نصوص أدبية

في شارع جلان جاكسا / جمال حافظ واعي

  

أعلنت كابينة قيادة الطائرة عن وصولنا إلى مطار جاكرتا في أندنوسيا.

كان الوقت صباحا.

خارج المطار حشد من السواقين يتقافزون من حولك محاولين انتزاع الوجهة التي تقصدها، وما أن نطقتُ بأنني أتوخى الذهاب إلى شارع "جلان جاكسا"  حتى تراصفَ أمامي الكثير، وأخيرا اتفقت مع أحدهم، وهكذا حطّ بي الرحال في شارع جلان جاكسا.

كانت الساعة العاشرة صباحا بتوقيت جاكارتا وكان الشارع شبه خاوٍ إلاّ من أصوات أصحاب الدراجات البخارية.

لن تجد تسمية للصباح في جلان جاكسا إلاّ انه بقايا فوضى الليل والاحتدام المتصل، ذلك التسرب المريب للنوازع والمساومات والملاحقات التي تشبه مطاردة الإنسان لذاته.

تحيط بالشارع أزقة جانبية ملتوية تشبه أزقة منطقة الميدان في بغداد إلاّ انها أعرض منها.

روائح المجاري تزكم الأنوف والشيوخ والعجائز يجلسون أمام البيوت يحدقون بالمارة والابتسامة لا تفارق محياهم.

روائح تتسلق التقاويم وتنزّ من الجدران التي تحمي انهماك الشهوات.

عند اختلاط الظلام تتسرب الحياة إلى الشارع، ينفض عنه غبار سكرة الأمس ليمضي في مشواره الضاج.

ليس ثمة صفقات مخفية.

الصفقات تنعقد في الهواء الطلق وبأصوات عالية إذ ليس من فضيحة يخشى سريانها.

وجوه تديم نزيف النزوات العابرة لسلالات قدمت من أقاصي الأرض.

أجساد بضة وصبايا بعمر الزهور يتجولن في الشارع أو يجلسن على كراسي مطاعمه الصغيرة ومقاهيه بانتظار الزبون القادم.

الشهوات معلقة على مشاجب الأجساد التي تقطع الشارع عرضا وطولا وكأنها في ماراثون للجنون.

جلان جاكسا تركيبة غريبة من شتى الأجناس والأنواع.

أية تلويحة هنا، تتلقفها الأبصار الشاخصة نحو السائح الغريب، فهذه التلويحة تُبنى عليها الكثير من الآمال، فهي تلويحة الحياة.

سياح من الشرق الأوسط يمارسون عدوانيتهم وهم يتعاملون مع الأندنوسيات فكأنهم ينتقمون من صرامة التقاليد في مواطنهم الأصلية.

قارات العالم بأسرها وطأت هذا المكان ومشت فيه سلالاتها المختلفة لشتى المآرب حتى يشعرك بأنه رئة كونية تتنفس فيها الأجناس جميعا.

الغرباء يفرض عليهم المكان الجديد شروطه والغريب بحاجة إلى من يعرفه تحسبا لأي طارئ وتحسبا للمواجهات المحتملة.

اللذائذ محمية بسطوة الشارع وربما باسمه الذي يمنحه هذه السطوة.

ليس ثمة مجازفة خلف الأبواب الموصدة أو المواربة وكل شيء مباح ومستباح والمطر الاستوائي في هذه البلاد لا يمحو ما تدونه الأجساد.

البعض الآخر يشهر دولاراته بين لحظة وأخرى كلما أبصر حشدا من النساء، فالقادمون من المدن البعيدة لا يوجد لديهم ما يستعرضونه إلاّ نقودهم.

النقود هي اللغة الوحيدة في الشارع التي لا تحتاج إلى ترجمة.

ليس من رقصة هنا إلاّ رقصة الدولار والروبيّة " عملة البلد " فهي التي تجعل الأيام مختلفة عن سواها وكلما أسرفتَ في العطاء ذابتْ أجساد بنات الليل في حضرتك وكم تتمنى هذه الأجساد أن يطول الليل إلى ما لانهاية  لكي يتم حلب آخر قطرة فيك.

انها لعبة الحياة وربما هي درس من دروس الجوع الذي ينتقم لنفسه.

فلا أحد يرد لك يدا عندما تعطيه، بل انه يحاول أن يجعل من هذا العطاء واجبا يوميا عليك تسديده إلى أن يتحول إلى استنزاف يومي.

اخبرني أحد ضحايا الشارع، في نوبة عصبية، بأنه انفق كل الدولارات التي كانت بحوزته في أيام معدودة  ثم تحول إلى شحاذ يستجدي فتات الأكل وأعقاب السكائر.

ليس لك ما يخصك هنا، وما تراقبه يراقبه كثيرون غيرك وما عليك إلاّ أن تتصابى لتخدع نفسك أو توهمها بحيازة شيء ما.

الشارع لا يعدك بشيء طالما انه يستنزف حواسك، قبل أن تصرخ وجدتها، حتى وان وجدتها وظفرت بها فعلا، فلربما كان ذلك فخا لك.

هذا الشارع، يبقى يقظا إلى صلاة الفجر حيث تنسل آخر فتاة إلى مخدعها بعد عجزها في الظفر بزبون.

معظمهن يستأجرن غرفا قريبة من الشارع ليذهبن إليها لتعديل زينتهن أو للاستحمام والتخلص من روائح الجسد والتعرق المستمر الذي يسببه المناخ الاستوائي.

وجوه الليل ليست هي وجوه النهار، ثمة عالم من المساحيق تُنحت فيه وجوه جديدة لتكتمل الخديعة، وكل وجه يُبكّر بالحضور إلى الشارع قبل أن يسيل رماد المساحيق مع سيلان الظلام.

الأفارقة الملونون يعيشون هنا عيشة الأباطرة بملابسهم الفاخرة الأنيقة وسياراتهم بموديلاتها الحديثة وغالبيتهم يعمل، كما علمتُ، في تزوير العملة وتهريب الممنوعات.

وهم دائمو الصياح ويتشاجرون مع بعضهم البعض بسبب وبدونه.

جلان جاكسا معادلة الوجود الصاخبة، فحيح لا ينتهي عند حدود ما.

عندما جلستُ في الكافتريا التي تتوسط الشارع جلست إلى جواري فتاة، وجهها الطفولي حرضني على الابتسام لها فاقتربتْ مني أكثر، كانت تبدو مثل طفلة تنظر بعينين شائهتين. لقد أحسستُ بأنها تريد أن تقول شيئا ما لكن ثمة ما يمنعها.

قلت لها باللغة الانكليزية: ما اسمك؟

فقالت على الفور: رحمة.

نطقتها بالأندنوسية وعيناها تتشبثان بي فكأنني قذفتُ لها بطوق النجاة.

قلت: هل أنت جائعة؟

فأوماتْ برأسها.

طلبتُ لها وجبة من أحد الباعة المتجولين.

بعد أن التهمتْ وجبتها بشهية قالت: أين تسكن؟

قلت: في مكان قريب من هنا. 

قالت: هل أستطيع الذهاب معك؟

قلت ليس الآن وإنما غدا.

فأخذتْ تكرر بانزعاج: tomorrow… tomorrow

ثم تركتها ومضيت.

لقد أطلقوا عليّ لقب مستر tomorrow  في هذا الشارع، فكلما سألتني أحداهن على الذهاب معها أقول لها: tomorrow 

ذلك الغد الذي لن يأتي أبدا..

ما أن تتحدث مع امرأة في هذا الشارع حتى تصدمك بالنغمة ذاتها، نغمة الجوع.

الجوع هو نشيد الجميع والأجساد المعروضة في الهواء الطلق تجاهد البقاء.

كل من تصادفها في هذا الشارع تقول لك ان لها ابنا أو أشقاء تطعمهم ومسؤولية ملقاة على عاتقها..

***

 

تتشابه شوارع المدن التي تبيع اللذة في دول الشرق وتكاد تحتضن نفس الوجوه التي ترعرعت في قوقعة العوز المستديم.

ليس ثمة  مقارنة بين الوجوه الخارجة من ثقوب الحياة مادامت تطفو على ذات المستنقع.

أنت هنا لكي تعطي، لكي تنفق، لكي يرضى عنك الجميع، انه شارع الحاجة التي لا تنتهي والسؤال الذي ليس له نهاية.

فكل شيء له ثمن حتى عبارات السلام التي تتطلبها المجاملة، وقد تكلفك ثمنا باهضا  فللتعارف ضرائبه، ولكي تكسب مودة الآخر لابد أن تكون سخيا بمناسبة وبدونها.

كل يوم هنا له فاتورة مختلفة، ربما هي ليست لتسديد حسابه، فاتورة لها شكل الضريبة الغامضة، وفي أحيان كثيرة يتوقع السائح ان من يقول له صباح الخير ان يقدم له بعدها فاتورة هذه التحية.

لابد أن تراوغ في الكلام وتناور في إعطاء المواعيد وان لا تقود الحديث إلى نهايات مغلقة

فليس ثمة رغبات مكبوتة في هذا الاستعراض الكبير للأجساد الطرية.

لا يحاورك الشارع من مدخله ومخرجه وإنما يحاورك من منافذه المتعددة التي تفضي إليه، شارع يتسع في المكان وتتسع خطواتك فيه.

وهذا الشارع يشبه شارع " لكيان ستريت " في جزيرة " بالي " السياحية إلاّ أن لكيان ستريت أطول منه كثيرا وتنتشر فيه الكثير من الملاهي الليلية ومحلات المساج والنساء اللواتي يعملن فيها والمكاتب السياحية المختلفة.

إننا نتآلف مع الأشياء بمقدار ما تبثه فينا من هواجس وبمقدار ما تستنفر ذكرياتنا المطمورة قي القيعان الرخوة لوجودنا.

جلّ ما تخشاه ابنة الشارع أن ينقشع الظلام دون أن يشتري جسدها أحد ما وينعكس ذلك على تضاريس وجهها وحالة القلق التي تنتابها.

قبل انبلاج الفجر ترتحل كائنات الليل إلى جحورها ومكامنها  مخلية السبيل لما كتبته بالأمس على صفحات الشارع لشمس أخرى تمحوه، أسوة بلياليها الممحوّة.

وغالبا ما أرى النسوة المنسحبات من الشارع في هذا الوقت وهن يجرجرن " يجررن " كما يقول أهل اللغة، أذيال الخيبة، إذ تلاحقهن خسارة هذا اليوم الذي مر دون زبون ما.

كما ان النساء تأوي إلى هذا الشارع بعد فشلهن في اصطياد زبون في الأماكن الراقية فهو الملاذ الأخير لهن للاصطياد.

ليس ثمة حقيقة في هذا الشارع إلاّ حقيقة الأجساد التي تراوغ ذبولها.

التتابع هو المشهد الحر للوجوه التي تحاول أن تنجو وهي تعد العدة لإدامة متطلبات الجسد والحيلولة دون صراخه، فما أقسى أن تكرر تلك الوجوه نفس القفزات في البركة الآسنة للوجود.

هنا تواجهك محنة أن تقدر عمر المرأة فهي تبدو أصغر من سنها بكثير وكأن الزمن الذي يمر عليها يواسي محنتها فلا يترك أثره مبكرا.

يبدو ان الجميلات يختصرن الحياة بالنزول إلى هذا الشارع مبكرا وهنّ بهذا يجنبنَ أنفسهن مشقة الدراسة ومشاق الحصول على العمل.

الكثير منهن يأتين من الجزر البعيدة والأماكن النائية، ففي العاصمة جاكرتا يكثر السياح وتضمحل الأعراف والتقاليد التي تزخر بها هذه المدن.

لا عدوانية هنا، الجميع يضحك رغم الفقر وشراسة الحياة.

قال لي أحد الأصدقاء، وهو يحذرني، قبل رحلتي إلى أندنوسيا: ان الأندنوسيين كذابون لقد أمضيت في أندنوسيا أكثر من خمس سنوات وتعرفت إليهم عن قرب.

لم أصدقه أول الأمر ولكن الصورة أخذت تتضح أمامي الآن، ان الخوف من الغد يجعل الإنسان يحتال على كل ما يحيط به وأولها نفسه.

الكذب مسموح به في هذا الشارع أشبه بقانون غير مكتوب، بل انه القانون الأوحد فكل شيء يكذب عليك حتى اسم الشارع، فاسمه يعني بالعربية، كما اخبروني، شارع الاستقلال.

ليس هناك موازين للقياس مادامت الفجوة هائلة بين الذي يملك كل شيء وبين الذي ليس له أية حصة في الرصيف الذي ينام عليه.

فالغد مشمس وجميل للأثرياء، الذين يتكئون على أرصدتهم في البنوك، وهو وحش ومفترس للمعدمين الذين يتكئون على خوائهم.

فهل ثمة وصايا نعلقها على رقاب المحرومين ليواصلوا المسيرة على قرع طبول المعدة الخاوية؟

 

استراليا

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2089 الجمعة 13 / 04 / 2012)

في نصوص اليوم