نصوص أدبية

دعابل خضر / حميد الحريزي

ليترحموا على أرواح موتاهم وتوزيع الثواب، لفت نظر بعض النساء في المقبرة، وجود امرأة ممدة بجانب قبر معلم بصورة شاب، حاولَنَّ إعطاءها بعضا من الفواكه ولكنها لم تستجب لهن ولم تحرك ساكنا ... أعدنَّ عليها النداء مرات ومرات، هززن جسدها فوجدنَّه باردا متخشبا، لا حياة فيه ...

أكملت كباقي الناس إعدادها الثواب لزيارة قبر زوجها الشهيد (محمد)، كانت تصطحب معها وحيدها (خضر)، أم خضر ستذهب هذه المرة وحدها لان ولدها كما تقول قد سكن قرب والده منذ ان اخذ عربته متوجها للسوق في مركز المدينة، امتهن (الحمالة) اثر وفاة والده، ترك المدرسة ليوفر لقمة العيش له ولامه، رفض مزاولة والدته للخبازة. "آني ابن محمد مو ابن الخباز ة" يلبس حزام أبيه دافعا عربته إمامه متلفعا بيشماع اسود، يضفي عليه علامات الكبر رغم نعومة جسمه.. يزوغ في بعض الأزقة متحاشيا لقاء احد من زملائه الذاهبين للمدرسة، يرسل خلفهم الحسرات مستذكرا أيام دراسته وتفوقه في الدروس..ظل يواصل قراءته في البيت عند عودته من العمل، ثم يطلب من أمه ملاعبته (الدعبل)...

يلله أم خضر خل نشوف شطارتج بلعب الدعبل، يختط له (أورطة) في باحة الدار، ساحبا إياها من يدها محلفها بروح العزيز أبو خضر أن تشاركه اللعب...

"ولك يمه آني وين واللعب وين  " مستذكرة أيام طفولتها وكيف منعها الأهل من لعب الدعبل مع الصبيان، عليها أن تلعب (محلقوه)مع البنات فقط، ظلت متشوقة لهذه اللعبة المسلية التي برعت فيها، متغلبة على أقرانها من الصبيان _ تنهمك في اللعب وتحرز النصر تلو الآخر على (خضر) حتى تقترب دعابله من النفاذ...

الله الله أم خضر صدك شاطره باللعب تكَولين ما عندي خلك؟؟؟

تبدأ تتراخى في لعبها مرسلة الدعبل بلا مبالاة موفرة له فرصة الفوز والمسرة.. تطبع على جبينه قبلات الفرح والود فهو ""وليّدها أبو ألعيشه و (الوالي) و(زلمة البيت) شايل ريحة محمد – كما اعتادت إن  تخاطبه..

تدور هذه الذكريات في مخيلة (خضر) كما تدور عجلات عربته المتوجهة صوب السوق.. يحتمل فضاضة بعض رجال الشرطة ومحاولاتهم منعه من تجاوز الحواجز الكونكريتية لدخول السوق، يغتنم فرص انشغالهم فيزوغ مع المتسوقين بخفة عالية...يطالع وجوه الناس والبسطايات، أنواع المعروضات، كانت أمه تصطحبه معها عند الذهاب للممسواق اليومي، ينط أمامها او خلفها، تشتري له (شكرية) و(ديوك عسل) أو طيارة ورقية أو دعابل جديدة ..

قرر خضر أن يشتري دجاج وفواكه ثواب لوالده في ليلة الجمعة كما وعد والدته "قبل أن يخرج للعمل" اليوم سأعمل بهمة وسيرزقني الله وافي بوعدي لوالدتي" حمل عربته بأنواع الأكياس للمتسوقات قاصدا البيوت في درابين البراق خلف أضرحة (بنات الحسن) (ع) فجأة فار التنور، هبة عاصفة حمراء محملة بسكاكين النار ووووو. اهتزت لها أركان بيوت منطقة (حنون)* سقطت من على رف الغرفة حافظة دعابل خضر، تناثرت شظاياها الزجاجية في الغرفة ...، صعدت دوامات الدخان في سماء المدينة .. اصفر لونها، تسارعت نبضات قلبها، هرعت تركض بدون شعور صوب السوق ... تركض وتصيح (يمه خضر، يمه اسم الله، بعيد البله ولا كَالها الله) حاول الشرطة منعها من دخول السوق ، تجاوزتهم وأخذت تبحث بين الأشلاء المتناثرة في السوق طولا وعرضا ..."خضر يمه خضر .. إني أشم ريحتك .. لكن وين انته لابِد.. جاوبني خضر ..." عثرت على عربته النصف محترقة وسط اشلاء الجثث وبرك الدماء الساخنة...

