق، وكانت كأنها كومة لا شكل لها، وخلفها زوجها وهو ينفخ ويئن .. بحجمه المضغوط وقامته الهزيلة والضعيفة، وبوجهه الأبيض الذي له شحوب الموتى، وعينيه الصغيرتين ومظهره المشرق والخجول والمقلق.

وأخيرا بعد الجلوس على مقعد، تقدم بآيات الشكر بتهذيب للمسافرين الذين أعانوا زوجته وأفسحوا لها مكانا، ثم استدار نحو المرأة التي تحاول أن تخفض من قبعة معطفها، وسأل بأدب بالغ: هل أنت على ما يرام يا عزيزتي؟.

وعوضا عن أن ترد زوجته عليه، سحبت القبعة حتى عينيها لتغطي وجهها.

قال الزوج مع ابتسامة حزينة: عالم سخيف.

وشعر أن من واجبه أن يوضح لإخوانه المسافرين ضرورة التعاطف مع هذه المرأة التي أخذت منها الحرب ابنها الوحيد، وهو صبي ابن عشرين عاما. لقد وهبه كلاهما كل ما أمكن. ووصل بهما الأمر لحد التخلي عن بيتهما في سولمونا للسفر خلفه إلى روما حيث اضطر للانتقال إليها للدراسة، ثم إنهما سمحا له بالتطوع في الحرب، مع ضمانات أنه لن يلتحق بالجبهة قبل ستة شهور على الأقل، ولكن فجأة استلمت أمه برقية منه تخبرها أنه على وشك المغادرة في غضون ثلاثة أيام، ويطلب فيها زيارته لوداعه.

تكومت المرأة تحت معطفها الواسع واهتزت، وكانت أحيانا تتحرك مثل حيوان شرس، دون أن يفارقها الشعور أن كل هذه التوضيحات لن ينجم عنها ولو أدنى حد من تعاطف هؤلاء الناس. وربما هم في نفس المصيبة التي تمر بها. وهذا هو الأرجح.

قال واحد من الحضور الذين كانوا يصغون بانتباه: يجب أن تشكري الله لأن ابنك سيغادر الآن إلى الجبهة. ابني هناك من أول أيام الحرب. و جاء مرتين مثخنا بالجراح و مع ذلك أعيد إليها.

قال راكب آخر: وماذا تقولون عني. لدي ابنان وثلاثة أبناء عم على الجبهة.

وتدخل الزوج ليقول: ربما معك حق. ولكن في حالتنا إنه ابننا الوحيد.

- وما الفرق؟. قد تفسد ابنك الوحيد بالدلال المفرط. ولكن لن تحبه أكثر من محبتك لأولادك الآخرين لو رزقت بغيره. الحب الأبوي ليس مثل الخبز ويمكن تقسيمه إلى كسرات صغيرة وتوزيعه على أولادك بنفس النسبة. الأب يحب كل أبنائه من غير تمييز. سواء بلغ عددهم واحد أو عشرة ، وإذا كنت أعاني من غياب ابنين لن أعاني نصف معاناة لغياب كل واحد منهما وإنما ستتضاعف المعاناة.

تنهد الزوج المرتبك وقال: صحيح. هذا صحيح. مع أننا نتمنى أن لا نكون في مكانك الحساس، ولكن افترض أن لأحد الآباء ابنين على الجبهة، وفقد أحدهما، لا يزال هناك آخر يسلو به مصيبته.

تدخل الآخر وقال: نعم، سيكون الابن الحي على سبيل عزاء له، ولكن أن يبقى ابن واحد على قيد الحياة يستوجب أن يخصص وقته له، ولكن في حالة أب بابن واحد، لو مات، يمكن أن يموت معه مغشيا عليه، وهذا يضع حدا لعذابه. أي الحالتين إذا أسوأ؟. ألا ترى أن وضعي سيكون أصعب وله وقع أسوأ على النفس من وضعك؟.

قاطع الحديث مسافر آخر وجهه مصبوغ باللون الأحمر، وعيناه مكفهرتان، وهيئته رمادية شاحبة بقوله: هراء.

كان يربت بيده. وعلى ما يبدو من عينيه الجاحظتين أنه ينطوي على أخلاق مشاكسة لا يمكن التحكم بنتائجها، وبالكاد بوسع جسمه الضعيف أن يعلم كيف يستخدمها. تابع يقول بنفس الطريقة: هذا هراء. هراء. هل نحن ننجب أولادنا لمنافعنا الشخصية.؟

حاول أن يغطي فمه بيده ليخفي سنين أماميين مفقودين. نظر له بقية المسافرين مليا، وأضاف الشخص الذي رحل ابنه إلى الجبهة منذ أول يوم للحرب: أنت على صواب. أولادنا ليسوا متاعا لنا. هم ملك للوطن.

قال المسافر البدين: آه. هل كنا نفكر بالوطن يوم أنجبنا أولادنا؟. أولادنا جاؤوا للحياة لأنه... حسنا، لأنه يجب أن يروا النور، وحينما دخلوا ميدان الحياة أكلوا من عمرنا. هذه هي الحقيقة. نحن ملك لهم ولكنهم ليسوا ملكا لنا. وحينما بلغوا عامهم العشرين كانوا بنفس الصورة التي كنا عليها ونحن بهذا العمر. نحن أيضا لدينا أب وأم. ولكن كانت هناك أشياء أخرى كثيرة أيضا... البنات والسجائر والأوهام وربطات العنق الجديدة... وهناك طبعا الوطن الذي كنا نلبي نداءه ونحن بعمر عشرين عاما، ولو لم يقبل بذلك آباؤنا وأمهاتنا.

والآن بهذا العمر، لا يزال حب الوطن هو همنا الأكبر، وطبعا هو أكبر من حبنا لأولادنا. هل بيننا من لا يحل محل ابنه على الجبهة بكل سرور لو أمكنه ذلك؟.

ران الصمت وهز الجميع رؤوسهم علامة الموافقة. ثم تابع الرجل البدين يقول: لماذا إذا لا ننظر لمشاعر أولادنا ونتعامل معها وهم بسن العشرين عاما؟. أليس شيئا طبيعيا أنه بعمرهم يجب التعامل مع حب الوطن على أنه أقوى من حب الأهل ( طبعا أنا أتكلم عن الأولاد المستقيمين)؟. أليس من الطبيعي أن تكون الحال على هذه الصورة؟. وأنه بعد ذلك يجب النظر لنا كأننا أولاد في نهاية العمر، ولا يمكن لهم الحركة ويجب عليهم أن لا يغادروا البيت ؟. لو أن الوطن موجود، لو أن الوطن حاجة طبيعية مثل الخبز، الذي نأكل منه كي لا نموت من الجوع، على بعضنا أن يدافع عنه. وقد فعل ذلك أولادنا حينما أصبحوا بعمر عشرين عاما، وهم لا يرغبون أن نذرف الدموع لو لاقوا حتفهم، فهم يموتون لدواعي التضحية، وبسرور (وأنا أتكلم طبعا عن الأولاد المستقيمين). ولو مات أحدهم شابا وبطواعية، دون أن يرى الجانب الحالك من الحياة، ضجرها وسأمها، عجزها ومرارة اليأس المرافق لها... ماذا يمكن أن نطلب له غير ذلك؟. يجب أن لا نبكي عليه، بل يجب أن نشعر بالسعادة له، وها أنا أنفذ هذه الوصية، وأقله ، والشكر لله، هذا ما أقوم به، و لعلمكم أرسل لي ابني قبل موته رسالة تقول إنه يموت باطمئنان لأنه أنهى حياته بأفضل طريقة تمناها. ولهذا السبب كما ترون لا أضع إشارة الحزن.

ثم هز معطفه الخفيف البني وكأنه يلفت نظرنا له، وارتعشت شفته المكتنزة التي تغطي سنيه المفقودين . كانت عيناه براقتين وبلا حركة، وسريعا، أطلق ضحكة حادة يمكن أن تفسرها كتنهيدة حارة.

وافق الآخرون قائلين: معك حق. كما تقول تماما.

أما المرأة التي جلست في الزاوية مثل حزمة تحت معطفها، لتستمع لهم، كانت لثلاثة أشهر مضت، تحاول أن تجد في كلمات زوجها وصديقاتها بعض العزاء، لتنسى أوجاعها الدفينة، أو أن تجد شيئا يمكن أن ينير لها الطريق ويبرر للأم أن تمتنع عن إرسال ابنها للموت أو حتى أن تجنبه الخطر الداهم الذي قد يودي بحياته. ومع ذلك لم تجد كلمة واحدة بين كل ما قيل أمامها... وكان شقاؤها أكبر لأن أحدا، كما تعتقد، لم يشاطرها أحزانها.

ولكن الآن سحرتها كلمات المسافر وتقريبا أدهشتها. وفهمت فجأة أن الآخرين لم يخطئوا وليسوا هم من لم يستوعب مشكلتها، ولكنها هي من لم تتمكن من الارتفاع لمستوى أولئك الآباء والأمهات الذين بحثوا عن طريقة للسلوان، من غير بكاء، ليس بسبب رحيل أبنائهم ولكن أيضا بسبب موتهم.

رفعت رأسها، ومدت قامتها من الزاوية في محاولة للاستماع وبانتباه شديد للتفاصيل التي كان الرجل البدين يشرحها لرفاقه حول الطريقة التي سقط فيها ابنه ميتا ولكن ببطولة، من أجل الملك والوطن، كم أسعده أن يستشهد. هكذا قال. ولم يندم على ذلك أبدا. كان يبدو لها كأنها تصادف عالما لم تحلم به يوما، عالما غير معروف لها. وقد سرها أن تسمع الجميع وهم يهنئون ذلك الأب الشجاع الذي تمكّن من الحديث بهدوء حول ملابسات موت ابنه.

وفجأة، كما لو أنها لم تسمع شيئا مما يقال وتقريبا كأنها تخرج من حلم، استدارت إلى الرجل العجوز، وسألته: وماذا بعد؟. هل حقا لقي ابنك مصرعه؟..

وهنا نظر لها الجميع. والتفت الرجل العجوز إليها لينظر لها بدوره. وثبت نظراته عليها، بعينيه البراقتين الرماديتين، وغرسهما عميقا في محياها. ولقليل من الوقت، حاول أن يرد، ولكن الكلمات خانته. أمعن النظر بها مرارا، وتقريبا كما لو أن هذا السؤال الغريب السخيف، قد أكد له أخيرا أن ابنه الآن في عداد الأموات... أنه رحل إلى الأبد، إلى الأبد. فانكمش وجهه، وأصبح ممسوخا على نحو مريع، ثم التقط بتردد منديله من جيبه، ولدهشة الجميع، انفجر في أنات متواصلة تفطر القلب ولا يمكن إيقافها.

 

العنوان باللغة الإنجليزية: War . للكاتب الإيطالي المعروف Luigi Pirandello .

 

ترجمة صالح الرزوق - 2012

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2089 الجمعة 13 / 04 / 2012)


في نصوص اليوم