نصوص أدبية

دعوة إلى مهرجان بابل / ذياب شاهين

لا أعرف من كان المغني، ولكنّ بعض المساجين والمحتجزين معي كانوا يبكون بصمت، كنت أبصر دمعاتهم تترقرق في عيونهم، وبصعوبة كانوا يدارونها، ويحاولون إخفاءها كي لا يراها الحراس الخضر بوجوههم الصفراء، الموسيقى تخترق القضبان لتلسع القلوب، كنت أحس أن قضيبا ناريا يكوي روحي وكأن يدا تضعه على قلبي ثم ترفعه، كنت أعجب كيف يختلف أثر الموسيقى خارج وداخل السجن، ففي الوقت الذي كان فيه صوت الجمهور يأتي فرحا  ومهللا ومصفقا، كنا ننوح ونبكي بصمت كافر.

كان مخفر الشرطة الذي احتجزت فيه أثناء مهرجان بابل يقع على طريق عوفي الطهمازية في الحلة، ولم أكن أتوقع أن أدعى إلى مهرجان بابل في يوم من الأيام، واستمع إلى المطربين والمطربات واستمتع بفن الفرق الراقصة العالمية من خلال الأسلاك الشائكة والقضبان، خصوصا أن الدعوة كانت من السيد الوزير نفسه، وزير الإسكان والتعمير، إنها دعوة كريمة بل وكريمة جدا إلى درجة أن عدم تلبيتها يعني استخفافا بالدولة والقائمين على المهرجان وهذا سيتبعه تهديد بالويل والثبور لي ولعائلتي، وبرغم أننا كنا نعيش حينها في ويل وثبور جميلين، لكن ويلا وثبورا من نوع آخر ينتظراني وينتظران عائلتي إذا لم ألبِّ هذه الدعوة النبيلة.

 

وبالرغم من أن أرض العراق كبيرة لكن الموقف الذي استضافوني به عبارة عن قاعة طولها خمسة عشر مترا وعرضها تقريبا ستة أمتار وكانت تغص بالمحتجزين، لم أستطع أن أحدد العدد الحقيقي للنزلاء  ولكنه ربما أكثر من مائتي نزيل، عند مدخل القاعة  قابلني تواليت شرقي مشترك وبدون باب، فمن يريد أن يقضي حاجته أو يتحمم سيكون مكشوفا لعباد الله الداخلين والخارجين لقاعة الحجز، كنا ننام بصفين متقابلين على الأرض،رؤوسنا إلى الحائط وأقدامنا تتجه إلى منتصف القاعة، والصف الثاني يقابلنا بالطريقة ذاتها رؤوسهم إلى الحائط وأقدامهم باتجاه أقدامنا حيث كنا نراهم ويروننا، وكانت تفصل بيننا مساحة لا تتعدى المتر ونصف المتر لتكون ممرا للحركة، لا شبابيك في القاعة ولكن الجدار الأمامي عبارة عن حائط يرتفع بمقدار متر أو يزيد قليلا، وقد ثبتت عليه القضبان الحديدية التي ترتفع إلى أعلى وصولا للسقف، وتمتد أفقيا على طول الجدار ولمسافة خمسة عشر مترا، كنا في النهار نقف عند القضبان نراقب الساحة الداخلية للمخفر التي غالبا ما كانت تكتظ بالمراجعين ورجال الشرطة، الكهرباء لم تنقطع طيلة وجودي هنالك، كان شيئا جميلا أن ننعم بالكهرباء فالانارة موجودة والمرواح السقفية كانت تعمل، إنه شيء وللأمانة يحسد عليه المحتجزون وقد تمنيت أن يطول بقائي معهم حتى بعد انتهاء المهرجان أقصد الحجز.

ربما سيحسدني بعضهم ويقول علي يا له من رجل محظوظ كيف حصل على هذه الدعوة الشريفة لمهرجان مهم مثل مهرجان بابل، وربما سيشتمني البعض الآخر قائلا لم توجه دعوة أصلا لهذا الدعي النكرة؟، لا بأس فأنا أتقبل أيَ شيء يقوله عني الآخرون، ولكنهم لو كانوا مكاني لما تجرأوا وذهبوا إلى المهرجان (ويا له من مهرجان) بأرجلهم كما فعلت أنا، وخصوصا  أن الدعوة لم تكن دعوة لزيارة بيت الله الحرام لكي تكون شريفة، ولكنها بالنسبة لي صارت مقدسة فيما بعد لأنها جزء وعلامة فارقة في حياتي البائسة،  فالذي حصل في ذلك الوقت أقصد في بدايات العام  1999 ، هو أنني وجدت نفسي بعد عشر سنوات طاحنة من الحصار في فقر مدقع ولا أدري من أعيل؟، هل أعيل زوجتي وأولادي الأربعة ووالدتي، أم هل أعيل أختي التي فقد زوجها في قادسية صدام المجيدة وتركها بدون معيل مع أطفالها الخمسة، وكيف أعيل إثني عشر شخصا وأنا عاجز حتى من إعالة نفسي، كان قراري بكل بساطة أن أترك الوظيفة وأنزل للسوق لأبيع أي شيء(سكائر، طماطة، بلاستك ) المهم أن أبيع شيئا يمكنني من إعالة عائلتي، وبرغم من عدم خبرتي في البيع والشراء وجدتني أجلس في السوق وأبيع أقمشة مختلفة في جمبر متنقل في سوق الحطابات في الحلة، وبالتالي تحولت من مهندس إلى بائع  جوال لكي أعيش، كان ذلك بالنسبة لي أشرف من البقاء في الدائرة لأسرق أو أرتشي كي أعيش، وكانت الأقمشة أأخذها من بعض التجار على التصريف، وأحيانا كنت أذهب إلى الشورجة في بغداد لجلب الأقمشة الجديدة أو المضروبة لكي أبيعها.