(خاله شتدورين الجثث ما تتميز الوحده من الثانيه؟؟؟ يجوز أبنچ بالمستشفى يو شرد خارج السوق...)"لا لا يمه لا خضر هنا بالسوگ انه أشم ريحته بالسوگ . هاي اديته، هذا اشماغه .. هذا احزام أبوه " ركضت ناحية أخرى وصاحت (هاي وصله من جسم وليدي ... هاي وصله من بنطرونه .." صعدت احد الفوگ". "" آني أشمه هنا فوگ" .. عادت تحمل رأسه المهشم والمحروق .بنواح وصياح،قالت هذا هو وليدي خضر.... لطمت الخدود نواح وصياح تتفجر له القلوب، سقطت فاقدة الوعي ... رقدت في المستشفى عدة أيام بين إغماء وصحو. بعد إن خرجت من المستشفى اخذ الجيران يلاحظون عليها تصرفات غريبة يسمعونها تتحدث مع خضر .. كأنها ممسكة بيده مرافقا إياها للسوق، تجلس في الشارع تلاعبه(الدعبل)، تشتري له الملابس واللعب تطير الطيارات الورقية الملونة... تخطب له من بنات الجيران ..."خضر ما مات ... ابني خضر ما مات أبوه وده عليه وراح له"...تهيم في الطرقات والأسواق تسأل عنه الصبية في الشارع والسوق ... تسائل عربته" نشدت عربانتك كَالت لي "ما كو خضر طار خضر .. من يوم العجه الصفرة. من يوم المطرت الدنيه لحم ودم وخضر ما كو". تنهض تركض باتجاه المقبرة ..."هذاك خضر جاي من أبوه.... أبو خضر ردلي خضر، انته رحت خليلي خضر".. يتجمع حولها الناس نساءاً ورجالاً محاولين تهدئتها وتصديق تهيئاتها بان ولدها لازال حيا وسيأتي لداره، ازدادت نحولا وشرودا، اخذ بصرها يتدهور يوما بعد يوم حتى بلغت العمى التام، فلم تعد ترى سوى صورة خضر ولا تسمع غير صوت خضر، ابيض شعرها كشجرة داهمها الخريف في عز ربيعها ... رغم ذلك كانت تذهب كل ليلة جمعة نحو المقبرة قاطعة مسافات غير قصيرة تتجاوز المنحنيات والمنعطفات وتقاطعات الطرقات وسير المركبات لتصل قبر ولدها وزوجها ... تستدل عليهم من خلال شم رائحتهم - كما كانت تقول – تجلب معها طعام الفطور والغداء والعشاء مع الشاي والفواكه في كل مرة تزورهم .. تجلس عندهم تفترش سفرتها وتناديهم لتناول طعامهم ... يهدها التعب واليأس بعد الندب واالصياح .. تترك السفرة على حالها لتعود أدراجها ، معتذرة لهم، تعدهم بأنها ستجلب لهم ما يحبونه في المرة القادمة .. هكذا استمر حال أم خضر حتى أصبحت مضرب الأمثال (مثل أم خضر) في عظمة مصابها ولوعتها ووفائها وحبها المنقطع النظير لولدها وزوجها.....تعرفت عليها إحدى جاراتها عند زيارتها لموتاها صباح عيد الأضحى، اجروا لها مراسم الغسل، ورغم محاولاتها لم تفلح (المغسلة) أن تخرج (الدعبل) من يد أم خضر، فقرروا دفنها مع (دعابله) بين زوجها وولدها، أخذت النساء تزورها وتنذر لها النذور تبركا وطلبا للحاجة، يضعن نذورهن (دعابل ) و(طيارات ) ملونة قرب الأضرحة الثلاثة.. حين يعود غائب او يرزقهن الله بمولود طال انتظاره....

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2124 الجمعة  18 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم