نصوص أدبية

آخر نظرة / محمد تقي جون

..  (التقيتها، يا طالما كنتُ انتظرها على الوسادة كي تمرّ في حلم عابر لثوانٍ أو أقل في عمر الأحلام أو الأيام، وكنت استصرخ الذاكرة أن تموِّل الحلم منها، واستعطف الخيال ان يوصلني بها في شروده الجنوني وتواريه الخافت.. ولكن بلا جدوى سوى انتظار أبله.. وتسلم عيناي للكرى)..(وكنت اذا استعصى الحلم ليلاً أحلم بها نهاراً بوعي تام أو بانفصال عن الوعي تام.. وكنت فضلا عن النوم والوهم ابحث عنها في الواقع، فأبوس بعيني الطرقات وأجوس بروحي الاماكن التي مرت بها او قد تمرُّ بها كطفل مذعور فقد أمه، فلا أحصل الا على المزيد من الذعر والهلع والدموع فأعود إلى الكرى والذكرى.. وشيئاً فشيئاً كرهت الواقع وكل شيء واقعي يخبرني بفقدها النهائي وينصحني باليأس منها).

إنها لا تستحق منه مجرد التفكير فهي أتفه من رمش بعوضة.. لقد أحرجت قلبه في قاعة جسده وتعالت كل أصوات أعضائه بطردها، وراح العقل يكيل لها وله الاتهامات بسببها ويذكر أخطاءه  وأخطاءها واحدا واحداً فأفقد حبه الشرعية، وحكمت المحكمة بأن تقوم الذاكرة بطردها، إلا أن القلب لم يستطع الإذعان فقد أصبحت جزءاً منه ربما بطيناً أو أذيناً ثالثاً، أو عضلة أخرى أو شرياناً ابهر إضافياً.. فدافع عنها وتشبث بها، ولكن ظل صوته يخفت تدريجياً في ممرات الزمان المتعرجة حيث تركته وحده مع الذكرى بلا أسف أو أدنى إغاثة وبلا ندم أو أدنى مراجعة، فظلت تتضاءل وتُنسى ملامحها وهل تستطيع العين أن تحتفظ بملصق صورتها كل هذا الزمن؟ لقد تحفرت في عينيه إلا ظلالاً، وفي أرشيف الروح بقي منها خيالات غير دقيقة، وبعيدة، وبلا تفاصيل اذا ضغط القلب عليها تفلتت فلا يرى سوى أشباح متطايرة.. وصرخ بلا انتباه على ما حوله ولماذا يذكرها....

(لماذا اذكرها!!! كلا أنا لا أحبها بل أحب حبها الذي جمعني وإياها ذات يوم وهو غيرها حتماً.. ولكنها تفاجئني وتقتحم علي خلواتي وانشغالاتي وحدي وبين الناس احياناً، وهي ليست هي بل الحب يتمثل بها لأنه روح وهي جسد والروح غير مرئي فيلبس صورتها الممسوحة التي ما تبين إلا لمحاً، فيا لأسفي عليه لو وجد سواها لظهر به فهي اقل شيء يتمثل به .. إني أحب الحب وابغضها، انه زكي وهي نتنة، وهو قديس وهي عاهرة).

وفي وقت التعطش الصحراوي لرؤيتها.. لالتقاط صورة واضحة لها، حين لا يسعف الواقع ولا يسمح العقل ولا يتمكن القلب ولا يكفي الروح.... ظهرت!!! إنها أمامه وقبالته وبين يديه، جاءت نادمة آسفة تخطب رضاه وتتذلل لأمسه وتستشفع الغد لديه وتعده بأن لا تجرحه مجدداً وتقبِّل جراحه وتلعق دمها كالكلبة لتشفيها.. هي أمامه نهر سلسبيل متدفق عذب بارد يمسح على عطشه برذاذ مبتسم ويهجم على يبَسِه برشقات ثرة فتعانقه من رأسه إلى أخمص قدميه وتدغدغ وتغرق بسيولها قدميه فيصعد نسغ إلى صميم قلبه المدهوش.. ليس عليه سوى أن يفتح عينيه وكفى...  بقيت رمشة عين واحدة ويتحقق حلم طالت حبلت به السنين ولم تلد، وطالما شهقت جراءه الروح ولم تمت فبقيت معلقة معذبة بين الموت والحياة..أما يفتح عينيه أو إحدى عينيه فيطفأ غليل وتنام روح ويستيقظ حب نام منذ تلك السنين أو فقد الوعي طوالها؟؟؟

(لقد حلمتُ بها وكانت أغلى أمانيَّ كلها، ولكنها اختارت غيري وانتهى كل شيء. وفي الزمن الذي قضته هادئة هانئة كنت أتعذب في جهنمها وفي جهنمات كثيرة أخرى نفسية وحياتية، حتى أتت النار عليها فأحرقتها وشوهت معالمها: ابتسامتها الجذابة، عيونها الأسرة، تفاصيلها اللذيذة، فأصبحت قبراً متهدماً ونتناً خانقاً.. إلا حبها، بقي عالمي الذي أعيش فيه بسعادة وآلفه واعتاده وأتنقل بين رياضه وخمائله وجداوله بخفة وأتغذى على سحره وجماله ولا أريد أن أفارقه أو أفيق منه إلى أبد الحياة).

إنها أمامه لا يدري ماذا يفعل هل يفتح عينيه فيراها فيصافح روحه ملامحها فيتصالحا، أو يظل معانداً لا يربط الماضي الكافر بالحاضر المنيب..

(القضية أكبر من هذا وهذا، إني أخاف أن يحترق الحب الذي احتفظت به وغدا عالمي اذا أنا نظرتُ بوجهها.. بوجه قاتله، وقد سرقته من بين النيران التي أضرمتها هي عليه، وقد تأكدتُ بأنها لم تعد هي؛ فلن أراها اذا نظرت في وجهها بل سأرى وجها وشخصاً آخر. وأية لذة في لحظات ستمر دون جدوى أو فائدة ولا يمسكها فعل بعدها.. إنها ستكون كالنظرة المحرمة تزول وتبقى تبعتها يُعاقب عليها. فلماذا لا أتخطاها لاحتفظ بنقاء الحب وشرفه وأبقي على قدسية ذلك الحلم وبراءة تلك اللحظات الحقيقية.. نعم لن انظر إليها لكي لا يحترق ما تبقى)

أما هي فكانت تنظر إليه وتريد أن تحسسه بأنها تنظر إليه، بل تصرخ بنظراتها صراخاً مستصرخاً.. ونادته نادته صامتة حتى تراجع صوتها وأيقنت بأنه غير آبه أبداً. فأدارا وجهيهما، كلاً عن الأخر.. ومرَّا.

في نصوص اليوم