كان يوما بائسا ذلك اليوم الخريفي، فالجو مترب وسوق الحطابات مزدحم بالنساء المعدمات والمتسولين، وأصوات الباعة يصك سمعي ، كان التراب يتطاير مع الأوراق نتيجة الرياح، كانت حساسيتي للتراب شديدة، وكانت تمسكني سلسلة من العطسات التي تكاد تخلع قلبي لشدتها، كان لابد من بيع شيء من القماش كي أعيش إذ لا مجال للبقاء في البيت، ورغم التراب وشدته، لكن ما حدث في ذلك اليوم النكد كان أشد وطأة علي من الغبار الذي ملأ عيوني ومسلسل العطسات الذي حرق أنفي،  حيث أبصرت من بعيد  ضابط أمن الدائرة متوجها إلي وعيونه تنظران صوبي وكأنها وقعت على صيد ثمين، لم أكن مصدقا في حينه، حتى تمنيت أن ما أراه كذبا وتمنيت أن تخدعني عيوني ليكون رجلا آخر يشبهه، لكن أوهامي لم تكن في محلها، فالصورة أخذت تتوضح والكذب يتحول إلى حقيقة مرة ، فالرجل ذاته بدمه ولحمه ولا مجال للهرب أو حتى للاختباء، إنه ضابط أمن الدائرة التي كنت أعمل بها، شعرت وكأن لعنة من السماء حلت علي وكأن برقا قاهرا سيحرقني، تعوذت من الشيطان الرجيم باسم الله، وانتظرت القدر مستسلما مذعنا، وحين اقترب مني بادرني ضاحكا:-

- أهلا أبو همام .. وينك انت.. شنو أخبارك؟

- أهلا أبو قيس.. أنا بخير.. وأنتم ما أخباركم في الدائرة؟

- نحن أيضا بخير.. مكانك خالي.. والجميع يفتقدونك

- شكرا لهم..أنا أيضا أفتقدهم.. بلغهم سلامي وتحيتي

كان بائع الشاي ليس بعيدا عني فأوصيت له باستكان شاي، شرب الشاي ثم تكلمنا بأشياء عامة تخص أصدقاءنا  الموظفين من مثل كيف حال فلان وكيف حال فلانة وغيرها، ثم سلم عليّ مودعا وانصرف.

في واقع الحال لم يخيفني الرجل لذاته فعلاقتي به كانت جيدة، ولكن ما أخافني ما سوف يحدث بعد هذه المصادفة اللعينة، لذا بقيت طيلة ذلك اليوم حائرا ومرتبكا، وحين رجعت إلى البيت لاحظت زوجتي شرودي وقلقي رغم حرصي على أن أكون طبيعيا، ولكن يبدوأنني قد أخفقت في إخفاء قلقي، وحين استفسرت مني وسألتني عن سبب قلقي، أدركت ألا فائدة من عدم إخبارها وتيقنت أن الآتي سيكون سيئا، لذا ارتأيت أن تستعد نفسيا لما سيحصل لي منذ الآن، فأخبرتها بما حصل وطلبت منها ألا تخبر والدتي كي لا يصيبها ضرر، وبدأت أتساءل مع نفسي هل كانت زيارة ضابط الأمن مصادفة حقا كما اعتقدت أو أن أحدهم أخبره بمكاني فجاء ليتأكد بنفسه، ودخلت في دوامة تتقاذفني من هنا وهناك وبدأت استرجع ظروف ترك الدائرة، فحين تركتها لم يكن أحد يعرف إلى أين ذهبت وما الذي أفعله حاليا، ولا أحد يدري فيما لو كنت سافرت إلى خارج العراق كما فعل غيري من المهندسين حينما هربوا وتوزعوا في المنافي ، أو أنني رحلت إلى مدينة أخرى داخل العراق، كنت متيقنا أنني كنت محقا في تركي للوظيفة، كان يجب تسجيل موقف في رفض هذا النظام الذي أذلنا، كنت أشعر أن البقاء في الوظيفة إنما هو تعزيز لسلطة غاشمة فقدت شرعيتها، ولكني كنت حريصا في أن تكون محاولاتي في ترك الوظيفة بطريقة قانونية، لأسباب عدة منها الحفاظ على حقوقي وحقوق عائلتي، فخدمتي تناهزالعشرين عاما وهي ليست بالقليلة وأنا أستحق التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة على الأقل، ولكنهم ليسوا أغبياء فهم يقرأون حركات الناس وأفعالها، لذا وضعوا قوانين تسد كل المنافذ في أن يتحرر الناس من ذل العبودية الوظيفية الذي فرضوه على الموظفين كافة، لذا فمحاولاتي كلها باءت بالفشل، حيث رفضوا إحالتي على التقاعد ورفضوا استقالتي، فلم يكن أمامي سوى أن أسلم بيتي الحكومي وأترك الوظيفة التي حولتني إلى رجل معدم، كنت متيقنا أنهم سوف لن يتركوني وشأني فهم قد قرأوا ما أريد أن أقوله لهم وفهموه جيدا، ورغم أن ظاهر الرسالة ينطوي على جانب اقتصادي فهم فهموه بمغزى سياسي محض وهو رفض لنظامهم وقد يكونون محقين بذلك لأني لم أكن منهم في أي يوم من الأيام وهم يعرفون ذلك جيدا، كانت كثرة التفكير تصدع رأسي فأصابني في تلك الليلة أرق شديد ولا أدري كيف نمت.

في أول ليلة لي في الحجز وحين حلت العاشرة ليلا، سمعت أصواتا تأتي من نهاية القاعة، كانت عبارة عن صرخات من صوت ناعم يشبه صوت امرأة، ولكن الصوت كان عاليا ومخيفا، كان  حادا كأنه صوت ماكنة قطع الحديد، صوت يشبه العياط المتقطع، وحين التفت إلى يساري حيث مصدر الصوت شاهدت شخصا جاء منطلقا وبسرعة من تلك الجهة، مر من أمامي كالسهم حتى وصل نهاية القاعة ثم عاد وبنفس السرعة إلى مكانه، ثم كرر العملية عدة مرات وأخيرا توقف الرجل عن الركض والصراخ وجلس قريبا من مدخل القاعة، كان المدخل لا يبعد سوى خمسة إلى ستة أمتار عني، لم أكن قد شاهدت الرجل طيلة اليوم وقد هالني منظره، شعر كث ولحية طويلة ووجه أسمر وسخ، كان الرجل يلبس دشداشة مخططة ومتهرئة، تكشف عن ساقيه وقدميه القذرتين المتشققتين، وفيها شقوق تصل قريبا من ظهره وبطنه، يا إلهي ما هذا ومن هذا الرجل، كان شكله يشبه رجل مجنون، كان شكله يشابه الكثير من المعدمين المصابين بالخبال وتعج بهم الحلة.

حين ملت برأسي لأستفسر من السجين الذي يجاورني عن هوية الشخص، أخبرني بصوت هامس، أن الرجل كان أسيرا في إيران وعندما جاء إلى أهله وجد زوجته وقد تزوجت من أخيه فأصيب بالجنون، وحين أخذت أتمعن في وجه الرجل المجنون استنادا إلى هذه المعلومات وجدت أن المعلومات غير صحيحة بل هكذا خمنت في داخلي، فوجدت نفسي مجبرا على سؤال الرجل الذي على جانبي مرة أخرى :-

- ولكن ماذا يفعل رجل مجنون في السجن؟

فحدجني السجين بنظرة شزراء مصحوبة بعضة على شفته السفلى، كانت الحركة المزدوجة من العين والشفة تحذرني من عدم سؤال هكذا أسئلة لئلا تكون علي العواقب وخيمة، ازدردت لساني وسكت، وفيما أنا أجول النظر بما حولي متفكرا في كيفية قضاء ليلتي بعيدا عن عائلتي، هالني أني وجدت أن يومي كان طويلا جدا وما زلت للآن في أول ليلة مما جعلني أتساءل عن كيفية قضاء أيام احتجازي هنا، وحين وصلت إلى هذه النقطة أصابني وهن شديد، وفي ذروة تفكيري حانت مني التفاتة للرجل المجنون فوجدته يخرج بإصبعه موادا من خشمه ويضعها في فمه فأوشكت على التقيؤ، ولكن المجنون سرعان ما أطلق الأصوات ذاتها مرة ثانية وانطلق راكضا إلى الجهة الأخرى وتكرر المشهد عدة مرات ورجع ليجلس في المكان ذاته، وقبل أن ألتفت إلى الرجل الجالس إلى شمالي سمعت صوت النزيل الذي ينام إلى يميني قائلا:-

- أنه يفعل هذا كل يوم وحتى الصباح؟

- ماذا؟ حتى الصباح؟ وكيف تنامون؟

- إننا لا ننام؟

هنا شعرت وكأن فأسا سقطت على رأسي، يا إلهي كيف لي ألا أنام، هل هذا معقول وكيف ننهي الليل ساهرين وفي النهار يمنعنا الشرطة من النوم، وحين أجلت النظر مرة أخرى في وجهي محدثيي رأيت ابتسامة فاترة على وجهيهما، كان وجهاهما أصفرين وكأنهما ميتان.

 

كان خوفي في محله فبعد عدة أيام من رؤيتي لضابط الأمن في المرة الأولى، عاد وزارني مرة ثانية، وفي هذه الزيارة تأكدت مخاوفي حين بادرني قائلا:-

- أرجوأن تعذرني فأنا عبد مأمور؟

- وعن ماذا أعذرك؟

- لقد صدر بحقك أمر حجز من الوزير، وحولته الوزارة إلى مقر الشركة في بغداد وتحول إلينا في بابل لتنفيذه.

- وكيف تنفذونه؟

- سنبلغ به الشرطة وهم يقومون بالتنفيذ

- لكن الشرطة لا تعرف عنواني

- نحن لدينا عنوان بيتك وعنوان عملك الجديد في السوق، وهم سيأتون لإلقاء القبض عليك

- لا بد أنك غير جاد بما تقول وربما تريد أن تتمازح معي

- من يجرؤ على المزاح مع الدولة وأوامرها

ثم مد يديه إلى محفظته قائلا:-

- خذ ..هذه نسخة من كتاب الشركة وأمر الحجز

لقد أسقط في يدي عندما قرأت الكتاب، حقا فهو أمر من الوزير بالحجز لتركي الدوام، ولكن هل هذه دوائر دولة محترمة أم دوائر أمنية، إنه ولا شك سؤال سخيف في دولة إرهابية كدولتنا، فكيف لي نسيان أن دوائر الدولة ماهي إلا أقسام تابعة لدوائر الأمن، فهي بدلا من أن تبني البلد تقوم بتنفيذ أوامر غير قانونية، ولكن من يقول بعدم قانونية الأوامر، وهل هنالك أصلا قانون في البلد، وحين أفقت من صدمتي نظرت في وجه ضابط الأمن وكدت أن أبصق في وجهه بعد أن وجدت نفسي بدون أمل وفي طريقي للمعتقل، وحين أحس بمقدار الحقد الذي بدا على وجهي وتحفزي لعمل شيء سقط علي معانقا ومقبلا بأنه عبد مأمور وإنما جاءني محذرا وأن الكتاب حوّل إليه من قبل المدير وأراني تهميشه على الكتاب.

