نصوص أدبية

المنقذة / سردار محمد سعيد

البياض اقتحم السواد، وربما السواد اقتحم البياض، مثل خال على شفة البحرينتظر اللثم .

غربال الغروب اضطرب وترجرج فتساقط فتيت البنفسج على وجنات جائعة للعشق، حناء تخضب أقداما ً أتعبها بُعد مشرق الحب، قلائد على نحور حسان نسين لذة القبل .

يقترب الموج يتسلل بهدوء، يقبّلها ويهرب، كالعاشق الخائف .

خيط هلامي ّ يفصل حدود الأفق وحافات السماء . العاشقان البداية والنهاية يتعانقان، يرتشفان بعضهما، يذوبان في بعض، لا يكفّان عن تمازج المهج بعيدا ً عن عيون العسس وسياط جلاوزة السلطان .

عندما تلبس السماء طيلسانها الأسود، تتراقص النجوم كالنمش على تريبة غانية، وحين يئن النسيم، يقشعر جلد الموج، كما يقشعر كيان مراهقة سمعت لأول مرة من يقول لها : أحبك .

ألقيت شباكي، شيء غريب اليوم، لعل البحر تذكـّرالأشرعة التي غادرت ولم تعد

والطيور التي عادت ولم تذهب .

الشبكة الخفيفة لا تترجح اليوم مع الموج، ربما علقت بشيء، سحبتها بعد جهد

ما هذا ؟

حورية الماء عالقة بشباكي .

 - أتركني أعود من حيث أتيت، سأعطيك لؤلؤتي التي لم يمسسها قبلك إنس ولا جان مقابل حرّيتي .

لا أريد اغتصاب ما لا يحق لي.

- هي لك عن طيب خاطر، لتكن تذكارا ً .

قبّلتني وانفلتت نحوالقعور.

************

 

إلتاثت الغيوم الثقيلة، فتح ملك الريح شدقيه

 - من سرق لؤلؤة ابنتي؟ من تنسم عطر غدائرها؟ من لثم رقبتها؟ .

الريح الزعزع تكره أن ترى الفرحة تشع من عيون البشر.

بدأ الموج يلطم الصخرة، يعلو ويهبط بعنف، الماء من فوقه ماء ومن تحته ماء

جاءت السماء بدخان مبين، الهواء صار دَبِقا ً، خفت أن يلصق بي كما يلصق غراء الأشجار بأجنحة الطيور، بوق الريح عزف، طبل الغيم الأسود قرع .

غمرتني الكآبة تغلغل الهلع .

ألست إنسانا ً ؟ خُلق َ الإنسان هلوعا ً .

الغيوم السوداء الثقيلة تدور حول نفسها كالعجلات السماوية، تصطدم ببعضها ككتائب الجيوش المنكسرة، ليتها كانت من المعصرات فنستقي منها ماء ثجّاجاً، حملت نقع البوادي مختلطا ًبرائحة المطّاط والإسفلت .

أحيط بي من كل مكان، إنه الغرق، سأكون عن قريب مائدة لذيذة للكواسج، تخيّلت أنيابها الشبيهة بأسنة رماح فرسان القرون الوسطى المشرعة.

سأكون محظوظا ً لو التقمني حوت، ربما أجد من يؤنسني في طيّات أحشائه، ربما أدعو الله فيزفرني الحوت في ظل شجيرة يقطين .

ظننت أنه قضي الأمر، ما من ألم أشد من انتظار لحظات الفناء، وما أتعس الذي يعرف أين ومتى سيموت .

ما أروع الموت دون انتظار، ما ألذه وهو يأتي بغتة .

*******************

 

طوّحتني الريح الزعزع، أرتفع كقشة، أسقط كنيزك، سقوف مدارس الصبية الصفائحية تطايرت، أقلامهم تناثرت، كتب ثخينة تقيأت حروفها، ( شيلات ) نساء فقدت عذريتها، طوواويس تخلّت عن ألوانها، حمامات تهتكت أجنحتها، حروف مسمارية تثلمت نهاياتها، جوامع خلعت لازوردية قبابها .

بين الحيرة واليأس، إستسلمت للقهر .

إمتد إصبَع أزاح لحاف الظلمة عن سرير الأفق، فتدفقت من أثنائه مهارى بأجنحة متغيرة الألوان مثنى وثلاث ورباع، تحسبهن قناديلا ً تطير، عليها إناث كأنهن الشعل .

نضّت من عل ٍوشاحها ومدّته :

- تمسّك .. ياغريب خذ طرف الوشاح بقوّة .

لم أكن مقتنعا ً لكنها شديدة القوى

- تمسك لئلا تجرفك الريح الزعزع .

طافت بي وأنا معلق بطرف الوشاح الذي يشبه وشاح أمي .

مررت بحقول فيها ظباء ترتع، مررت بجنات من نخيل وأعناب تفجرت خلالها العيون، مررت بوهدات من حصى البوادي والقفارتتلوى بتجاعيدها أفاع ٍ.

أنزلتني في شرفة هيكل عتيق، هيكل منفرد، وسط صحراء لا يعرف طولها من عرضها، لا يحدّها حد .

خلبت لبّي نقوش جدران الهيكل، رحت أتأمل دقـّة صنعها .

- هل أعجبتك؟ .

تناهى صوت شجي .

- نقشها أبي .

دخلت الغرفة حيث مصدر الصوت فلم أر إلآ ستور ديباج، وفرش حرير، سرعان ماانشق الجدار ودلفت خلاله عجوز شمطاء

كما يدلف السمك خلال الماء، كما يلج الضوء الزجاج .

- من أنت؟

- إبنة مَن أنقذتك .

- كيف نفذت خلال الحجر؟

- هو نفذ خلالي، وأتيتك مطالبة برد دَين .

- ولكني لا أملك شيئا ً.

- بل تملك الكثير.

- خذي منه ما شئت إذا ً.

-لا ... أريد منك أن تهبنيه ولا آخذه أخذا ً.

- وما هو ؟ .

- أنت .

- أنا ؟

- يمكنك أن تتزوجني .

- أتزوجك ؟أنت بعمر أمي .

**************

 

- أماه ...أماه ... رفضني الغريب، رفض حدائق عنبي، عبس واستغنى عن قلائد التين، رفض يانع زهري، جحد فضلك، إرتد على دبره وأبى دخول أرضي المقدّسة.

يقول : أنت عجوز، وأنا لم أراهق بعد، أخبرية عن احتضانك أبي آلاف الأعوام

أخبريه أنه لايرقد إلآ ووجه غاطس في وجهك، ونحره ذائب في نحرك، يستنشق رضابك ويتوضأ بتراب قدميك، لا يخشى اعتلاء الحصون لينقذ نطفة سرقها منك ساحر .

أبي الذي قاتل خمبابا، رأوه في السبي البابلي، ورأوه في داحس والغبراء، غزا مع جيوش المسلمين، وقاتل مع الزنج، وكان مع الثوار خلف متاريس كوميونة باريس ورافقهم حين هجموا على الباستيل، وشوهد نازلا ً من المدرّعة بونتكن ولينين يربت على كتفه، وكان آخر شرابه قعب وفاء.

- إصمتي بنيتي... اصمتي، لئلا يسمع فتعكرّين صفو رقدته .

- آه يا أماه ...وهن العظم منك ومازلت تحبينه يا أماه، أي لص هو أبي ؟ هذا الذي سرق قلبك يا أماه، أتخشين عليه فما بال الغريب لا يعي كنه هذه المودّة.

- لا تحزني بنيتي، دعيه ..ليس له إلى قلبك سبيل، سيرتد خاسرا ً، أعرضي عنه، كان أبوك ملـَكا ً.

- وأين أجد زوجا ً مثل زوجك يا أم؟

- هو ليس زوجي، هو أنا، وأنا هو .

*************

 

-هل مشاعرك بكماء ؟

لماذا تطأطأت غصون عواطفك، تغضّنت فاكهتك، تضبّبت سحنتك ؟

لتكن شفاهك طفلا ً يتسول شوق آهاتي الثريّة .

إي توأم نوافذي، إي أيها المستكين لعبودية قلبك، الذي لا يلتحم بجسدي رغم ثورة شرايينه بوجه سكاكين عبثي، بوجه إمعاني في تمردي العائم في النزق الخالد،

إزرعني زهرة في حافة جنّتك ، لا تدع فضائي تسرح فيه مخالب الخيبة  .

*************

 

- جنّتي غدت صعيدا ًزَلقا ً، تطاير نبتها كالعهن المنفوش، ماء عيوني صار غورا ًفلا تستطيعين له طلبا ً، آخر الشعل رفعت نعوشها رماح بني أمية، كُفّنت برايات بني العباس، لا تصيخ السمع لعويل الثكالى، ولا لشحوب العيون المستجدية الضياء، عبثا ًتحاولين فخفق عروقي خاصمه صعيد الأرض .

رقد المشيّعون .

لتنتظر ضفائرك انبجاس الأنامل يوم تنفلق الصخرة الصيخود .

**********

 

- دعيني أعود .. دعيني أعود من حيث أتيت

لا أريد أن أعيش في رمال الوهم، أحبُ منه قبر طين في ظل نخلة، أسمع نوح السعاف وكيف يلطم الصفاف، وتخمش وجهها شقائق النعمان،  وأنين طفل جف صدر أمه، إنشق صدر أبيه، تناصفوا أسلاب كبده، نصف أضحية لتاريخ مضى، ونصف ما يزال على قدور الجهالة لم ينضج بعد .

- أتعلم أين نحن ؟ كم المسافة عن صخرتك ؟ كم مضى من الزمن وأنت هنا؟ أتعلم أن محور الكون لا ينفك عن الدوران ؟ وأهلك في نقطة الثلج يتفرجون، وهنا حرارة الحشا، وليّن الجلود السمحاء، وشرايين لا يجف نبضها أبدا ً .

سأعد لك سفينة شراعها من ماس وألواحها من تبر لا يبلله زيف التأكسد، تجرّها خيول النور، ستنحني لك الشهب عندما تمر ّ، وقبل أن تودّعها لا تنس أن تحمّلها بالعراجين وبكل طلع نضيد، فتكون قد وفـّيت دينك، وستبقى وسادتي باردة وشراشفي تنتظر ليلة دفء .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2105 الأحد  29 / 04 / 2012)

في نصوص اليوم