نصوص أدبية

القرد / حامد فاضل

(ترى ما الذي يبغيه ذلك الميسور الأبله من فكرته الغريبة تلك؟) .. مؤكد أن الرجل مختل العقل، رغم قناع التعقل، وبردة الوقار التي نسجتها اكف المال، وسحر الترف، ذلك الذي يدهش المحرومين من أمثالي .. إن باستطاعته أن يشتري حديقة حيوان كاملة لو اراد . وان يملأ البستان الرائع المحيط بالقصر بكل القرود الاسيوية والافريقية، بل بكل انواع القرود المنتشرة في غابات الكرة الارضية .. واتاني الجواب في اليوم التالي، حين ساقني الفضول الى القصر: (أن تربي قردا،أمر في غاية البساطة ، أما أن تحول أنسانا إلى قرد، فذلك أمر في منتهى الروعة) .. قال ذلك الرجل الميسور، وأنتزع غليونه النابت في زاوية فمه، وابتسم مستعرضا اسنانه البيض امام عيني اللتين لا تطرفان  من  الحيرة والترقب والفضول .. كنت قد اتيت الى هذة البلدة الغريبة باحثا عن عمل، وتناقص كيس نقودي ما بين اجرة المبيت، وثمن الطعام، حتى شارف على الانتهاء، ولما اجد العمل الذي يرضيني ويلبي طموحي  فرضخت لتهديد الافلا س .. الغيت وجبة العشاء،  وامتنعت عن دخول المطعم، واكتفيت بشراء الطعام السفري من العربات الجوالة .. وحد ث ان ابتعت  وجبة افطار فقيرة، أجهزت  عليها، ومسحت فمي بورقة الصحيفة التي كانت تغلفها . ثم رميتها في كف الريح، وقبل أن أغادر الرصيف، أعادتها الريح باتجاهي، فتدحرجت، واصطدمت ببوز حذائي العتيق، وانفتحت مفترشة الرصيف: (مطلوب للعمل !)، بزغت أمامي تلك الجملة السحرية التي ظلت عيناي  تطاردها على صفحات الجرائد منذ اول يوم تعرفت فية قدماي على دروب هذة البلدة .. اعلان مطبوع بخط كبير، وبلون زهري .. ورحت اقرأ الكلمات المسفوحة على قارعة الصحيفة المبللة بالزيت،  والمبقعة بفتات الطعام: (مطلوب للعمل، شاب رشيق القوام مفتول العضل، خفيف الظل  ، سريع الحركة ، ولة القابلية على الجري السريع، والقفز في الهواء، ويفضل من لة خبرة في رياضة الجمناستك،  والعاب الكروباتيك، شرط أن يكون غريبا عن البلدة .)، التقطت عيناي العنوان بقوة الرغبة التى تولدت عندى في تلك اللحظة للحصول على العمل .. أسرعت، سرت طائرا . ربما ارتفعت قدماى عن الأرض بفعل اللهفة، والعوز، والتمني، لأجد نفسي أقف مرتبكا في أحدى صالات القصر، تمسح جسدي عينا الرجل الميسور الذى صدمني بنوع العمل.. فبعد أن امرني بخلع حذائي المتخاصم مع الصبغ، وجوربي المثقو بين . دار حولي عدة مرات، وتنقلت عيناه مابين قمة راسي، وأخمص قدمي ..اقترب مني، ومد كفا بيضاء ناعمة، حطت على ام راسي، وابتدأت تمسد شعرى. ثم انزلقت على جبهتي، نازلة إلى انفي، لتجس الأصابع اللينة منخري، وتقرص وجنتي، وتنتقل لمداعبة أذني،  وشاركت يده الأخرى في فتح فمي،  لتطرق بأناملها الرقيقة على أسناني، واصطدمت عيناه الفاحصتان بعينيّ القلقتين، وهو يواجهني واضعا كفيه على رمانتي كتفي، ثم أنزلهما، تتلمسان على طول ذراعي، واصلا إلى كفي آخذا أصابعي الخشنة بين اصابعه الناعمة، يتفحصها واحدة، واحدة، ثم هبط متلمسا فخذى، ودبت أنامله مولدة قشعريرة لذيذة بين ساقيّ، أخذت فكرى بعيدا، لكن فضولي أرجأ فكرة ركل الرجل، والهروب من القصر.. جثا عند قدمي وظل يحدق بهما، وكأنه يتملى لوحة زيتية نادرة، أو تحفة فنية رائعة، ثم قفز مستقيما، منهيا فحصه الدقيق بصفع مؤخرتي صارخا: (هائل .. رائع.. عظيم.. أنت المطلوب ..أنت الذي كنت أنتظر!) ودنا مني، الصق فمه بأذني وهمس: (ما قولك في القرود .؟)  أجبته بتلقائية: ( لطيفة وذكية)،  فأضاف بفرح غامر: (وهي أقرب الحيوانات شبها بألانسان ) ودار حولي بحركة راقصة، ثم قرب وجهه من وجهي مهيجا حساسية أنفي برائحة فمه، وقال بصوت منخفض: ( سأمسخك قردا) .. رددت عليه بعطاس متواصل،  فتراجع أمام رشق الرذاذ، ليجلس على كرسي فاره، طالبا مني الجلوس، فغطس جسدي في الكرسي الذي يقابله.. مسح وجهه بمنديل ورقي، وبعد أن استعرض أسنانه، بتر ابتسامته، أو  تكشيرته، ومضى يسرد لى تاريخ القرود منذ أول قردين حملهما نوح في سفينته إلى  القرد الذي أقف الآن على حافة التحول  اليه .. تبددت غيمة الظن التي شككتني بشذوذ الرجل، وأنا أستمع  إلى محاضرة  طويلة عريضة عن القرود، جبت فيها غابات العالم متحريا القرود، معلقا خرائط  مواطنها على جدران مخيلتي، متعرفا عاداتها، ونوع غذائها، إحساسها  ومشاعرها، تزاوجها وتكاثرها، حياتها ومماتها، كنت مأخوذا أنصت إلى الرجل الذي يتحدث  بصوت ساحر، ينساب رقراقا، عذبا، راسما بشفافية عالية صورة للقرود الذكية الأليفة التي لا يملك المرء الا أن يضعها في قلبه .. حملني صوت الرجل على أجنحة شفافة، فزرت بلدانا لم أرها حتى في امتع احلامي، وجاست خطواتي  أرضا، لم يطأها انسا ن قبلي، وجزرا، لم تر أعين قرودها مكتشفا مثلي  .. أعادني صوت الرجل الى الصالة  ووجدت نفسي  أجلس قبالته وهو يكرر سؤاله: (ها .. ما رأيك بالاجر؟ ) كنت للتو محلقا على اجنحة خيال الرجل، وفجأة وجدت أسنانه البيض تشرق في عيني، وهو يستعرضها  بابتسامة ثانية .. دخت، بقيت انظر في وجهة ببلاهة، وصار هو يرفع الاجر طالما ظل صمتي ممتدا، حتى بلغ رقما، جعلني أبلع  ريقي .. أبصرت بعيني خيالي  حزما من الاوراق الزرق، والخضر، التي لم أرها في كل أحلام الليالي المفلسة  .. ولا ادري أأصابني العي من نوع العمل الغريب،  أ م من الاجر غير المتوقع، وقبل أن أطلب مهلة للتفكير، سمعت الرجل يقول: ( أذهب الآن، وعد عندما تجد القرد الذي بداخلك ) .. تحولت غرفتي المزرية التي اقبع فيها في احد فنادق الدرجة العاشرة الى ملعب للا فكار . وطوال الليل، ظلت كرة رأسي،  تترنح بين مضربي الرفض، والقبول .. وفي الصباح  قذفني مضرب القبول امام الرجل الميسور: (اقسم) قال الرجل الميسور، وهو يجدني أمامه: (انك تصرفت كقرد حين عدت الي بمحض ارادتك .. لا تعجب ففي داخل كل منا قرد مختبئ).. وأشار على  بالجلوس إلى جانبه، وراح يجيب  على