نصوص أدبية

ساعة الله مواقيت الصحراء / حامد فاضل

 

لم تكن سويسرية الصنع، وليس لها بدن من خشب أو حديد، لا تتكتك أو يرن بها جرس، عقاربها لا تدور، وبندولها لا يتأرجح نحو اليسار ونحو اليمين، أرقامها بضع أحجار على خصرها، لا ذهب كاذب يزنرها، لا إطار يطوقها، ولا يستر وجهها قناع زجاجي، هكذا هي مكشوفة لعين السماء، كما أراد الله لها أن تكون، ليجعلها أية للناس، ويسحر فيها العيون، فسبحانه حين ألقى على الأرض حفنة رمل، وقال لها كوني صحراء، ليؤثثها بالكائنات، ويجعل أفئدة البدو تهفو اليها، وكما زين السماء بنجم إذا ما سروا بليل به يهتدون، زَيَنَّ الأرض بساعته، ليعرفوا متى ينزلون، ومتى يضعنون.. وهم وحدهم البدو بفراستهم يعرفون كيف تعمل ساعة الله، يقسمون زمن اليوم بين / شمس / وظل / ونور / وعتمة / وساعة الله كما أرها من جهة الجنوب الغربي لنقرة السلمان، منخفض يجاور منخفض، أو نقرة أصغر من نقرة .. نقرتان يفصل بينهما مرتفع يعرف (بجال الساعة1) والمنخفض مدور بعض الشىء، والى جانبه منخفض آخر أصغر منه، فتبدو المنطقة وكأنها ساعة وزنبرك .. الساعة كونتها جغرافية البادية، والبادية بسطتها يد الله .. إذن هي ساعة والذي صنعها الله، فكان حقاً على الذين يمرون فيها، أو يحلون بفنائها أن يسمونها ساعة الله .. وأقول إذا ما استعرت لغة الجغرافيين، هنالك على بعد (18) كيلومتراً جنوب شرق السلمان، تقع منطقة تٌعْرَفُ ببادية السماوة على إنها ساعة الله .. وأقول بلغة الأدب هي ساعة أو ما يشبه الساعة (كالنفيلة2) على الطريق منتصبة، تلوح لعين المسافر من بعيد، ما بين السلمان (وتخاديد 3)، أو هي رصعة في حنك طريق السلمان ــ (تخاديد)، وهو الطريق الترابي الذي تتجافى عنه السيارات اليوم لوعورته وحدة (جاله)، ولكنه كما يقول الرواة الثقاة كان في زمان مضى طريق القوافل في البادية، وساعة الله هي أجمل ما في استراحته، حيث تحل القوافل بين مطارح رملته الناعمة، وشجيراته المزهرة، وسجاجيد عشب المراعي، لتكتال من ماء أباره المترعة .. سأختار واحدة من قوافل ذاك الزمان، لأعد لها متكأً في مخيلتي، ولتكن قافلة الكولونيل (لجمن) الذي وصل الساعة كما وصف في مذكراته مشياً على الأقدام، حافياً مرتدياً ملابس البدو خدمة لمقتضيات المصالح البريطانية .. في قرون مضت كانت الساعة تشهد الوقائع بين شُمَّرْ وآل الظفير، على أرضها تدور المعارك، حيث الخيول ضابحات، والسيوف مخضبات، والخناجر في الخواصر، تلك المعارك ما تزال تدور في ليل الخيام، بعدما انتقلت الى سوح الرواة، ليزينوا فيها ليالي السامرين، بين الفناجين المٌخَصَرَةِ والدلال الصفر، ونار مواقد الصحراء، والتبغ المٌصَنَعِ في بلاد ما بعد البحار.. يروي لنا راو من السلمان، يقال له عبد الأمير بن شنان : إن الساعة وما حولها كانت تزخر (بالكلبان4) على رأسها كوفية من شجر السدر، وعلى كتفيها عباءة عشب سندسي يرتادها البدو والأعراب، تسرح قطعانهم في المراعي الى جانب غزلانها والأرانب وباقات تلك الطيور الجميلة التي تمرح، تحط على أخضر الأرض، وتحلق نحو أزرق في السماء  وكانت محجاً للكمائين في مواسم جمع الكمأ، زبدة القول انها روضة من رياض جنة الله كانت، ولكنه يضرب كفاً بكف يتحسر يزفر آهته، ويأخذني من يدي لأرى ساعة الله مهجورة، فلا أثر لما كان يحكي، ففاتنة البادية التي كان يٌكْثِرُ عنها الحديث، يعدد محاسنها، هي الآن شمطاء قابعة بثوب خلق بين الصخور وبين الرمال، وقد اشتعل الرأس شيباً لكثرة ما نال من جفاف .. أتساءل وأنا أبحث عن أثر لأبار ساعة الله التي غورها الزمان، فاندثرت واندرست ولم يعد بالإمكان تحديد أمكنتها .. ترى هل سيأتي على هذه الأرض حين من الدهر، فيعاود الناس حفر آبارها، يزيلون التجاعيد عن وجهها، يعيدوا اليها نضارتها، فتخرج بزينتها على قومها، بعدما تحل قوافل الغيث في أرضها / فتهتز / تربو / وتنبت من كل زوج بهيج، وتترع أبارها بماء قراح، تفيض فتلقي ثياب الربيع على عاريات البطاح، فيغدوا اليها /اليمام / الزرازير / والقبرات / وتأتي على إثرها صقور البراري لتبني على مرتفع الساعة أعشاشها، وتكمن لاصطياد الحبارى التي يعاودها الحنين الى مرابعها، وسوف يعود اليها رعاة الجمال بقطعانهم، ومن بعدهم سوف يأتي اليها رعاة الغنم، فتعيد الصخور صدى / ربابة البدوي / مطبك القروي / وناي الجنوب الحزين .. أتذكر حينما كنت طفلاً، كان لنا من الطين بيتاً، يطل على الدرب الى البادية، وكنت أنام في ساحة الحوش تحت سماء الربيع، كان فراشي حصير من الخوص دون غطاء، ومن الدرب كان يطرق سمعي الحداء، فأعرف أن القوافل الآن تمضي الى البادية، أفز والفجر لما يجىء على قرع نواقيس (المرايع5) فأهرع مع أترابيَّ، لنمتع أنظارنا بمرأى / الحملان / الكلاب/ الديوك / التي (تعوعي) فتفسد نوم الجراء التي تشاركها المطارح فوق ظهور الحمير، وكنا نحسد أولاد البدو الذين بأعمارنا لأنهم يركبون الجمال، وآباءهم الذين يعتلون صهوات خيل أصيلة، يتقدمون القوافل، أو يدورون حول القطيع .. حتى إذا ما اختفت من الدرب آخر ناقة من القافلة، ركضنا الى آثار خفوف النياق، لنغمس خناصرنا الصغيرة بالتراب، ونبدأ بمص إبهامنا فنتخيل طعم الحليب بأفواهنا .. ولما كبرت وصرت أختلف على مكث الى البادية، أجس بداوتها المهددة بالانقراض، وأحلم أن يعود ذاك الزمان، لينهض من بين كثبان هذي الرمال مَنْ يعيد ملء ساعة الله، ويضبط توقيتها

 

 

...................

هوامش

1-       الجال: التل أو المرتفع .

2-       النفيلة: نصب أو علامة تدل على القبيلة أو شيخه .

3-       تخاديد: بلهجة البادية تعني الأخاديد .

4-       الكلبان: الآبار المحفورة يدوياً

5-   المرايع: جمع مرياع وهو كبش كبير يسير القطيع على ايقاع ناقوس معلق في رقبته يدعى الدراغ ..والمرياع من النوق الكثيرة اللبن السريعة الدر

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2105 الأحد  29 / 04 / 2012)


في نصوص اليوم