نصوص أدبية

اللقاء الحتمي / محمد تقي جون

ولكن عموماً هو وقت طويل فالأيام تتسارع مضياً كأنما تلقى من قطار كهربائي!.. فما أثقل ذلك.. ابتسامتها متصمغة في ذاكرته، وخطاها تفتح بوابة الحب على مصراعيها. قد يمر زمن متجمد ولكن.. في لحظة يقوم ذلك العالم الخرافي من رماد الأمس فيحتل كل وجوده كطرقات القدر فتكون حاضرة من جديد فيردد بتشنج " لقد كبر كل شيء في هذا الكون إلا حبك، باقٍ على حاله ولو ركضت الدنيا ألف سنة!!"، ثم يردد بثقة " سأذهب غداً إلى البياع ". ولكنه قالها قبل شهور ويقولها باستمرار دون أن يفعلها، لأنه لا يريد أن يقحم نفسه فيما لا يحمد عقباه، ولا يعلم عن ماذا سوف يتمخض.. كان العالم في رأيه ينتهي إلى حيث بوابة دائرتها الكبيرة.. إذا تخطاها قد يخرج من كل هذا العالم.. قد يموت!! انه لا يستطيع التكهن بالنتائج، ولكنه يخاف أن يواجهها.. أن يقتحم عالم الحلم الجميل وهو محمّل بواقعه التعيس. كيف يدخل بأثقاله إلى الباحة الملأى بالصور والأغاني، كيف يخترق الحاجز القاسي بين عالمه الميت، وعالمها المليء بالحياة حيث تغرد النجوم وتسبح الأشجار وتنام الساعات!!!

ذات يوم لم تصدق عيناه حين نقلت إلى دائرته فتاة تشبهها " نعم إنها هي.. إنها اشتياقها بعثته اليّ إنها رسالة حبها ويجب أن أرد عليها.. كلا ليست مصادفة.. إنها ملَّت انتظاري، ملت يأسي وتراجعي فبعثت نفسها لتحسم ترددي!! غداً سأذهب إلى البياع!" ولكنه ظل يتأمل الشبيهة إلى نهاية الدوام كلَّ يوم، كأنه يفرِّغ فيها شحنات قلبه، ولم يذهب البتة.

لقد ظل يستعيد حياته كل لحظة وهو يتأمل الشبيهة وتمر الصور متسارعة.. حبه (الأمل الوحيد)، حياته الزوجية (الفاشلة)، أطفاله (الضحية).. وحبيبته تصبغ ضحكتها الماضي بلون ابيض، ولكن تبقى صور الماضي تستشف من خلاله لا يستطيع محوها.. صور داكنة ولون ابيض!!.. ثم يخرج من كابوس أعماقه على رنة ضحكتها " يا للكارثة حتى في ضحكتها تشبهها!!". وفي احد الصباحات ركب (الكية) أو البراق في رحلة محمومة ظل يرتعش من مخاضاتها المتكررة ذاهباً إلى (البياع) حيث دائرتها أو (الطريق إلى سماء كونية سحيقة!!) وأمام البوابة الكبيرة ألقته (الكية) في ثغر مجرة ملتهبة، فألقى الخطى رتيبة يكاد صوتها ينخر جمجمته وظل يخطو حتى وصل إلى باب الدائرة، لقد وجد الفرق شاسعاً؛ انه بين وسطين أو عالمين متباينين تماماً، عالم الخيال الجميل، الذي يمنحه الأمل في البقاء، وعالم الواقع المر الذي يزوده بالقلق والرعب والحرمان ويؤكد فناءه، وهل عليه إلا أن يستمر بالوجود؟.

حين وصل غرفتها أحس بان رأسه معلقة في الفضاء بلا جسد، ولكنه استمر متعثراً منخوباً.. وفجأة هبَّت همته حينما وجدها تبتسم له ابتسامة فيها انشراح جعلته يمضي خارجاً من تردده.. وبلا شعور تقدم يحث الخطى حتى قاربها والتقى قرصا وجهيهما كما تضع شيئا على شيء بحجمه فينطبقان تماماً.. أحس بأنه بداخلها أو هي بداخله فانتشى وتمنى لو أن الزمن جاد بها عليه فكانت هي عالمه اليومي، ويسقط كل شيء يمنعه منها.. أحسّ بان الحياة تنشط من حوله حينما جالسها وحادثها وتسامرا وتعاتبا وتضاحكا.

وتوقف فجأة أو توقف في داخل نفسه.. أحس بانكسار مذهل.. أحس بأنه يغمى عليه، أو إن الواقع يهاجمه بكل أسلحة الدنيا، فهوى الحلم ورأى فتاته التي لا تبعد عنه إلا بوصات قليلة تفصله عنها مئات السنين الضوئية فأحس بأنه ينكسر.. ينكسر. انه بين عالمين لا يستطيع أن يكون فيهما معاً أو يجمعهما، ولأنه كان عاجزاً عن أن يمارس الحلم محتفظا بالواقع فقد وضع نفسه أمام القرار الصعب الذي كان يهرب منه طوال ما سبق.

وفي الحين الذي بقي فكره معلقاً بين أمرين كان بصره يسرح ويمرح في تفاصيلها ويتقلب في نعمائها ثم تبعه كل شيء فيه وصار يمتزج بها مختاراً الحياة الثانية التي ستهبها إياه حتما.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2123 الخميس  17 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم