نصوص أدبية

حين سرقوا خضر الياس / زيد الحمداني

الجسران المذكوران لم يكن لهما وجود في الزمان الذي دارت فيه أحداث هذه القصة، وهو العام الأخير من القرن التاسع عشر. ولربما تنطوي فضيلة ذكرهما هاهنا على ربط حاضرٍ ضاعت فيه هوية تلك الاحياء بماضٍ كانت تمثل فيه قلب المدينة النابض.

عاد صالح الى مسكنه بعد غروب الشمس بقليل. كان يقطن هو وزوجته وابنتهما الصغيرة في بيت من بيوت محلة خضر الياس. وهي من محلات الكرخ المعروفة. كان البيت صغيرا ويتألف من طبقة واحدة تحتوي على قاعة وسطية (حوش)  تطل عليها غرفة نوم واحدة ومخزن للمونة. اما بيوت الحي الباقية فبعضها كان صغيرا كبيت صالح والبعض الآخر -وهي بيوت الموسرين- يتألف من طبقتين. في الطبقة العليا توجد عدة غرف للنوم وفي الطبقة الأرضية هناك (حوش) واسع في قلبه نافورة ذات نقوش مميزة، غرفة للمونة، حرم مخصص للنساء، اضافة الى (الديوه خانه) وهو المكان الذي يجتمع فيه رب العائلة مع ضيوفه واصدقائه.

تروي الأخبار المنقولة غير الموثوقة انه في الأزمنة النائية شوهد في تلك المنطقة ليلا ولمرات عديدة رجل ذو لحية بيضاء طويلة وعمامة خضراء براقة يتوضأ ويصلي عند جرف النهر وحين يحاول من صادف وجوده في ذلك المكان مع وجود ذلك الرجل في نفس الساعة الإقتراب منه ليسلم عليه، يترك الرجل الغامض الجرف متجها نحو النهر ليمشي على وجه الماء ويختفي وسط الظلام. قال بعض الناس انه شيخ الشط أو الرجل الصالح الخضر، لانه كان مشهورا بمشيه على الماء كرامة من الله له. اما سبب تسميته بالخضر فلربما يرجع الى جدب وقحط اصاب الأرض في زمانه فدعا الله ان ينزل الغيث فاستجيب له واخضرت الأرض اخضرارا عجيبا. فسمي بالخضر.

اعتاد اهل خضر الياس ومنهم صالح وزوجته وضع شموع نذورهم المثبتة على الواح خشبية مسطحة على صفحة ماء النهر في ليالي الخميس المباركة. فان وصلت تلك الشموع الطافية متقدة الى وسط النهر، فهذا يعني ان خضر الياس قد قبل النذر وسيعطي صاحب كل شمعة متقدة ما تمنى. وفي فترة الترقب تلك، لا يسمع في ذلك المكان الا همس التوسلات وادعية المساكين: عجل فرجك يارب.       

 

2       

-"الله يساعدك ويقويك بجاه الحبيب محمد."

تناهى الى صالح صوت زوجته من داخل غرفة نومهما.

-"تسلمين حورية، شنو عشانا اليوم؟"   

-"مسويتلك كبة محشية باللوز." 

بعد ان تناولوا طعام عشاءهم، جلسوا -الزوج وزجته وابنتهما- على حصيرة خفيفة منسوجة من سعف النخيل تتوسط باحة الدار. حورية كانت تهدهد طفلتها اما صالح فكان ساهما يشرب قهوته السوداء. الهم والقلق المتعلقان بالرزق وكسب القوت لم يكونا غريبين في تلك الايام، خاصة لمن يعمل عملا مشابها لعمل صالح، حيث كان ملاحا في نهر دجلة، وينقل بقفته* البضائع والناس من شريعة** خضر الياس في جانب الكرخ الى شريعة القشلة في جانب الرصافة. تلك المهنة ترتبط بالأحوال الأقتصادية ارتباطا وثيقا. فكلما ازدهر الحال ازدادت حركة الناس والبضائع وزاد دخل اصحاب القفف. والعكس صحيح.

-" لا تفكر هواية، راح تفرج ان شاء الله." قالت له حورية بعد أن احست بأنه محزون وقلق.

-" شلون تفرج وهذولة الملاعين جماعة نامق باشا ناهبين البلد وسارقين خيراته. المونة كل يوم تغلى والناس دكها الجوع حورية." قال لها بلهجة تميل الى الحدة والغضب. ثم سكتا.

وضعت حورية طفلتها في حجرها وصارت تغني لها بصوت خفيض كي لا توقض زوجها الذي انسل الى فراشه ويبدو انه قد غفى لتوه:

" نامي نامي واني الولي الج
والعافية من الله تجي الج
يا بلابل ويا حمام
خلو صغيرونتي  تنام"
نامت
الطفلة على تنويمة امها الهادئة. فوضعتها في مهدها ثم اندست الى جانب زوجها في الفراش. جذبها اليه وهو مغمض العينين. تعانقا بعنف ولم ينطقا بحرف واحد. وقبل ان يغطا في نوم عميق، ذاقا طعم الفرح.