في المعتقل كان رجال الشرطة يعرفون ما يفعله الرجل المجنون كل ليلة، فقد أتي قسم منهم ليتفرج عليه من خلال القضبان وهددوه بالتوقف لكنه لم يستمع إليهم، لأنه أصلا لا يشعر بوجود أحد بل لا يشعر حتى بوجود نفسه، بقى الرجال يتمازحون ويضحكون ثم أخيرا تركونا وانصرفوا، في الحادية عشرة جاءت مجموعة أخرى منهم عدّت الموجودين في القاعة دون التأكد من الأسماء والوجوه، فالمكان مجرد حجز مؤقت لا أكثر، ولكن أي حجز مؤقت وقسم من النزلاء محجوز لأكثر من سنتين ولأسباب تافهة ولا يعلمون متى تنتهي فترة حجزهم فهي مفتوحة ومرتبطة بوزير الداخلية، أخبرني أحد النزلاء أنه عسكري وكان في وحدته حين تزوج أخوه، وفي حفلة العرس أطلقت بعض العيارات النارية، وحين جاءت الشرطة لتستعلم عمن أطلق النار أعطاهم المختار اسمه برغم أنه لم يكن موجودا، وبعد أسبوع جاء من وحدته إلى أهله في إجازته الدورية فألقوا عليه القبض، وهو لايزال في السجن منذ ستة شهور لأن حجزه تم بأمر وزير الداخلية، وحتى الآن لم يأمر الوزير المحترم باطلاق سراحه بالرغم من أنهم توسطوا لديه وأخبروه بأنه عسكري وكان في وحدته أثناء إطلاق النار لكن الوزير لم يقتنع وظل مصرا على حجزه، والثاني أخبرني أنه محجوز منذ سنة وسبب حجزه غير معروف فهو يعمل سائقا بين الحلة وكربلاء، داهمتهم الشرطة في الكراج أثناء إحدى الزيارات إلى كربلاء ولم يفرجوا عنه لحد الآن، وهو لا يدري فيما سيفرجون عنه أم لا، بعدها استمع إلى قصص عجيبة غريبة من نزلاء آخرين وحين استمع إلى هذه القصص ورأى أنهم يحتجزون رجلا مجنونا أمامه شعر أنه قد جاء بقدمه للفخ، فتساءل مع نفسه فيما إذا كان قراره صحيحا بتسليم نفسه أم كان خاطئا، وهل كان عليه أن يهرب بأية طريقة إلى خارج العراق ولا يسلم نفسه؟، والآن وبعد أن سلم نفسه من سيأمر بالافراج عنه، حينها شعر بأن رأسه أخذ يدور، تذكر أولاده تذكر ابنه الصغير يوسف الذي لا ينام إلا في حضنه، نزلت دمعة من عينه ولم يستطع مداراتها، كثرة التفكير جعلته يشعر بصداع مؤلم،  حتى بات يحس أنه يحمل شيئا ثقيلا فوق رأسه، ولا يدري كيف نام تلك الليلة المشؤومة.

بعد استلامي لكتاب الحجز من ضابط الأمن كان علي أن أقرر هل سأذهب إلى السجن أم لا، أعدت قراءة الكتاب فوجدت معي أشخاصا آخرين صدر بحقهم أمر الحجز من الوزير، منهم أحد أصدقائ المهندسين ومعه موظفين وسواق وعمالا بسطاءوكان الكتاب موجها إلى فروع الشركة في محافظات العراق المختلفة، فالكتاب وثيقة تدين الدولة ودوائرها، فهذه الدولة مجرمة وهي توزع بلاءها على الجميع وعلى كل من لا يوافقها في استهتارها، فهي لا ترحم الناس ولا تعطيهم ما يكفيهم ليسدوا رمق عوائلهم وتمنعهم من أن يعيلوا أنفسهم، فهي لا تعطي ولا تجعل رحمة الله تنزل علي الناس ، ترى أي ظلم يحيق به وبالناس الأبرياء، كنت أعرف أن يد الدولة طويلة وستصلني طالما كنت موجودا داخل العراق، وأيقنت أن الشرطة ستطرق باب بيتي إن عاجلا أو آجلا بحثا عنه، ولو أحست والدتي أن رجال الشرطة يبحثون عني ستحدث مصيبة في البيت، ولكن ما أريد أن أخفيه عن أمي اليوم ستسمع به غدا أو بعد غد، كان علي أن أهيئَ الأجواء لكي أخبرها وأقلل من أمر حجزي وأقنعها بأن الفترة قصيرة وستنقضي بسرعة، ولكن هل الفترة قصيرة حقا، وماذا لو طالت، علي أن أأخذ في حسباني  أسوأ الاحتمالات، حتى لو طالت إلى شهر أو شهرين وربما أكثرفليس أمامي أيّ خيار، وعندما رجعت إلى البيت أخبرت زوجتي بأمر الحجز وأخبرتها أنني سأنفذ الحجز لكي أتخلص من ملاحقة الشرطة لي، ولربما أستطيع بعد ذلك الهرب خارج العراق لكي أكون في مأمن من الدولة، فدخول السجن سيساعدني في الحصول على جواز سفر و قد أحصل على شهادتي الجامعية لأخرج وأعمل مهندسا في أية دولة عربية.

