نصوص أدبية

الغوص في الرمال / سردارمحمد سعيد

لمع خيطه الأول،فقبّل ما بين عينيها وأطلقها، فأسرعت لتتفادى الحلول في المجهول قبيل انبساط النور .

نظر الرعاة بأعين النوّار إلى مساحات العشب التي صقل الندى حواشيها فبدت سندسية أثارت شهيّة الخراف .

 أول من شاهده الرعاة ُ ..مستلقيا ً على جنبه الأيمن في البقعة التي لا يصلها نقع هوج السافيات ولا تواتروقع سنابك الطغاة .

عصاه مطمئنة تضطجع في العشب الريّان بموازاته .

نهايتها أبت أن تستوقف النظر في نقطة، فيحار أيان يتجه، فانثنت كرقبة أوزّة مرتدّة إلى جسدها الأملس .

جرابه الخلِق تولهت ثقوبه به فبدت كعيون العاشقين وحماها التوله من الرمد .

سادت الفوضى بين الرعاة والخراف الوديعة وهي تقضم العشب بفرح حين طلع سرب ظباء يتبعها ذئب فاغر الشدقين استعدادا ًللنهش .

 إرتد الذئب على أعقابه لمّا لمح الغريب هادئا ً يُخرج من جرابه كِسراً من خبز ملّة يفتته للعصافير .

نجت الظباء، ونجت ظبية لاذت بالغريب فوقفت وهي تمسح جنبها بجنبه،فأطعمها، وآمنها من خوف .

شارك النمل وليمة جذور الكلأ الرطيب متلذذا ً كأنه يأكل من ثمر الجنّة، ولم يدخل النمل مساكنه خيفة .

فرّت معزى غزيرة الشعر يكاد ضرعها المنتفخ يمس الأرض كأنه عذق تمر نضج هاربة من كبش حاول النزو عليها،واتخذت إليه وجهة، فرفع عصاه فتوقفت وهزت ذنبها القصير وطوت أذنيها وفيعرت .

لوت عنقها وعادت إلى القطيع بينما راح الكبش يبترد بوشل ساقية .

قال أحد الرعاة : سلام ٌ قولا ً من رب رحيم .

ليس بآدمي ولا وحش فتهيبوه وما قدر واحد على الدنو منه، ولوكانت أنيابه بارزة وله رأس بقر ومشافرحيوان لقيل (غول )، ولكن الغول يعيش في الفلوات ويهيم في الطرق المقفرة يحب لون النار ولا يتكىء على رفرف خضر  .

شاع نبأه في المدينة الصغيرة وتناهى أمره إلى أذن الوالي، فأوفد بعض الشيوخ فرفض دعوتهم .

*************************


جاء من قرار مكين، شهورا ً ظل يبني صرح جسده خليّة خليّة .

 يخال الناس أنه الرقاد في فراش سَرّي يتقرفص فيه، ويأتيه رزقه بلا كلل ولا نصب، بهدوء، بغاية الهدوء يأتيه رغداً .

حين كان نطفة طـُرد،وكان نصف كيان استقبلته في رحم أمه لؤلؤة تنتظر جمهرة المتسابقين،كان أسرعهم، فاتحد بها، وطفقا يبنيان هيكلا ًمقدسا ً .

طردته أنانية أبيه من صلبه .

أخوة له من قبل طردوا كلهم .

نزل أحدهم في عالم مطاطي ونزل الآخر في دبر حيوان ونزل آخر في بالوعة نجسة، لكنه كان محظوظاً فنزل في رحم أمه النظيف، وغلق الباب دونه.

نضج، ففتح باب الرحم ،ومُلص مخضبا ً بالدماء المهللة للحياة.

*************************


مرة أخرى رأى الدماءولكنها دماء تزغرد للفناء .

غزاهم الأشرار فذبحوا أبيه وبقروا بطن أمه وسُبي مع الذراري .

بُح َصوت النخاس ولم يرق لعين مشتر فأضلاعه بارزة ولونه أصفر فأطلقه فغدا يتسول في الأسواق ومر به أحد التجار فعرض عليه خدمة زوجته العاقر واتخذه إبنا ً .

كان يأكل ما يكفل له الحياة ويفضّل النوم على حصيرويلتحف صوفا ًلا حريرا ً فزاده صغر الدنيا في عينه كبرا ً في عين سيّده

- لك أن تتوسد فراشا ً أنعم وتأكل لقمة أسوغ فيغدو وجهك صبوحا ً.

 - لولا ثلاث لم يقع حيف ولم يسل سيف، لقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك .

 *************


كان سيّده يستضيف عدداً من الخلان، واكتشف أنه كان يتنصت على ما يتدارسون ويتحاورون فيه .

خاف التأنيب لأنه استرق السمع وتنصت دون استئذان،و تصوّر أن فعلته ستغضب سيّده فإذا هي تفرحه، لكنه سأله عن دوام حزنه والأسى الذي يصطبغ به وجهه.

 - ضاعت ظبيتي ولا أعرف ما الذي حل بها .

وزاد اصطباغ وجهي أسى حين بلغت الحناجر الترا قي فانهمل دمع العين .

 - لك هذا الكتاب احتفظ به فهو إرثك مني، وأعلم أنك لا تروم مالا ً ولا تبحث عن جاه .

في ليلة شتاءها بارد يستبد في الأعضاء، قارس، وهو يتدفأ بسخين دموعة دخلت عليه أرملة سيّده وعلى أحداقها غشاوة الشبق .

- زادني البرد برداً.

- أمي !

- طار الكرى عني فقادني البرد طوعا ً إليك،فلا تكن جمادا ًوهب لي رقادا ً، إنس كلمة أمي هذه وتعال أهبك مالا يبلغه غيرك ولو بشق الأنفس .

- أمي !

- تفتأ تلهج بلفظة رحلت برحيل سيدّ ك، لاتمنع نفسك بعض لذتها فقد ظفرت بالروح مني.

- صعب ُ علي ّ أن آكل من ماعون غيري .

- لا تخذل شعور امرأة تريد الدفء هل يرضيك أن أستدعي خادمتي لتكون في موضع سيّدك فأبيع أنوثتي بثمن بخس .

- أمي ... كفاك بدأت أوصالي تقضقض .

- بل طائرالإحساس يغرد .

- لا يا أمي لن يكون ذلك إلآ إذا أعلنتيه للملأ، وبعدها سنأكل في إناء واحد.

- لا تخذل نسيما ً طيب النشر، بدأت سهام يأسي تخترق ثوب صبري والذي قادني إليك غصن لوعتي المثقل بزهرأنوثتي،ووعد لك تحقيق مرادك.

- إذهبي إلى المخدع وسأتبعك.

إنطلقت مغتبطة .

نكث جرابه من كل شيء عدا الكتاب الذي أهداه له سيّده، وأطلق ساقه للريح .

**********************

 

وقفت أمام المرآة تتفحص وجنتيها وقرصتهما مستدعية حمرة الأصيل .

- مرآتي الصقيلة، يا أخت النهار، هل برقي مازال يخفق في غلائل السحائب ؟ وغصوني نضرة تلذ للناظرين ؟

- مرحى جميلة الجميلات، أيتها المتوحشة،أضناك نأي أنفاس الرياحين لا شك أن الغريب سيهبك ما افتقدت سنينا ً، ما لم يستطعه الكهل،عقار العشّاب إقذفيه في المزابل، ستهصرك الفتوة ويشف غليل صدرك بالغليل .

إمنحيني فرصة التمتع بمشهد الفتوّة تنهار بين سفحي الشهيق والزفير .

 - إي مرآتي، تكاد الينابيع تشح وما وجدت هاطلا ً، ويكاد يفر ّ رونق الألوان من زهوري، أترينني أخطأت؟ أنا لا أطلب غير حقي وحاجات النفس قاهرة وحاجات الجسد أكثر قهرا ً .

- لا جميلة الجميلات، إخلعي نقاب خوفك وارفلي بوشاح روضك فروضك خصيب، إصطنعيه لنفسك فقد طمى السغب، لِم َ ترتعشين ؟ ولِمَ خصلاتك تصطفق؟

**************

 

إنطلق يسعى في أرض الله بين فضة الرمل وزرقة السماء،فسمع صوت يصدر من الكتاب الذي يقبع في خرجه .

- لله درك، يا لنبلك .

لم تسمح لدعوة الهوى أن تصفع قفا الوفاء، يا لجليد قلبك أمام صولة الجسد، أعرضت وإن انتفض طري شجرك ونقرتك مناقير الشهوة فقاتلتها وثلمت  أسنة جندها.

سار على غير هدى، أكل مما تنبت الأرض وشرب مما يشرب الوحش فاستمرأه ولم يستمرىء ما همّت سيدّته به .

في ليلة مكحولة الآفاق تسرق فيها الظلمة البصر سطعت عيون ظبيته المفتقدة وبدأت تتقافز بين الكثبان الرملية فتبعها لاهثا ً، وبسفح كثيب رملي قعدت، ومن تعب رقد .

فز ّ إذ أحس بصدريغفو على أضلاعه .

نظر إلى ثقوب الخرج فرآها مغمضة خجلا ً .

- أنا ظبيتك فلا توجل، وكحلاوات الظباء اللواتي فررن يوم كنت في المرعى أتين في إثرنا .

- أنا الشعثاء، وكانت تتزين بقلادات غريبة الفصوص .

- أنا طريفة وكانت تحمل قارورة عطر ترش بها المكان .

- أنا خويلة،وكانت بغمازتين تضيفان لحسنها حسنا ً .

- أنا رقاش،وكان اللوز قد سرق من عيونها شكله .

 بدأن يرقصن واندفعن يغنين بصوت واحد لم تسمع الخلائق مثله ولا سامع ألذ منه .

 - نحن الخالدات الناعمات الراضيات فطوبى لمن كان لنا وكنّا له .

قبيل شروق الشمس قالت ظبيته :

حان وقت الرحيل، لسنا بساحرات بل من فتيات الشياطين، فأن رمت عالمنا الذي استهزأتم به وسخرتم منه فما عليك إلآ أن تقرأ كتابك فيعلمك كيف تربح نفسك، سنغوص في الرمال .

سرعان ما استوين تحت الثرى وخلفن قمعا ً رمليا ً .

تفحصه، فكـّر قليلا ً، ثم تدلّى تحت آنية فضة الرمل .

قبل أن يكتسي الأفق ببهاء الضوء كان قد غاص .

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2114 الثلاثاء  08 / 05 / 2012)

في نصوص اليوم