 

3

استقيضت حورية على صوت ابن جارهم احمد ابن الشيخ نجيب وهو يؤذن لصلاة الفجر في مسجد خضر الياس. زوجها كان يغط في نومه. هزت كتفه بنعومة عدة مرات حتى استيقض.

-" يلا كوم اغسل وتوضا حتى تلحك على الصلاة" قالت له بصوت خفيض وناعس ثم اضطجعت على جنبها الأيمن في انتظار خروج زوجها  لتقوم بعدها من فراشها الدافئ وتبدأ مزاولة اعمالها البيتية المعتادة.

-"الجو بارد، راح اتيمم واطلع للصلاة." قال لها وهو يتكأ بكوعه على جانب السرير.

تيمم ثم تلفع بعبائته الصوفية وخرج من بيته. الجو كان قارص البرودة.  مشى بخطوات واسعة الى مسجد خضر الياس الواقع في منتصف المسافة تقريبا بين بيته والشريعة. دخل المسجد ثم صلى. وبعد نهاية الصلاة، انتعل خفه وخرج من الباب الخلفي الصغير للمسجد لا من بابه الأمامي الواسع. فالشارع الواقع خلف المسجد هو اقصر الطرق الموصلة الى الشريعة.

ضوء الشفق الأبيض بالكاد ينير الدروب الضيقة التي كان يقطعها وهو في طريقه نحو الشريعة. وفي أحد الازقة الضيقة لمح شبحا طويلا يخرج من إحدى الدور. لم يتعرف عليه في البدء، لكن حين صار قريبا منه عرفه. فبادره قائلا:

-" خدوري، شنو عندك طالع من الفجر. وليدي روح نام. تلحك على الشغل وتعبه."      

خدوري شاب يتيم الابوين. لم يبلغ العشرين من عمره بعد. وهو من عائلة زلخة اليهودية المعروفة في بغداد. ويعيش في كنف عمه الوحيد منذ أن تيتم قبل عشر سنوات. كان ذلك في مطلع عام 1889. اي في أيام الوالي مصطفى عاصم باشا. حين اجتاحت الهيضة "الكوليرا" العديد من أحياء بغداد. فاغلقت المحال التجارية والاسواق العامة والمدارس. وفر الناس الى القرى المجاورة. وامتلأت البيمارستانات بالمرضى. استمر هذا المرض القاتل شهرا كاملا. وتقول الاحصائيات الرسمية المحفوظة من ذلك العهد ان المرض أهلك ثلاثة آلاف شخص. ابوا خدوري كانا من ضمن تلك النفوس الهالكة. اما خدوري فكان مع عمه اسحق في مدينة المدائن (سلمان باك) الواقعة على بعد بضع كيلومترات جنوب شرق بغداد. فنجا الاثنان من الهجمة الشرسة لوباء حصد الكثير من أرواح الناس.

اسحق لم يكن له ولد من زوجته المتوفاة. وكان فقيرا على غير حال اليهود انذاك. ويعمل صانعا للعب الأطفال التي يبيعها له ابن اخيه اثناء تجواله اليومي من الصباح الباكر حتى المساء في مناطق بغداد المختلفة. اما في مواسم الزيارات الدينية والأعياد، فكان الاثنان يذهبان معا الى القرى والمدن القريبة لبيع اللعب وكسب الرزق. وقد كان العيد في سلمان باك مميزا جدا في السنة التي حدث فيها الوباء. فالزوار يتوافدون بالعشرات تحت الايوان الشهير المسمى بطاق كسرى، والمكان مكتظ بالباعة المتجولين والمشترين. وفي مساء كل يوم من أيام اقامتهما في مدينة المدائن وقبل ان يعودا الى الصريفة التي كانا ينامان فيها، يكافئ اسحق ابن اخيه ويشتري له قدحا من البوظا (الآيس كريم) من حسيب المجذوب الذي كان مشهورا ببيعها هناك في مواسم الاعياد.

ابتسم خدوري بعد سماعه لنصيحة صالح السخية والمتعلقة بالعودة الى البيت والنوم الهانئ دون الاقبال النشيط على العمل الذي لم ولن تكون له نهاية الا بقدوم الأجل، ثم قال له:

-" والله لازم انزل لسوق هرج عمي صالح، اريد اشتري ورق ملون وجريد نخل."

الورق الملون كان يستخدمه اسحق مع عيدان جريد النخل في صنع مراوح ورقية ملونة يلهو بها الأطفال وهم يركضون في الازقة والساحات. كانوا يسمونها محليا (لعبة الفرارات). المردود من  تلك المهنة زهيد، الا ان "الخبزة طالعه والحمد لله" كما كان يعتقد الشاب اليتيم بائع الفرارات وعمه اسحق.

 

4

حين وصل الاثنان -خدوري وصالح- الى شريعة خضر الياس، كانت صورة قرص الشمس المشرقة لتوها تلمع على وجه الماء، ونسمة خفيفة باردة تهز بنعومة الاغصان العارية لشجرة جردها الخريف من اوراقها الصفراء.

صعد صالح الى قفته بخفة متناهية. فرغم بلوغه الثامنة والاربعين من عمره الا انه كان ذا بنية صحيحة وجسم ممشوق. ولا عجب، فهو قفاف منذ نعومة اضفاره. ومجذافه يمخر عباب الأمواج بخفة ورشاقة وكأنه ناعور يعمل بالطاقة الكهربائية. لا يتعب ولا يكل. قفته كانت تشبه سلة من سلال الخوص التي يباع فيها التمر. في أيام الخير، كانت تمتلأ بالعابرين من الكرخ الى الرصافة وبالعكس. أما ذلك اليوم، فكان خدوري هو العابر الوحيد.

بعد ان استوى الإثنان على ظهرالقفة، رفع صالح مجذافه الخشبي من الماء ثم ثبته في حافة الجرف ليدفع به الحجارة النهرية الصلبة فتندفع بالتالي القفة الى عمق النهر وباتجاه مخالف لاتجاه دفع المجذاف. في تلك اللحظة، سمع الاثنان صوت تكسر مكتوم واحس صالح انه قد ضرب جسما غريبا، لم يكن رخوا كالطين ولا صلدا كالحجر. سحب مجذافه من حافة الجرف واسنده على جانب القفة ثم رفع سرواله الأبيض حتى ركبتيه ونزل الى الماء ليغمس يديه في المكان الذي هوى عليه بمجذافه.

خدوري كان يتابع ما يقوم به صالح ولكن في غير اكتراث. فالصبح يتقرب ويريد ان يصل الى الرصافة باكرا. كان ذلك همه الوحيد في تلك الساعة.  حين اخرج صالح يديه من الماء. كان المنظر لايصدق. وكانها قصة من قصص الف ليلة وليلة او حكاية من حكايات ايسوب. فيداه كانتا مليئتين بدراهم ذهبية لوثتها طبقة خفيفة من الطمي.

-" عمي صالح مبين هذه فلوس عتيقة. شتقول لو بلغنا اهل المحلة؟"

رد عليه صالح بنبرة فيها اصرار شديد:

-" هذه الدراهم رزقي ورزق عائلتي. اني رجال فقير وعلى نياتي، والله رزقني اليوم."

-" هذه مو فلوسك عمي. هذه فلوس الناس كلها. حرام تاخذها صدقني."

احمر وجه صالح وانتفخت اوداجه وبحلق بغضب في وجه خدوري ثم قال له:

-" اسكت يا كافر. هالمرة انت راح تعلمني الحلال والحرام يا ابن اليهودية."

واصل صالح استخراج الدراهم من الماء ووضعها في القفة بينما فكر خدوري في الترجل والرجوع الى المحلة واخبار اهلها بقصة الكنز. "هذه فلوس كل الفقراء والمساكين مو بس فلوسك يا طماع" قال خدوري في نفسه وهو يهم بالنزول من القفة. ظن صالح حينها ان خدوري يريد منعه بالقوة من أخذ الكنز، فجذب مجذافه بسرعة وهوى به على راسه. تحاشى خدوري الضربة بكلتا يديه فاصابته في كتفه واسقطته في الماء الضحل قريبا من الجرف وعلى بعد بضع امتار من الكنز الغارق.

امتلئت القفة بدراهم ذهبية كثيرة فمالت الى الأمام قليلا. صعد اليها صالح وأخذ يجذف بسرعة باتجاه  الضفة الأخرى. اي جهة القشلة. ليفر من هناك مع الكنز. "الرصافة مزدحمة ولن يتعرف عليه أحد." هكذا كان يعتقد. أما خدوري المصاب فكان يزحف ببطء ويئن أنينا مسموعا من ألم ضربة المجذاف التي احدثت في كتفه جرحا غائرا. واصل زحفه بصعوبة، وحين ابتعد عن حافة الجرف المغمورة بالماء، تمدد على الرمل منهكا خائر القوى. لامست صفحة خده الأيمن التراب الرطب. أما عيناه فكانتا تحدقان بالقفة التي اخذت تغور في الماء شيئا فشيئا. ولما وصلت الى وسط النهرغارت بعيدا عن السطح واختفت عن الأنظار تماما.

يقول أهل خضر الياس: الدنانير الذهبية استقرت في قاع دجلة، أما القفاف صالح فقد تطهر من حدثه الأكبر. بركاتك يا شيخ الشط!

 

د. زيد الحمداني

أبوظبي

02/05/2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2108 الاربعاء  02 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم