نصوص أدبية

مسودة خورخي بورخيس / هشام ناجح

" على عتبة النهايات ستجدني هناك في بيونيس آيريس، لأمنحك مسودتي، لاتحاول أن تلقي بنواياك هناك في جنيف أو باريس .. لاتخبرهم بيومنا

انتظرك  مع السلامة ".

لم استوعب ما قالته ليندا ونحن نتعانق في محطة روساريو، يبدو أنها توصيني بشرائح اللحم بتلك الخلطة العجيبة عند الجزار مارشينا من الناحية الخلفية لكتدرائية ميتروبولتينا . أعلم أنه يكرع النبيذ الأبيض، وهو يرقص التانغو جوار أجراس الصفح، ومقبرة خوسيه دا سان مارتان . نشوة مبهمة تسطو عليه عند نهاية القارورة الأولى فيقول:

"لاأفضل أن يطل يومك على المناضلين الأقوياء . مارتان بذرة الثورة .. أحبك يامارتان ".

بالرغم من قصاوة وجهه الأحمر وشاربه الكث، وهيئته البد ينة، يحب أنجلينا ويتوسلها دائما بدموعه كطفل يرغب أن يحتفظ بلعبته إلى الأبد . شيء من النفور يجثم عليها . تعشق بنفس رغبة سالومي ليوحنا المعمدان . تتجرد من ملابسها وترقص رقصة الموت . تتصاعد النغمات . تتسلل بخفة ورشاقة وتغرز السكين في قلب الوسادة الحمراء . ينهمر الدم ويستمر الرقص . تلطم المنضدة برغبة من التشفي،كأنها تلطم الملك هيردوس أنتيبا . تركل الوسادة وتقول :

"اللعنة عليك يامرشينا ومع ذلك أحبك ".

كان القطار بالرغم من سرعته يبدو رتيبا . وجوه بائسة ومنخورة،كأنها خرجت للتو من أنقاض حضارة الانكا . الشمس في كبد السماء . سقف القطار يصلح أن يكون غطاء للجحيم . يمسح جاري الهندي الأحمر الزجاجة بنظره الحاد بمكر كثعلب بغيض . ملصقا برأسه، فتزداد وتيرة الضباب من فرط زفراته . يمسح بظهر يده . تسطك أسنان العجوز الاصطناعية في الجهة المقابلة، فتطالبه بالكف عن هذه الحركة المقززة .

أفكر في المسودة مليا .أفتحها برأفة ..كان السطر الأول مسبوقا بنقط عديدة، كأن ينبوع الحياة كان ناضبا من قبل يقول خورخي بورخيس :

"الصدفة أقوى كائن حين أرغمني والدي على ملامسة أول امرأة في سن الرابعة عشرة . بورديل الضاحية يغري بالمفاجأة المبهمة . كانت صابرينا ممتعة للغاية . تعشق بوكاجنيور حتى النخاع . والدي هو من فتح عيني على الكوة التي يخرج منها الخير والشر، ورسم طريق قافلتي ..آه من أول عملية يطبعها حب الاكتشاف، فيدفعني من ظهري :

"تشجع أيها الأحمق . إنها أعظم لذة ".

من يومها وأنا أرغب في صابرينا، وأعشق الأصفر والأزرق لون بوكا ".

الآن يمكن أن تستوي الطريق يابورخيس للظفر باللقاء المرتقب . رغبة التطلع توخزني لأدرك الصفحة الثانية . اجدها بيضاء باستثناء عبارة جنيف .

يسعل الهندي الأحمر كثغاء خروف أجرب، فيختلط بشخير العجوز بفمها المفتوح، فتتضح الهوة بين أسنانها الاصطناعية ولحم فمها العاري .

لم أشأ أن أطرق ببصري الصفحة الثالثة .. كدت أبتلع روحي . قد أدركت الكنز المخفي. كتب بخط أخضر واضح كوضوح أزهار وأشجار حي باليرمو .. أرسم صورة لخورخي بابتسامته وهو يدعك الكلمات بعد أن رشف الجرعة الأخيرة من البن :

" لاتعتقد أن كتابة القصة الأخيرة نزوة عابرة، إنها ممتعة بنفس متعة صابرينا . أوصيك أن تكتب العالم والأرواح والأشياء .. لاتكن كالآخر صاحب العيون الضيقة، إنه لايحلم .. إن قصتك الأخيرة حصانتك ضد الحياة والموت، فخض أسفارك ولا تخشاهم .. فالطيور حصتنا الحقيقية في امتلاك الكون ......

خورخي صديقك الدائم .. محبتي ".

كان الصفير المبحوح للقطار ينذر بنهاية جحيم الشمس والروائح العطنة . ومازال الهندي الأحمر مشغولا بمسح الزجاجة .

بالفعل كانت بيونيس آيريس مدينة النسيم العليل، والقصة الأخيرة .

قصة قصيرة

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2098 الأحد  22 / 04 / 2012)


في نصوص اليوم