نصوص أدبية
متحف السراب / زوليخا موساوي
يقبض على يدي، يجرجرني بخطوات رشيقة كراقص باليه، يسحبني خلفه إلى حدود الخيبة، يفتج سياج حديقتها. لا خضرة فيها غير أشواك ونباتات متيبسة التوت جذورها تحت الشمس العمودية كهياكل عظمية لولبية تصيب بالقشعريرة.
كيف سيكون الغد؟ سؤال يطرحه العقلاء. يقلّبونه على جميع الأوجه. يمططونه. يتحايلون عليه. يختبئون من سطوته أو يضعونه في إطار مزيّن الحواشي قبالة ناظريهم أبد العمر.
لم أكن لسوء حظي أو لحسنه ربّما من هؤلاء. كيف لي أن أعرف إن كنت حسنة الحظ أو سيئته والغياب سيطويني كما الآخرين دون أن أستطيع معرفة الحقيقة.
من يفكّر في الغد له رجاحة عقل تؤهله لذلك. رصانة. هدوء. حياة مستقيمة أيام متشابهة خالية من الأحلام المستعصية أو من الأحلام نهائيا.
أنا؟ أنا كرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل. كنت أظن أني مع الوقت وتكاثر تجاعيدي قد أكتسب بعض الحيلة في طرد الأحلام واكتساب أيام هنيئة من دون الغوص في عذابات النفس الماراثونية التي أجلد بها ذاتي يوميا. ما توقعته كان خاطئا. ازدادت هواجسي وتكاثرت أحلامي الحمقاء كالفطر بعد أيام ماطرة.
أتبعه في انقياد طوعي . أعرف أنه لا حيلة لي غير الانصياع لأوامره. هل يمكن أن أنفلت من قبضته، أتحدّاه وأعتزم التمرّد على شيطانيته؟ يتطلب ذلك مجهودا كبيرا وأنا اشعر بقواي تنهار وتخونني. من أين سآتي بالجهد الكافي كي أبدأ من جديد. لأنه عليّ أن أبدأ من جديد؟ أليس كذلك؟ ههههههههه سيزيف؟ قديمة! يجب أن نبحث فعلا عن رموز أخرى، أن نخلقها إن لم نجدها. كل شيء متحوّل وكل شيء في طريقه إلى الزوال. استهلكنا بما يكفي هذه الرموز الكلاسيكية التي تتعفن منذ آلاف السنين في متحف التاريخ والأسطورة.
ماذا لو استطاع الإنسان اختراع متحف للكلام، للهواجس، للأحلام، للسراب وللخيبات الصغرى والكبيرة؟
يعلن المتحف أنه سيخصص أسبوعا للخيبات الكبرى التكعيبية.
لا تنظري إلى هذه.. إنها خيبة انطباعية جامدة لا تتحرك.. كل شيء فيها ميت.. هي خيبة خيبت آمال نفسها.. انظري كم هي مسطحة وساذجة وبليدة حتى.. لاتعجبني. أحب الخيبات الجميلة الموحية، المكثفة التي تعد خطوطها المتعرجة بألف سؤال وسؤال و بألف ليلة أرق وسهد وحرقة التمني. تعرفين حين تتمطّى كلمة ليت كقطة كسولة تحت اشعة شمس دافئة. أوه كم يحلو لي تأملّها تنفض عنها الغبار وتقفز كمجنونة بين دروب الكوابيس والأحلام المزعجة.
هذه خيبة كبيرة على طريقة بيكاسو. يهمس السراب في أذني. انظري سيدتي كيف تنعرج الخطوط هنا تحت العينين مباشرة لتعطينا هذا الشكل نصف كروي؟ ألا ترين قرص الشمس هنا؟ أعرف أعرف لا تستطيعين فتح عينيك تحت الأشعة اللاهبة؟ أنا أيضا لا أقدر. شيء عادي. لكن دعيني أقول لك: لن تري أبدا في حياتك معرضا بهذا الحجم لذلك أوصيك بأن تفتحي عينيك عن آخرهما وتحدّقي جيدا إلى هذه اللوحات. ألا تعرفين أن التحديق هو بمثابة امتحان لك. أجل لماذا تستغربين؟ أليست هذه وسيلة من بين حيل كثيرة نجتهد في تدبيرها كي نتعرف على الآخر فينا وعلى ما هو قادر عليه؟ هل ستحكمين قبضتك على الأمور كجندي يموت قرب سلاحه رغم أنه خال من كل ذخيرة. إذاك فقط يضع رأسه على حجرك وينام نومته الأدبية. لا تحدّقي إلى السقف أرجوك. الحلول السحرية لا تسقط من السماء. نعم سيدتي انقضى عهد المعجزات لأن هذا الزمن هو معجزة في حدّ ذاته. ألا ترين معي أنها معجزة كوننا لم نسقط حتى الآن ضحية لمخبول ما بضغط بسيط على زرّ تافه ينسف الكرة الأرضية من الوجود؟
تعالي، تعالي ! انظري إلى هذه الأشكال الهلامية. أتعرفين ماذا تسمونها؟ يقهقه بعربدة.. أرى أنك فقدت الذاكرة فجأة.. أعرف أعرف أن هذا تأثيري عليك.. أنت محظوظة.. هناك من يرمي بنفسه من علو شاهق وهناك من يفرغ في جوفه سموم الأفاعي أو في رأسه حشو بندقية.. لا عليك ستتعافين وستستردين ذاكرتك شيئا فشيئا.
أنت من النوع العنيد لذا لن أستطيع فعل شيء معك. أشاكسك بعض الوقت وسأنصرف إلى حال سبيلي.. لكن سأعود.. آه أكيد أني سأعود.. لا أستطيع أن أترك اليقين يحتلّ مكاني.
أقفز أنا من مكاني ولأول مرة أسمع صوتي: وهل هو موجود؟
من؟
اليقين؟
يضحك بصخب مرة أخرى.
هو ابني العاق. ثار عليّ منذ قديم. وأراد أن يسكن عقول الناس. يفعل كل شيء كي يعيش. ألا يقولون سنة الحياة؟
هل يمكن أن تصفه لي؟ كيف هو؟ ربما إن رأيته أتعرف إليه..
يضحك مرة أخرى..
لو كنت أعرف كيف أتعرف عليه لما وجدت أنا أصلا. أتدرين أن الحياة لا تستحملنا نحن الإثنين. إما أن أكون أو يكون. لكن إن حالفك الحظ وهذا ما أشك فيه بشدة وصادفته في مكان ما، فهو عادة يلبس قناعا صارما. قد يرتدي جبة راهب، أو عمامة فقيه أو في أحسن الأحوال يكون له لحية لكن نظيفة ومشذبة مثل لحية ماركس ويمسك رأسه بيده علامة على طول تفكير.
لكن دعك منه لأنك لن تجديه.. بحث عنه كثيرون جدا قبلك ولم يعثر عليه أي أحد.
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2100 الثلاثاء 24 / 04 / 2012)