كل الاسئلة التي كانت تدور في رأسي، وهو يطوقني بذراعة بود .. ثم نادى على الخادم، فدخل رجل مفتول العضل، قاسي الوجه، أشار إليّ أن أتبعه.. نظرت إلى الرجل الميسور، فغمزني بعينة مشجعا .. أدخلني الخادم إلى إحدى الغرف، وأوصد الباب، تحسست من رائحة الهواء المحبوس بداخلها،  كانت الغرفة خالية من ايما اثاث بأ ستثناء جلد قرد يتدلى من مسمار نابت في الحائط، ومرآة اتكأ ت  على الشباك المقفول، فهمت المطلوب .. تناولت جلد القرد، كان يناسب مقاسي تماما، ارتديته، فأبصرت قردا يتحرك على قارعة المرآ ة.. سمعت صوت الخادم: (هل انتهيت؟) احترت، هل أجيب بنعم كإنسان، أم أصرخ، وأصفق كقرد، ورجحت كفة الجواب الثاني،  ففتح الخادم الباب، وسار أمامي، وتبعته بخطوات قرد الى البستان حيث كان الرجل الميسور بانتظاري، فقلدني بقلادة موصولة بسير جلدي، وسلسلة طويلة ناعمة .. اعترضت لأني  قبلت العمل برضائي، ولم تراودني فكرة الهروب حتى أقيد بهذه السلسلة الشبيهة بافعى .. أستاء الرجل الميسور، وأمرني أن لا أتكلم، لا ني صرت قردا، وعليّ أن أتصرف كقرد: (أنت القرد، وأنا سيد ك) ..  أمسك طرف السلسلة، واقتادني بلطف : (مونكي هيا إلى نزهة الصباح) .. تجولت معه في البستان  الكبير،  الواسع  المليء باشجار الحمضيات،  والكروم، والنخيل، والتفاح . حتى وصلنا الى حوض السباحة، فتركني الرجل الميسور عند سياج الحوض، وتجرد من الروب، وخلع البجامة، وألقى بغليونه على العشب، وغطس في الماء الأزرق .. التقطت الغليون، ووضعته في زاوية فمي تماما كما يفعل سيدي ..  وأخذ ت  أدخن  متلذذا برائحة التبغ الثمين، حتى إذا أنهى سيدي سباحته، وخرج من الحوض، خطفت المناشف التى احضرها الخادم، وأخذت أصرخ وأصفق، واقفز في الهواء، وظل سيدي يتملقني كي أناوله المناشف، ثم ركض باتجاهي واحتضنني مقبلا راسي : (مونكي .. هيا لنتناول طعام الا فطار) .. وكان ذلك اشهى طعام تناولته بعد حليب أمي، وكنت سعيدا للغاية وسيدي يقشر لي الموز، ويلقي إليّ  بلب الجوز، ويكسر لي الفستق، والبند ق، ويطعمني اللوز، والسكر، وأنا أناكده  محاولا عض أصابعه، وهو يضحك حتى تدمع عيناه، ويصرخ مخاطبا  الخادم المنتصب أمامه كتمثال: ( قرد ذكي ها .. ها .. ها .. قرد ذكي !) ..   ملأتني تلك الكلمات غرورا، فصرت أقفز، وأصفق، وأصرخ .. وفي محاولة لابراز مواهبي، تسلقت شجرة قريبة: (الله ..  الله) ..   كان سيدي يصرخ:  (يا للقرد الرشيق). ثم ناداني برفق: ( مونكي، انزل .. هيا انزل بسرعة يا مونكي)، قفزت بخفة من الشجرة، وتعلقت بأكتاف  سيدي،  فحملني على ظهره، وصار يدور بي في البستان وأنا أداعب أذنه بلساني، وهو يضحك جذلانا، ثم أنزلني من ظهره،  وأمر الخادم أن يقتادني إلى القفص .. حاولت أن اعترض، لكني خشيت أن أفسد على سيدي متعته.. فدخلت القفص كانني ولدت فيه .. وألفت البلدة منظر القرد الذكي،  وسيده الميسور، وهما يجوبان عصر كل يوم شوارع البلدة بسيارتهما الفارهة ، السيد يجلس في المقعد الخلفي مطبقا  زاوية فمه على غليونه، والقرد يقود السيارة، وأهل البلدة بين مبهور فاغر فمه، ومحوقل يتوقع قيام الساعة، ومتفلسف مستنتج يحاول أن يجد تعليلا، ومفسر شارح لهذه الظاهرة .. وأنا، وسيدي، نشعر بالزهو، لأننا ألقينا حجرا في بركة البلدة، وهكذا مضت  الأيام، بالنسبة لي كنت القرد الذكي المدلل، وكان الرجل الميسور، السيد الذي يفخر بقرده، الذي يفتح له باب السيارة، ويقودها، ويقدم المشروبات لضيوفه، ويرقص في حفلا ته الصاخبة  حتى الصباح، يقبل النساء،  ويغمز لهن  ويحتضنهن، وهن يضحكن، ويتقافزن، ويتصايحن: ( يا للقرد العاشق .. يا للقرد الشبق !).. كنت أتتسلق المواسير، والأغصان، وأقدم ألعابي المبهرة الرائعة امام ضيوف سيدي في كل الاماسي  المترعة بكل ما لذ، وطاب من متاع الحياة الدنيا .. حتى  جاء يوم ميلاد سيدي، فأقام حفلة كبيرة  فريدة، دعا إليها كل أصدقائه الميسورين في البلدان المجاورة، وكنت أقدم نمرتي، كما في كل حفلاته السابقة، جذلانا، فرحا، وأنا أحصد التصفيق، والقبلات .. وفجأة برز أمامي ذلك القرد الضخم، المشعر الذي أحضره أحد المدعوين.. تقلص قلبي، وغابت  ابتسامتي،  وتسمرت كفي على العقلة التي كنت أتأرجح  بها، .شعرت بالخطر، وأدركت أن شيئا ما سيحد ث . وابتدأ الصراخ، صار ذلك القرد يقدم  ألعابه، مستعرضا ذكاءه أمام المدعوين الذين صاروا يتخلون عني  ويتحلقون حوله .. رأيت الغضب  يربو في عيني سيدي صار ينفث دخان غليونه بدفقات سريعة وهو يزعق بي طالبا مني أن ابتكر ألعابا جديدة أبز بها ذلك القرد المتهافت،  وحين لم يحصد مني غير ما زرعه فيّ .. اتجه إلى سيد القرد وطلب منه أن أصارع قرده، فوافق الرجل  . وأخرج المدعون دفاتر شيكاتهم، ولا ادري  من الذي د فع سيدي  لهذا الرهان .. أهي بلاهته؟ .. أم الكؤوس التي احتساها؟ . أشرت إليه محاولا إفهامه أن يتراجع عما هو مقد م عليه،  ففاجأني  بقوله  وهو يقودني إلى الحلبة التي نصبها الخد م بسرعة مذهلة: (اقتله يا مونكي العزيز .. مزق جسده بأسنانك وأظفارك ..اثأر من  من سرق منك الأضواء)  .. حاولت أن اهمس  إليه  بصوت  إلا نسان، أن أذكره  من أنا، فلم تخرج من فمي غير  همهمات لم افهم منها أنا شيئا .. صعدت إلى الحلبة، ووقفت في زاويتي أفكر بمخرج من المأزق الذي وضعني فيه سيدي كيف يتسنى لي مصارعة قرد حقيقي؟ !  أطلقت صفارة البدء، تحركت خائفا مترددا، لأواجه ذلك القرد الضخم المشعر، واقتربت منه حذرا .. ويا للمفاجأة، رايته يحرك شفتيه، ويدعو ربه  كي ينجيه من القرد الذي يواجهه، فأدركت أن غريمي من فصيلتي نفسها .. عندها طرحت الخوف عن مفاصلي واستعدت شجاعتي ومرحي .. كشرت عن أنيابي،   واشرعت أظفاري، وهجمت على ذلك القرد.

 

قصة حامد فاضل

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2124 الجمعة  18 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم