نصوص أدبية

طريق الشعب .. وذاكرة نشوى / إخلاص كاظم فرج

رائحة الجريدة لا زالت تقدح في ذاكرتي، للآن اتحسس اي عطر ورقي كان يفوح منها وانا اخبئها تحت اعمق جيوب معطفي الصوفي الصغير... كي اوصلها بسرية وهدوء الى مستوصف الهويدر الصحي بالذات لغرفة الدكتور عبد المهدي طبيب القرية الطيب آنذاك، غرفته لم تكن بمبعد عن أعين المراقبة، كانوا كثرا وانتباهي لم يغفل عنهم. كنت اقتنص اللحظة المواتية لادخل الغرفة بحذر، فيستلمها الطبيب بابتسامة طيبة للغاية . ان لم اجده ادخلها في احدى ادراج مكتبه وانا اقفز فوق الوقت كي لا يدركني فاسبق ثوانيه المتلاحقة.

 هذا ما اعتدت عليه يوميا بعد رجوعي من مدرستي القريبة لبيتنا والمستوصف، حينها كنت في العاشرة من عمري او اكثر بقليل... واجب اجباري كنت استلذ به، اشعر بانتصاري يوميا لهذه المغامرة أو المهمة ولا أذكر من أوكلها لي !!

طريق الشعب  كانت وكأنما وجبة الأكل اليومية  دون انقطاع ارى كل عائلتي تقرأها، مصدرها لم اعلم من اين وكيف كانت تصل لتتلقفها العيون والاذهن. وانتظر الى ان ياتي دوري لاقلبها وافهم ما يمكن فهمه .. صورة والدي لازالت عالقة بمرأى ذاكرتي وهو يجلس على الكرسي والجريدة تشع من خلال عينيه، اراقبه لم يترك صفحة او موضوعا لم يقرأه واجلس قربه واساله ما معنى هذا وما ... و.. ويجيب على كل اسئلتي بابتسام وتفاعل... فتوطدت علاقتي بطريق الشعب لالملم كل اعدادها وارتبها حسب تسلسلها وفوجئت بان العدد الاول منها كان برقم صفر، كان مخزونا في مكتبتنا وكأنما ارث أثري ثمين.

تطفلت بشغف على كل الصفحات الثماني، الاولى الاخبارية المهمة، الثانية العالمية، الثالثة الثقافية، الرابعة تحقيقات، السابعة الرياضية، كل اربعاء صفحة المرأة والخميس صار يومي المهم كي اقرأ مرحبا يا أطفال وما شدّني اليها حكايات العم حسّان، القصص المترجمة، الشعر رسومات ابراهيم رشيد ومؤيد نعمة واشياء جميلة أخرى فصرت مراسلة مدمنة، واشتركت باكثر من مسابقة أقامتها الصفحة مع شقيقاتي فتشرفنا بزيارة الجريدة بحفل خاص ومرتين، أيّ حلم كان ذاك!

آخر ما اتذكر قراءته هو موضوع في صفحة المرأة عنوانه مذكرات فتاة جامعية. وقرأت ايضا نعيا للشهيد عدنان الحداد حيث احتفظنا بقصاصة نعيه باحدى المزهريات ولازالت تلك القصاصة محفوظة بالمكان ذاته، رغم تبعثرنا واغراضنا ما بين مدن العراق شمال وجنوبا .

 أي فراغ تركته طريق الشعب حينما انقطعت اواخر عهد السبعينيات، ايّ المٍ المَّ بنا كلنا، واي دمار حلّ بالثقافة العراقية بأكملها.

عند آخر زيارتي للعراق اخرجنا من طيّات حقائب مخفية عتيقة بعضا من اعداد خمرية اللون سحرية العطر... فشعرت وكأنما اسطورة تاريخية كانت تلك الجريدة .

وكما خرج جميع الادباء الروس من معطف الاديب نيقولاي غوغول،  فادباء ومثقفو ووطنيو العراق كانت انطلاقتهم من معطف طريق الشعب الثري !

 

20120413

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2090 السبت 14 / 04 / 2012)


في نصوص اليوم