في صباح اليوم التالي أحسست  بأصوات وصراخ في القاعة، وعندما فتحت عينيّ وجدت النزلاء متجمعين حول القضبان، أخبرني جاري النزيل أن أقوم لأخذ الشاي والفطور قبل نفاذهما، وفعلا قمت وبصعوبة حصلت على كوب الشاي أما الفطور فكان رغيفا أسود وقطعة باذنجان مقلية لكنها محترقة، لم يكن بامكاني أن أأكلهما، ولكني كنت فرحا بكوب الشاي، وتعجبت كيف يتجمع النزلاء على طعام  مثل هذا، ولكن هل كان لديهم خيار آخر، وهل هم في فندق، وهل هناك منظمات إنسانية تبحث عنهم، وثم ما نوع الخبز الذي كان يأكله الناس خارج هذه القضبان، ألم يطحنوا علف الحيوانات ويوزعوه على الناس بحجة الحصار، لكن في ذرة أفكاري أشار إلي أحد رجال الشرطة وحين اقتربت منه أخبرني أنه يستطيع أن يجلب لي سندويج بيض إذا رغبت لقاء مبلغ معين من المال، وافقت على ذلك فحصلت على سندويج البيض، وكأنني حصلت على شيء ثمين، وهي لا تعدو عن كونها صمونة وفي وسطها نصف بيضة مسلوقة، وحين استلمت السندويجة اقترب مني أحد النزلاء فأسر في أذني:- أنك ستتعود على هذا الطعام ولا داعي لصرف نقودك في أشياء غير مهمة، ضحكت في سري متسائلا وهل هنالك أهم من الطعام، كنت أريد أن أذهب للتواليت لكي أغسل وجههي فعيناي متورمتان من فعاليات ليلة أمس وكوابيسها، ولأقضيَ حاجتي لكنني وجدت ذلك عسيرا فالنزلاء يتدافعون حول التواليت، تواليت واحد لمائتي نزيل، ومائتا قصر لرجل واحد أية عدالة هذه، تناولت فطوري وشربت الشاي، ثم جاء أحد الحراس وأمرنا بتنظيف القاعة وطوي مناماتنا، كنت أريد أن أتغوط وأفرغ ما في كليتي من البول فهما تكادان أن تنفجرا، وكلما كنت اقترب من التواليت أجدها مشغولة، مرت عدة ساعات حتى وصل إلي الدور، وحينما قرفصت في التواليت بعد أن رفعت ملابسي وبدأت بالتبول، فجأة جاء الرجل المجنون وجلس القرفصاء أمامي قرب مدخل التواليت، فبهتُّ من الموقف فقمت واقفا بعد أن  شعرت أن حالبي قد انسدّ ولم أستطع التبول أو التغوط ، أشرت إلى الرجل راجيا إياه كي يبتعد عن المدخل، لكنه رفض أن يقوم من مكانه، لم أجرب سابقا أن أقضي حاجتي كاشفا عن مؤخرتي وخصيتي أمام أي شخص، ولكن هنا كل شيء مختلف ولا مجال للخجل، كما أن الرجل مجنون فلم الخجل، كما أنني لو تركت المرافق ولم أفرغ حاجتي فلربما سأحتاج إلى ساعات أخرى كي يصلني الدور، فالوقت ضيق جدا والكثير من النزلاء ينتظرون في الدور، وأخيرا قررت التقرفص علني أستطيع قضاء حاجتي، أخيرا استطاعت التبول أمام الرجل المجنون لكني لم أستطع التغوط فقد أنسدت بطني وكأن حجرا سد مؤخرتي، فقمت على أمل أن أرجع مرة ثانية وأنا ألعن الوزير وضابط الأمن والشرطة، وتركت التواليت وأنا أشتم في سري قائلا:- أولاد القحبة ألا يمكنكم وضع ستارة لكي يقضي الناس حاجتهم بقليل من الخصوصية، ولكن هل تعتقد أن هؤلاء الشرطة يشعرون أنك بشر مثلهم ، لا أعتقد ذلك... لا أعتقد ذلك، فنحن لسنا بشرا بالمرة إننا كلاب بنظرهم.

كان المفوض صباح السماك جيراننا في محلتي جبران أيام طفولتي في بيتنا القديم، ولحسن حظي كان يعمل في إدارية المخفر ذاته الذي سأحتجز فيه، فطمأنني بألا أقلق فسيوصي علي الضابط وبقية زملائه في المخفر، وهذا ما خفف عني شيئا مما سأعانيه لاحقا، وعندما جاء أخي ميثم أخبرني أن المقدم الذي سيحولني للمخفر من معارفه أيضا، فعلينا أن نمر عليه في المقر الرئيسي في منطقة القاضية أولا، أخذت معي مناما ومخدة وبطانية وبعض الملابس الداخلية، ثم ذهبنا إلى حي القاضية ودخلنا غرفة مقدم الشرطة، وعرفت من المقدم أن كتاب حجزي قد وصل إليهم منذ فترة، بعدها أجرى المقدم عدة اتصالات عن طريق التلفون الأرضي، وسمعته يقول لمحادثه على الجهة الأخرى، نعم هذا هو في غرفتي وقد سلم نفسه ولا داعي لمداهمة البيت، وهنا تبادلت النظر مع أخي ولسان حالنا يقول حسنا جئنا مبكرين وإلا حدث ما لا يحمد عقباه، كان المقدم صديق أخي وأخبرنا أن الحجز لن يستمر طويلا وخصوصا أنني قد سلمت نفسي للسلطات، ثم حرر المقدم كتابا وأعطاه لنا كي نسلمه إلى مركز الشرطة، كما أنه لم يرسل معنا معتمدا  لكي يسلمنا للمركز لأني قد جئت طواعية للمركز وسلمت نفسي للعدالة ويا لها من عدالة، وكان يفترض أن يرسلني مخفورا للمركز، ولما وصنا المخفر وجدته مليئا بالمراجعين ويغص بالناس، وحين نظرت إلى أعلى المركز شاهدت العلم العراقي مرفرفا، وشاهد غرابين عجوزين يقبعان أسفل السارية ، كانت رؤية الغراب نذير شؤم بالنسبة إلي، ولكن ألا يكفي غراب واحد، وهل أنا بحاجة إلى غرابين، تركت التفكير ودخلت إلى المخفر بصحبة أخي، بعد أن أخبرنا الحرس فيالبوابة أننا جئنا إلى المفوض صباح، فدلناا على غرفته وكانت قريبة من قاعة الحجز، لاحظت المحجوزين في القاعة من خلال القضبان، وهنا أيقنت أنني فعلا سأدخل السجن فهذا هو مكان احتجازي ولا مجال إلى التراجع فانقبضت نفسي، سلمت الكتاب للمفوض صباح وعرفت أنه مدير الإدارية في المركز وموقعه مهم، فرحت في داخلي فأنا على الأقل لدي شخص في المركز يضمن عدم الإساءة إلي طيلة فترة الحجز، وعندما تمت إجراءات تسليمي للمركز اقتادوني مثل لص إلى القاعة مع حاجياتي، وعند باب القاعة قام الحرس بتفتيشي وتفتيش أغراضي، لكنه  رفض أن يدخل المخدة مع الحاجيات لأن ذلك ممنوع، فتعجبت من ذلك متسائلا ما خطورة المخدة، لكن المفوض صباح أمرهم أن يدخلوها معي وأخبرهم  ألا خطورة مني، فسمحوا لي بادخالها مع بقية الحاجيات، وأوصى الحرس بي خيرا، فشكرته على ذلك وودعت أخي عند باب القاعة ودخلت القاعة حاملا حاجياتي على ظهري كأي مجرم خطير، كان المساجين يتفرسون في وجهي، ويودون معرفة من أكون أنا، كانت الغصة تملأ حنجرتي، وشفتاي يابستان، دخل معي أحد الحراس وأشار لبعض النزلاء أن يوسعوا إلي قليلا لأضع حاجياتي، فوضعتها بينهم، وحين التفت إلى القضبان وجدت أخي ينظر إلي من خلالها وهو يداري دمعة سقطت من عينه ثم  لوح إلي بيده مبتعدا وكأنه لا يريد أن يراني حقيقة في السجن وأنا لم أفعل شيئا أستحق السجن عليه.

في الليلة الثانية وبعد أن أنهى الرجل المجنون فعالياته في الركض والصراخ، كانت فعاليات  مهرجان بابل تأتينا همسا وبصوت ضعيف ولكن الصوت كان يشتد أحيانا وتزداد قوته كلما يتقدم الليل، وقد بدا واضحا أن نزلاء السجن قد تعودوا على فعاليات الرجل المجنون وصارت بالنسبة إليهم حالة طبيعية، حتى أني كنت أستغرب أن أجد الكثير من النزلاء يغطون بنوم عميق بينما هذا الرجل يطلق الأصوات ويركض كالحصان في الممر الذي يفصل السجناء عن بعضهم البعض، وكنت أدعو الله من كل قلبي أن يساعدني كي أتعود مثلهم وأنام دون أن أشعر بما يفعله الرجل المجنون، ولكن هل يمكن أن يحصل ذلك في الأيام التالية، على أية حال علي أن أعاني وأوطن نفسي على ما أنا فيه حاليا، لأني لا أدري ما الذي سيحصل لاحقا وخصوصا أني مازلت جديدا، وفجأة وبعد ان خَفَتَ صوت الموسيقى القادمة من المسرح البابلي بعد الواحدة ليلا جلب الشرطة إلى المركز امرأة شابة مع رضيعها ورجل لم نتبين ملامحه، وسرعان ما فُتح باب القاعة وأُدْخل الرجل وفي يديه الكلبجات من قبل رجلين من رجال الشرطة، تقرفص الرجل عند الزاوية القريبة من الباب من جهة الجدار ذي القضبان، كان خائفا وشعره منفوش وملابسه ممزقة، كان عمره بين الثامنة والعشرين إلى الثلاثين عاما أو هكذا خمنت، كان لا ينظر في وجوهنا بل كان مركزا نظره على أرضية المعتقل، لا حظت أنهم أدخلوا المرأة مع رضيعها في غرفة مجاورة لقاعة الحجز ولم نرها بعد ذلك، لم نستطع أن نعرف لم جلبوا هذا الرجل مع المرأة وفي هذا الوقت من الليل وما هي جريمتهم، ولم نستطع معرفة العلاقة التي تربط بين الرجل والمرأة، كما أن الحرس حذرونا من الاقتراب من الرجل، بقيت أراقب الرجل من فراشي، كان شابا أبيض البشرة، شكله وسيم، شعره أسود، لحيته حليقة، لكنه كان مرتعبا وخائفا وينظر نظرة ريبة إلى كل من يمر قربه، كانت هنالك خدوشا في يديه وعلى وجهه وبقع دماء على ثيابه، لم يكن صعبا علي أن أخمن أن هذا الرجل مريض وغير سالم، حتى أني توقعت أنه  مصاب بالشيزوفرينيا، فحركاته وطبيعته تشي بذلك، ورغم أني لست طبيبا نفسيا، لكني توقعت أن هذا الرجل مصاب بمرض نفسي، وإذا صح توقعي وظهر أنه كان مصابا بانهيار عصبي حاد فلابد أن حالته ستتدهور جدا إذا بقي بالسجن وستنتظره وتنتظرنا معه أيام عصيبة تسبب بها جهل هؤلاء الشرطة ورعونتهم، فهذا السجن يصيب بالجنون أعقل العقلاء، فماذا يحدث لو جلبوا رجلا لديه انهيار عصبي، حتى لقد خمنت أنني إذا بقيت أكثر من عدة أيام فأنا متجه للجنون لا محالة، والآن لدينا في السجن شخصان مريضان بالجنون، ولا شك أن القاعة ستشهد فعاليات جميلة في الأيام اللاحقة، لكني بيني وبين نفسي خفت بشدة على ما ينتظر هذا الرجل في قاعة العرض أقصد قاعة الحجز، لا شك أن الدولة تأبى إلا أن يشارك الجميع في مهرجان بابل.

في ظهيرة اليوم الثالث نادى علي أحد الحراس من خلف القضبان، فقمت إليه مستفسرا،  فسلمني سفرطاس وقال هذا جلبه لك أهلك،  كانت فرحتي شديدة فقد قتلني الجوع، وعندما فتحت القدر الأول وجدت فيه رزا، وفي الثاني وجدت تشريب دجاج ولكن بدون وجود للدجاج، فاستغربت كيف يرسل لي أهلي التشريب بدون دجاج، وسلموني أيضا كيسا من البلاستك  كان فيه بعض الفاكهة والخضار، وحين أردت الأكل ناداني الحرس مرة ثانية، فقال لي أعذرنا أخي فقد أخذنا جزءا من غدائك، فعرفت حينها أنهم أخذوا الدجاج وتركوا لي القليل من التشريب والرز، على أية حال كان طعام البيت في تلك الظروف رحمة كبيرة، دعيت بعض النزلاء ليأكلوا معي  ورغم قلة الأكل لكني أحسست أني قد شبعت حقا وكذلك شاهدت الفرحة في وجوه من شاركوني الطعام من النزلاء، في إحدى العصريات جاءت والدتي مع أبني الصغيرلكي يرونني، وحين لمتهم على جلب الصغير إلى السجن، أخبرتني الوالدة  أنه لم يتوقف عن البكاء لحظة واحدة وظل يبكي منذ غيابي عن البيت، ولم يسكت إلا حين أخبرته أنني سآخذه إليك، كانت لحظات كئيبة وأنا أرى ولدي الصغير وبصعوبة استطعت تقبيله من وراء القضبان، وعندما ودعتني والدتي وهي بصعوبة تكاد تقف على قدميها كان الوداع أشد وطأة علي من اللقاء، وظل يوسف ماسكا بي من خلف القضبان وبصعوبة أقنعته كي يذهب مع جدته، أخبرتني والدتي أنهم يوميا يرسلون إلي الطعام، فأخبرتها ألا ضرورة من إرساله فالحراس يسرقونه، مما جعلها  تقوم بإخبار صباح السماك عن سرقة الطعام من قبل الحرس، فهم في بعض الأيام يأخذون الطعام كله ولا يسلمون لي منه شيئا، وفي يوم ثان يأكلون معظمه ويسلموني لي القليل، ولكن في اليومين الأخيرين انتظم وصول الطعام إليّ ولم يسرقه الحرس، حيث يبدو أن صباح قد وبخهم على سرقتهم طعامي.

عرفنا في اليوم التالي أن الرجل الذي جلبوه ليلا كان مريضا حقا وأن المرأة التي كانت معه هي زوجته والرضيعة كانت ابنتهما، ولأن الرجل مريض فهي كانت قد جلبته للنجف لكي يزور مرقد الإمام علي، إيمانا منها بأن المراقد الشريفة ستشفيه بعد أن يأست من العرافين والعرافات، وأثناء رجوعهما من النجف بقيا في الكراج الموحد  لعدم وجود سيارات تأخذهما إلى بغداد ومنها إلى العزيزية حيث يسكنان، كانت المرأة شابة وجميلة، وكانت جالسة وزوجها نائم قربها على أرضية الكراج ورأسه في حضنها، فهو مريض، ولأن المنظر غير طبيعي بالنسبة للشرطة فهم اعتقدوا أن المرأة عاهرة وهذا الرجل عشيقها وبكل بساطة، وحين اقتربوا منهما، ولأن الرجل مريض ولا يعي ما يفعل فقد شهر عليهم مسدسا بلاستيكيا كانت قد اشترته المرأة كلعبة من ضمن عدة ألعاب وهدايا لأبناء أخوانها وأخواتها، وعندما شاهد رجال الشرطة ماذا فعل الرجل انهالوا عليه ضربا دون التأكد من مرضه ومن حقيقة المسدس لأن الكراج كان مظلما والكهرباء مقطوعة، ثم جلبوا العائلة للمركزبعد ذلك، في الصباح التالي عندما عرفوا الحقيقة أطلقوا سراح المرأة ورضيعتها وأبقوا الرجل المجنون في السجن بحجة أنه اعتدى على الشرطة أثناء الواجب، بالطبع هذا الكلام أخبرنا به في لحظة من لحظات صحوته، ولكن رغم خطأهم فيما فعلوه إلا أنهم وجدوا صعوبة في الاعتراف بخطئهم وظلوا مصرين على غيهم، وخصوصا عندما ظنوا خطأ أن الرجل المريض كان يضحك منهم ويستهزئ بهم حين شهر عليهم مسدسه البلاستيكي.

بعد عدة أيام من الحجز كانت لحيتي قد طالت وأخذت ملامح وجهي تتغير ووجدتني شيئا فشيئا أفقد الأمل، كانت الأيام تمر بطيئة وكل يوم يمر علي كأنه سنة، لم أكن أعرف حقا فيما إذا كانوا سيطلقون سراحي أم لا، هل حقا سأبقى أسبوع كما قال لي الضابط ويطلقون سراحي، كان النزلاء يتحدثون معي عن عدة أشهر أو أكثر، في أحدى المرات كنت واقفا قرب القضبان أراقب دخول وخروج الناس، كنت آمل أن تحدث معجزة فيطلقون سراحي، وكنت أحسد كل شخص أراه يتمشى في الخارج، وكنت أتساءل هل حقا سأكون طليقا مثلهم ، ولكن متى ؟ حتى أنني لم أكن لأصدق أنني سأنال حريتي، يبدو أن أيام المعتقل أخذت تفعل فعلها، وبدأت أفقد ثقتي بنفسي وبقدرتي على التحمل فأنا لم أنم منذ عدة أيام، فما يفعله الرجلان المجنونان كل ليلة يجعلنا سهرانين معهما حتى ساعات متأخرة من الليل، كان سوء حظي وحظ  رجل الشيزوفرينيا أن يأتي في فترة اعتقالي ذاتها فطيلة وجوده لم أنم إلا قليلا، حتى بات الصداع يلازمني ليل نهار، كما أن التوتر النفسي بدأ يزداد عندي، أما دخول التواليت فلم أقض حاجتي مرتاحا طيلة فترة إعتقالي، وفعلا أحسست أن هنالك بعض الأشياء لها أهمية خاصة في حياة الإنسان لا يعرف قيمتها إلا داخل المعتقل، ومنها دخول التواليت والاستحمام، في أحد الأيام زارني أحد الأصدقاء إلى السجن وكان يعمل مهندسا معي لكنه استقال بعد حرب الكويت مباشرة ووافقوا على استقالته، ولم يزرني أحد غيره لأنني أصلا لم أخبر أحدا وكتمته عن أصدقائي كافة، لكن هذا الصديق كان جاري ويبدو أن زوجته أخبرته فهي صديقة زوجتي، ورغم أنني شعرت بالأسى لأنه رآني في السجن، لكني بعد توديعه عرفت أن لدي شاهدا من غير أهلي قد رآني في السجن وكان عزاء منيت به نفسي لا أكثر، الطريف أن في المركز لاحظت وجود شرطي يحمل كاميرا، وكان عمله أخذ صورا للمساجين أو المعتقلين الجدد مقابل مبلغ معين، ويبدو سعيدا بمهنته وفرح بوجود هذا العدد من المعتقلين، فهو يتعامل مع المعتقلين بالرؤوس وكأنهم غنما، وحين سألته عن عمله فيما إذا كان مربحا أو لا، فأخبرني أن عشرات الرؤوس تدخل وتخرج يوميا من القاعة، وهذا ما يجعل عمله حيويا ومربحا، وحين أراد أن يأخذ لي صورة  لم أوافق، وأخبرته أن وجودي في المعتقل لفترة قصيرة وليس هنالك قضية علي، فضحك مني وقال لي إن الذي يدخل في هذه القاعة لا يخرج إلا بمعجزة، مما زاد في غيضي وعنادي ورفضت أن يصورني، أما الآن فأنا نادم لأني منعته من تصويري، فالصورة تلك لو التقطها لكانت شهادة وذكرى لا تقدر بثمن بالنسبة لي ، يا إلهي كم كنت غبيا وعنيدا في تلك اللحظة، كم كنت سأكون سعيدا لو كانت لدي مثل هذه الصورة.

أخذت  الحالة النفسية لرجل الشيزوفرينيا تسوء، لذا ففي لحظات اشتداد المرض وكما توقعت يبدأ بشتم الشرطة والحرس والضباط وآمر المركز، ولأن الشرطة لا يفهمون مرض الرجل فهم يدخلون القاعة وينهالون عليه ضربا مبّرحا حتى يفقد الوعي، فأقوم أنا مع بعض النزلاء بعد خروج الحرس نمسح جروحه ومداواته، ونعمل على أن يفيق من غيبوبته، وحين يفيق نسقيه الماء ونعطيه شيئا من الطعام لكي يسترد عافيته، لكنه حينما يصحو يقوم فيأتي لينام قربي في فراشي ويقبلني وهو يبكي، أما أنا فلا أملك إلا أن أبكي معه، كنت بحاجة لمن يواسيني ، لكني وجدت نفسي أقوم بمواساة الآخرين، حتى أني وصلت إلى حقيقة أن الله أراد لي أن أدخل الحجز من أجل الاعتناء بهذا الرجل، فشكرت الله على ذلك وكان ذلك أبهى أنواع المواساة بالنسبة لي، فلم أبخل على الرجل بأي شيء ، ففي لحظات هجوم الحالة المرضية عليه يفقد زمام الأمور، وكنت أتوقع أنه في لحظة من لحظات جنونه قد يشتم أشخاصا أكبر من آمر المركز فقد يشتم الوزير وربما الرئيس، وإذا وصل في شتائمه إلى ذلك الرجل ستحل للعنة عليه وعلينا، وفعلا في إحدى الليالي هاج وتسلسل في شتائمه رويدا رويدا حتى وصل إلى شتم الوزير ومن ثم بدأ يشتم الرئيس وبالإسم وبصوت عال، وعندما سمع الحرس شتائمه فتحوا الباب بسرعة ودخلوا علينا مذعورين، ربطوا يديه إلى القضبان وهي مرفوعة من على رأسه ووجهه مقابل لنا، لقد استولى علينا الخوف ثم جلبوا جهاز شحن كهربائي وبدأوا بتعذيبه عن طريق تفريغ الشحنات الكهربائية في جسمه، كان لا يكف عن شتم الرئيس وهم ينهالون عليه ضربا بالقابلوات، كان صراخه عاليا نتيجة الألم الشديد بسبب التعذيب، كانت تراجيديا مريعة ونحن نستمع إلى صراخه ممتزجا بالموسيقى المنبعثة من آثار بابل، كانت أمواج الموسيقى من المسرح البابلي تأتي عنيفة وصوت الجمهور يصك الآذان لا أدري لم الصوت كان واضحا حينها، الرجل المريض كان شجاعا كنا ننظر إليه يتعذب، كان الحرس يضربونه بشدة، لقد غامت الرؤية من كثر الدمع الذي ملأ عيوني، فلم أعد أرى جندرمة بل كانت أرى عازفين بوجوه صفراء وملابس خضراء، كانت الصور تتقافز أمامي فتارة أراهم يقرعون الطبول، وتارة يفرغون الشحنات الكهربائية بالجسد المدمى، كان الرجل ينظر إليّ لكني كنت عبدا ولم أستطع حمايته،  ولم أستطع أن أحرك ساكنا لأجله، كنت أرى استعطافا في عينيه كي أقوم وأكلمهم كي يتوقفوا، وأخيرا قمت، كان صوت الموسيقى هائلا والجمهور يصطخب، والعرض مثير و لكن  حين قمت لأكلم الحرس، رأيت شبح ابتسامة على وجهه، أحسست بسقوط شيء ثقيل على أم رأسي، وشعرت أنني طائر على أجنحة القيثارات، كان الفرات يمور تحتي، وكانت بوابة بابل تنزف دما، والطريق موحشة ومكفهرة، كنت أمسك في يدي مفتاحا وأمامي باب، باب كبيرة، فتحتُ الباب وأنا أركض في ظلمة تلفني من كل جانب وعندما رفعت رأسي للسماء كانت هنالك نجمة مضيئة تشير إلي بإصبعها وطفقت أركض وأقدامي متهرئة وكأن شيئا يركض خلفي، أجساد خضراء بوجوه مرعبة تحمل الطبول، الموسيقى لا تزال صاخبة، الحرس كانوا مثل ذئاب مسعورة تركض ورائي، كان رجل الشيزوفرينيا نظيفا ومبتسما ويحمل رضيعته في يده، أما الرجل المجنون فكان يسابقني وكانت أصواته حادة وعنيفة، كان يصهل مثل الحصان ويثير الغبار حولي وحوله، كنت أبصر نساء متلفعات بالسواد يتحركن في مقاعد المسرح البابلي، وهن يحملن الشموع، أما ألسنة الموسيقى فكانت مثل نار تخرج من قاعة المسرح ، كان الجمهور جذلا أم أنا فقد كانت الريح تسابقني وكان الترات يتسرب إلى أنفي وكانت يداي محطمتين وقدماي تخطوان بخطوات واسعة لكني لا أعرف إلى أين كنت أسير.

أبو ظبي

‏الإثنين‏، 21‏ أيار‏، 2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2127 الأثنين  21 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم