نصوص أدبية

وادي السلام / عبد الفتاح ألمطلبي

مضى زمنٌ وجاء زمنٌ ولا زالَ بندولها المتوقف يحملُ ذاتَ النقوشِ الفسيفسائية السلطانية التي استحال لونها إلى لون نحاسي مخضرّ يتبقع بآثار عصور ميّتة لم يعبث أحد بعقاربها الكبيرةِ ولا امتدت يدٌ لتنظيفها من الداخل منذ أيام الباشا حين أشرف بنفسه على وضعها في جهات منارة الجامع الأربع  كانوا يكتفون بتلميع زجاجها فقط، هذه المدينة   تململت وسُمعَ لها هسيساً، لم تكن قد شغلت قاطنيها و أرّقتهم من قبل كل هذا الأرق الحاصل الآن  فقد كانت فيما مضى  مثل كثير من المدن تستمد أنفاسها من النهر قبل أن يموت بفعل فاعل لم يعرفه أحد هذا ما أشاعوا فيما بينهم، لكنهم حين يختلون بأنفسهم  في مهاجعهم  ساعةَ لا يتوقعون أن يقتحم دواخلهم أحد يهمس لهم هامس من داخلهم بحقيقة الأمر، موت النهر، هه،موت النهر من لا يدري، هم أولاد ذوي الأكف الغليظة والشوارب المعقوفة مثل ذناب العقارب وضعوا إنتيكة صدئة في بلعوم النهر كانت النية قديمة من أيام المكس و الوكس السلطاني، وحينَ كانت سفنهم وحرّاقياتهم1 تمخر مياه النهر رائحة غادية تنحدر صوب الجنوب ثم تصعد عائدة ً إلى مخازن السلطان محملة بحليب الجاموس وتمر البرحي وعنبر الشامية و أولاد الناس خدام السلطان يأخذهم (الإنكشاري)2 من تحت عباءات أمهاتهم مع ركلة سلطانية على خواصرهنّ  منذ ذلك الزمن و الأمور باقيةٌ على حالها،الأفذاذ الوكلاء ذوي العيون الزرق والخضر والوجه الأحمر المنور بنور النبي( صلوات) لا يزالون ينعمون في بحبوحة الرسم السلطاني الذي لم يتبدل فالوالي الذي استولى صار متصرفاً والمتصرف بالرقاب صار محافظا على أموال تُجبى للطغاة، لا شيء تبدل منذ ذلك الحين،الذي تبدل أن السلطان خلع الطربوش ولبس ربطة العنق، أبدل السفن والحراقيات بالطائرات وصواريخ البر والبحر والريش على الطربوش بخوذة الجنرال، لا فرق إن جاء من الشمال  أم من الغرب من أين يأتينا فهو سلطان مادام بيده السوط والسلاسل الجلود تعرف السلطان من سوطه وسلاسله  إلا أن الذين يضعون على رؤوسهم العلامات، سوداً  أو بيضاً أو خُضراً هم ُ هم لم يتغيروا ، نضب الحليب والعنبر وعانى الناس من ألعقم الآتي من الركل تحت الحزام  فلا ينجبون خدما للسلطان ولا ماسحي أحذية لسلطان بربطة عنق  إذن ما نفع النهر فليمت سوف لن يحيا إلا بسلطان والسلطان غيّر طباعه فلم يعد  يريد غير الزيت الأسود والزيت في الأعماق و ها أنت ترى الناس يحفرون تحتَ أقدامهم تسمع لاصطفاق معاولهم ومجارفهم  ضجيجا حين قالت أمي العجوز  التي أخلصت لله وحجت لبيته الحرام، وجلبت كفنها من دكاكين المدينة التي راجت فيها صناعة الأكفان وازدهرت تجارتها، قالت وهذا كيسٌ لعظام أبيك جلبته من هناك  أوصيك بالرفق بها حين نبشه وتأكد من عد عظامه ( مائتا عظمة ً وست ) لا أريده أن يأتيني دون فك سفلي أو ضلع مفقود، كل ذلك لتشاغل الظمأ الذي أحسته  فقد بات موت النهر حديثنا جميعا، كلهم يقولون موته معناه موتنا الأكيد وعندما راودهم شبح الظمأ حتى قبل أن يظمئوا بقليل و أرادوا رفع عقيرتهم بالصراخ وهم يعلمون عدم جدواه، قبلوا بما دُسّ لهم من معاول ومجارف فراحوا يحفرون تحتهم فتنخسف الأرضُ الرخوة ببعضهم ويُدفن ُ آخرون فتنتعش سوقُ الأكفان ليبتهج السلطان، منذ ذلك اليوم انشغلت المدينة، بالحفر والردم  و راحوا يُسقون بماء كدر دون أن يتوقفوا عن الحفر، لم يموتوا من عطش فقد كان الجميع يحصل عليه في المهاجع لقاء الحفر و النبش، القليل مما يحفظ لهم الحياة بالكاد يرتوون والصادي المشرف على هلاك لا تهمه كدرة الماء، المقتول عطشاً لا يهمّه ولو شربَ بولَتهُ، البولُ سيتحول ببركة  الوكلاء أولي الوجوه الصبيحة والعيون الملونة وتلك الجلود التي لم توغل بسفعها شمس تموز، سيتحول إلى ماء قراح و من لا ينبش لا ماء له، من لا ينبش فقد خرج عن الولاية  وللسلطان رأيٌ فيه، و هكذا كانت المدينة كلها عن بكرة أبيها تنبش من أجل السلطان الجديد وزيّهِ الغريب ونزواته لقاءَ ماءٍ كفافٍ كالمُهلِِ، يُثخِنونَ الأرضَ وتثخنهم بالجراح، حرب ضروس، وككل مدينة يموت فيها الناس في حرب كهذه وككل الأحياء يكرهون الموتى بينهم فيرقدونهم هناك خلف الهضبة  ويعودون لمعاولهم ومجارفهم ليواصلوا حربَ الحفر والنبش ويسقط آخرون  كانت أمي تشعر بوهن بادٍ حين تراني وقد أرهقني النبش فماتت بعد حجّها للبيت المعمور بقليل قالت عندما وصلت، الآن فقط يمكنني أن أموت إذ أراك رجلاً، ولم تكد تكمل جملتها فتذكرت ما عنّ لها و عما سيؤول إليه وضعها خلف الهضبة  فأردفتْ : وأنت أيها الولد خذ مني كيس عظام أبيك الذي جلبته من البيت المعمور مع فص المسك ولا تنسَ أن تضع فيه عظامه، ستجده هناك في مرابع أيامنا الجميلة  قرب الذكرى التي لم تمت  في قرية صباه ومجده الذي عرفته إبانهُ أيام كان النهر مخيفا لا خائفا  أيام كان حياً لا ميتاً أيام الموت السعيد  هناك بين أهلهِ مات ، دفنوه في سفح النهر( نهر الملفود)3  كان معهم طوال الوقت  يحدثونه عن كل ما فاته من ليالٍ مقمرة حجب قمرها عنه التراب، وها أنت ترى  لم يعد مهتما بما يجري فقد مضى وقت طويل، طويل يا ولدي، النهرُ مات  والأهل ماتوا و أنا وأنت هنا في مدن الحرب القائمة وسلطانٌ يذهب وسلطانٌ يأتي، ورغم أن لاحرب هناك خلف الهضبة يا ولدي  ورغم أن الهضبة أكلت أرض المدينة و توسعت ورغم أن المجارف والمعاول باتت تحفر ليل نهار هناك خلف الهضبة  إلا إنني سأشعر بالغربة والوحشة فاذهب يا ولدي ولا تهتم واجعل ساعة الجامع العتيق وبندولها الذي توقف ذات الوقفة منذ القدم خلف ظهرك واعلم إن الرب هو الهادي فإلامَ تنظر إلى ساعة متوقفة في كل الجهات، اذهب يا ولدي الرب سيهديك لعظام أبيك اجلبها وأضجعها قريبا من مثواي  لعله يدفع عني وحشة تلك الليالي  التي ستأتي، واعلم إن لي معه كلاماً كثيراً كنت قد أجّلت الحديث فيه منذ كان حيا، كان لا يحب الكلامَ الكثير لذلك كنت لا أكلمه  لكنني صرت مهووسةً بمناجاته بعد موته وها أنت ترى لابد لي من الحديث معه، هذا ما كانت تقوله أمي التي اضطجعت هناك خلف الهضبة، تركتني حائراً وماتت ولا زال كيس عظام أبي فارغاً فقد اندثرت القبور وضاعت العظام بين الحصى والإسفلت على طريق النفط  فمن أين سآتي بعظامه يا أمي  وأعلم أنك تنتظرين وإن بك رغبة للحديث معه وإسماعه ما كان يجب أن يسمعه منك قبل موته، الحرب قائمة يا أمي هذه المرة يحفرون من أجل ماء أسود، وعما قليل سنشربُ من سواده وستواصل الهضبة زحفها على المدينة  التي لا تعرف غير حرب تنجب حرب وسيزدهر الموت مرة أخرى ما دام هناك سوقٌ للأكفان يرعاها السلطان،اصمدي وانتظريني بمكانك،الله يعينك على الاحتفاظ بمثواك فزحام الموتى شديد،وهذا أنا وبيدي كيس عظام أبي المعطر بالمسك ذهبت هناك حيث تنام عظامه على سفح ( الملفود)3 الملفود لم يعد كما كان ما من شيء ملفود إلا الصدور ملفودة برياح الحزن، لم أجد قبر أبي حيث وصفتِ يا أمي،كان يقف هناك رجل حائرٌ لا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يبدأ بالحديث وكأنه ينتظرني وحين سألته سارع بالإجابة قائلاً :

ـ أوه كأنك من أهل الكهف، لم يعد هنا  من عظام كلها اندثرت و أدركها النسيان ولم يعد هنا تحت أسفلت طريق النفط غير عظام لا يدعيها أحد، أين كنت طوال هذا الوقت؟

ـ هذه مشيئة أمي ياعم أمي الميتة  في وادي السلام!

ـ هنا يا ولدي خيم الإنكليز  ثقبوا قبر أبيك بحثا عن النفط، ردموا ثقوبهم واتجهوا إلى( الجكة)4 وتل (عزيزة)4، فوق قبر أبيك بعد إن التأمت ثقوب الإنجليز ورحلوا استقرت وحدة راجمة الصواريخ بأمر وكيل السلطان الجديد، أحرقت ذيول لهبها العشب القليل المتبقي فوق قبر أبيك و الآن يا ولدي فوق قبر أبيك  يخيم هواة الصيد، تجار الأكفان المستوردة يصطادون( الحبارى ) 5 المتبقيات اللواتي لايردن المغادرة ربما كانت تلك الحبارى (هامة أرواح)6 الذين لايفتقدهم أحد مثل أبيك، هه أين كنت قبل ذلك والآن ماذا أنت فاعل؟

ـ سأرجع إلى هناك إلى وادي السلام قبل أن يأكل باقي المدينة أنت تدري عندما يموت السلام يستشرسُ واديه لدرجة ضياع الفوارق بين بيت وقبر، الحرب قائمة  معاولها تحفر و مجارفها تدفن !

ـ ربما لن تجد قبر أمك هناك، ربما احتل قبرها ميت ذو عزّ  فالموتى يزدحمون والأرض لم تعد واسعة تحت أجنحة الطائرات ومديات القنابل في هذه الحالة إذن أقترح عليك أن تحرز الكيس لعظامك و أوصي به لأولادك  في حال لم يعثروا لك على أثر من عظام حين انفجار سيارة مفخخة أو حين لا يهتدي إليك المشيعون  في مقابر الغرباء في المدن الغريبة وقل لأمك أن تقنعَ بما عندها من عظام  وواصل كلاما كأنه يأتي من بعيد،لازال وادي السلام يشن حربا على المدينة، المدينة تندحر وستجلس راضية بين فكي وادي السلام ماداموا يحفرون ويردمون ولا شيء غير قرقعة المجارف والمعاول، كنت مطرقا إلى الأرض حين كان يتحدث ولما رفعت رأسي  لم أجده،يا ألهي ربما كان هو أبي  جاء ليحسم  الأمر معي بشأن رغبة أمي وهوسها المتأخر بالحديث معه.

 

..................................

1ـ حراقيات: نوع من السفن النهرية الصغيرة كانت تسير بالبخار  في نهر دجلة أيام العهد العثماني

2ـ انكشاري: جندي عثماني

3ـنهر الملفود: أحد فروع نهر المشرح في العمارة وسمي ملفود التي تعني الممتلئ بلغة الجنوب الدارجة وكان خطا ملاحيا مهما يربط الريف بالمدن الكبرى

4ـ الجكة بالجيم المعجمة وتل عزيزة منطقتان في هور الحلفاية مسكونتان بالأساطير والحكايات.

5ـ الحبارى نوع من الطيور يبحث عنها الصيادون للحمها الطيب وتتواجد في الجنوب

6ـ الهامة طير يقف على القبور كان العرب يعتقدون أن روح الميت تسكنها فيقدسونها ويحرمون صيدها.


                                                                                                      

                                                                        

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2090السبت 14 / 04 / 2012) 

في نصوص اليوم