نصوص أدبية

الدولفين / مسلم السرداح

بعد أن انسحب الجيش العراقي من الكويت، بدأت انتفاضة عارمة، شملت كل العراق ابتدأت من محافظة البصرة، شاهدت بدايتها بام عيني لقرب مسكني من المكان . تصاعدت اولا هتافات بسقوط رأس النظام، لتعقبها بعد ذلك قذيفة ثقيلة سددها جندي باسل من دبابته، لتطيح بصورة كبيرة جدا لرأس النظام تقع عند بوابة تربية البصرة، لينتقل الهاتفون بسقوط رأس النظام بسيارات البيك اب والصالون باتجاهات مختلفة . وعلى اثر ذلك أصبحت المحافظة خالية من فلول النظام البعثي الذين استبدلوا أسلحتهم وعتادهم وملابسهم العسكرية وبساطيلهم بدشاديش ونعالات اعطاها بعض الاهالي لهم ليهربوا بها بعيدا الى محافظاتهم متخلصين من ملاحقة الثوار لهم .

كانت دبابات النظام الناجية من الحرب، قد تم صفها برتلين طويلين الاول على طول شارع بغداد ابتداء من ساحة سعد بن ابي وقاص ولغاية الكَرمة بالاتجاه الشمالي الجنوبي، والثاني من ساحة سعد لغاية العشار من جهة ثانية بالخط الشرقي الغربي . وكان بامكان الثوار حرقها لو ارادوا ذلك ولكنهم اعتبروا ان النظام قد سقط وانتهى كل شيء ولا ضرورة لتدمير هذه الدبابات فهي ملك دولة الثوار التي ستخلف النظام الساقط .

في تلك الإثناء كان هناك من يتفاوض نيابة عن رأس النظام مع الولايات المتحدة في خيمة سفوان لتوقيع فقرات طويلة عريضة من القرارات التي أذلت العراق وحفظت النظام ورأسه من السقوط بيد الشعب . وهي قرارات لازال العراق يئن تحت وطأتها ويعاني من آلامها، وسيبقى لزمن طويل . وهي تشبه بمرارتها مادة السيانيد القاتل البطيء التي يزرقها رجال التعذيب للمعتقلين، حيث يظل تأثيرها القاتل يسري زمنا طويلا في أجساد المرضى، قبل موتهم .

على اثر ذلك فان الولايات المتحدة - وهي الدولة العاهرة التي كانت وعدت الناس قبل ذلك بان معركة الخليج تلك لن تنتهي الا بإسقاط رأس النظام - قد سمحت لمروحيات النظام ابتداء من خيمة سفوان تلك بتعقب الثوار. واستمر الحال هكذا مصحوبا باساليب النظام الماكرة من تكريم للجنود والضباط وغزل وتخويف للعشائر، حتى عادت السلطة ثانية لتحكم البصرة . ولقد جاء النظام بقوات موالية - حد العشق - من محافظات سماها بالبيضاء لتسحق قضاء شط العرب، حيث ستدور القصة .

هرب اهالي القضاء الى ايران وبقيت المنطقة خالية الا من بعض من انقطعت بهم السبل او من القلة ممن اراد البقاء طواعية هناك . وكان بين الباقين، اخ شقيق لي، يصغرني عمرا مع زوجته وطفلتيهما .

تبدا القصة بعبوري النهر للاطمئنان عليه وعلى عائلته .

رايت قبلا نارا لاقرار لها، وانا وسطها اتلوى ولا طريق لي الا السماء، حين حط طائر ضخم . ابتسم لي وسلم علي ّ، ليحظنني بمخلبيه، ويطير بي، ويحط بعيدا الى حيث عالم لانفاق فيه، عالم فيه لي امّ واهل واصدقاء .

 

حين وصلت الى تلك الضفة من جهة بساتين منطقة نهر حسن، شاهدت شيئا عجيبا وهو ان عشرات الجثث لم تدفن بعد او انها دفنت في سطر طويل، من حفر غير عميقة، ملاصقة للنهر على امل ان يعود الناس لدفنها بشكل رسمي يليق بالانسان . لكن الكلاب استحوذت على الامانات البائسة قبل ان يعود احد . ورايت ظاهرة غريبة وهي ان تلك الكلاب التي اعتادت اكل لحوم البشر صارت تتجرا على الناس الاحياء، ولا تميز بين ما هو حي وما هو ميت . بل انها تهاجم من يجبن امامها بشراسة، ما لم يحمل بيده عصا غليضة للدفاع عن نفسه واقفا بمواجهتها . تلك الكلاب التي كان يكفيها، قبل اندلاع هذه الماساة، حجرصغير، يمسكه المار بيده ويلوح به باتجاهها .

بعد قليل اعتقلني ضابط برتبة ملازم ثان مع مجموعة من الجنود كانوا يحملون اشياء سرقوها من بيوت الناس وهي في جلها اجهزة الكترونية كانت اثمن ما يمكن سرقته، وقتذاك . رايتهم بعيني حين امرهم الضابط باعتقالي .

كان الضابط كبيرا في العمر قياسا للرتبة التي يحملها . اذ كان عمره يؤهله لرتبة نقيب على اقل تقدير ما يدل على انه من النوع " المسلكي " أي انه جندي يعطى رتبة ضابط كتكريم، يعلم الله ماذا فعل هذا الجندي بالناس وبالجنود قبل ان يعطى تلك الرتبة !! .

سالني الضابط :

-            ماذا جئت لتعمل هنا ؟.

-            جئت لزيارة عائلة أخي للاطمئنان عليه .

-            وأين بيت أخيك ؟ سألني بحدة .

-            هناك في البستان الذي رايتني قريبا منه .

-            اذهبوا واجلبوا اخيه . امر ثلاثة من الجنود .

ذهب الجنود واحضروا اخي وتركوا زوجته وطفلتيه .

-            ماذا كنتما تفعلان مع تلك العاهرة ؟

-            احترم نفسك انها زوجة اخي . قلت له .

-            اسكت والا ربطت عينيك وذهبت بك الى الفرقة .

-            اذهب بي الى الفرقة ولا تتفوه بمزيد من هذا الكلام السخيف . قلت له .

أراد تكبيلنا وربط عيوننا . لكنه عدل عن الفكرة أمام شراستي . عندما قلت له :

-            انا مدرس وهذه هويتي . فبأي حق تعتقلني ؟

-            نحن لدينا قانون طوارئ وقد وجدناك متلبسا .

-            متلبسا بماذا ؟ قل لي .

-            جاء معلم رفيق حزبي، ليخبرني انك غوغائي .

صحيح اننا اثناء عبورنا في الزورق كان هناك معنا معلم رفيق حزبي، اعرفه معرفة بسيطة، وقد سلّم علي وسلّمت عليه . ولم يكن بيننا أي شيء . وهو لا يعرف شيئا عن ميول مضادة للنظام عندي .

هذه المسالة بقيت محيرة لي وللان، ولم اصدقها لان التفسير الاول هو الذي بقي راسخا في ذهني وهو ان الضابط كان متلبسا هو وجنوده بالسرقة حين كنت رايته .

-            اطلقنا وسنذهب من هنا ونعود من حيث اتينا . قلت له .

-            كلا بل ساذهب بكم الى مقر السرية ومن هناك الى الفرقة . كان مصرا بشكل غريب .

أخذونا الى السرية التي كان مقرها في المكتبة العامة . كان هناك ضابط برتبة مقدم ومعه مجموعة من الجنود . سلمَنا له الضابط مع هويتي ودفتر الخدمة العسكرية لاخي المتسرح الخريج . وقال للمقدم كمن يأمره وهو الملازم :

-            سيدي يجب ان تذهب بهؤلاء الغوغاء الى الفرقة . قال ذلك ومضى عائدا .

-     وماذا كنتم تفعلون ؟ لتستحقوا عقوبة الإعدام ؟ سألني المقدم وبلهجة متواضعة . فأجبته شارحا له كل ماجرى لنا . ولم أتكلم عن السرقة بالطبع لانها لا تعني أي شيء أمام الانتهاكات الكثيرة الأخرى التي يمارسها بعض افراد الجيش في شط العرب وكانه منطقة محتلة، غير عراقية . ثم قلت له كمن يسال وقد فاجأته الجملة :

-     لم يقل الإعدام بل قال الفرقة، وكنت اعتقد إنها الفرقة الحزبية وهم أناس مدنيون، يمكن التفاهم معهم . قلت كمن اسقط في يده .

-     بل، انه يقصد فرقة الإعدامات . وهم مجموعة مشتركة من الحزب والجيش الذين تشكلت منهم فرقة إعدامات مقرها في المدرسة الثانوية . ومن يصل اليها يصفّونه جسديا وبدون شهود او طلب اعترافات . قال المقدم ذلك وبدا كمن يشعر بالحيرة والألم تجاهنا، دون ان يستطيع فعل شيء .

في تلك الأثناء، ومن الباب الخارجي للمكتبة العامة دخل خمسة جنود بدا وكأنهم كانوا عائدين من جلب الأرزاق . عندما شاهدني احد الجنود، لا اعرفه، ركض باتجاهي وسلم علي بحرارة وقبلني واستفسر عن حالي وعما جاء بي إلى هنا . وحين عرف وضعي ذهب ركضا باتجاه المقدم وقال له :

-            سيدي هذا الرجل كان مدرسّنا، وهو رجل محترم ويحب الناس . وأرجوك ان تطلق سراحه .

-            كيف أطلق سراحه وهو - يقصد الملازم - المسؤول الحزبي للفوج وهو الذي جاء بهم .

-     لا عليك ياسيدي سنشهد جميعا انه هرب منا اثناء ذهابنا به الى الفرقة . عند ذلك تم اطلاق سراحنا وسلمت لنا هوياتنا وودعناهم وذهبنا .

ولما كان طريقنا الى حيث مرسى الزوارق يمر عبر مقر الضابط وجماعته فلقد تقابلنا معه في الطريق ليقتادني مرة أخرى الى حيث المكتبة العامة بعد ان كال الشتائم للمقدم لأنه أطلق سراحنا .

اثناء الطريق طلبت منه ان يطلق سراح اخي، طالما ان الرفيق الحزبي هو من شكاني انا وليس اخي . ويبدو ان الفكرة اخذت دربها في عقله، فاطلق سراحه .

اخذني الى السرية مرة اخرى . وهناك قال الملازم للمقدم، بطريقة تحذيرية :

-            ستكون مدانا ياسيدي لو أطلقت سراحه، وسآخذه بنفسي الى الفرقة في المرة القادمة، بل وساكتب تقريرا عن الحادثة .

 قال ذلك وقام بتسليم هويتي مرة اخرى للمقدم ومضى بعد ان شدد اوامره له .

-            انت المسؤول عنه هذه المرة ايضا، ياسيدي .

مرة اخرى ركض الجندي، باتجاه المقدم . وتوسل به إطلاق سراحي . لكنه رفض هذه المرة بشدة . قال :

-            انا اخاف من هذا الملازم ان يكسر رقبتي .

بعد ان توسل طويلا، قال له الجندي بلهجة قوية :

-            والله ياسيدي، لو اعرف انني سأعدم ولا اسمح بإعدام هذا المدرس .

ذهب الجندي خارج المكتبة العامة ليعود بعد قليل بضابط شاب صغير، يحمل هو الاخر رتبة ملازم . سلم على المقدم، الذي رد عليه التحية وراحا يتصافحان باحترام . ثم قدمه الجندي لي وتصافح معي بود . وطلب الملازم من المقدم، باصرار، اطلاق سراحي . كان المقدم خائفا، ولكنه بعد تطمينات الملازم والجنود له، استعاد رباطة جاشه قليلا . وعندها اتفق مع الملازم ان يذهب بنا، انا وبعض الجنود، بالسيارة من نوع الواز العسكرية، باتجاه فرقة الاعدامات ليعود بنا مرة اخرى باتجاه مرسى الزوارق في تمثيلية يراد منها ايهام عيون الضابط الذي اعتقلنا باني هربت . ولكن صادفتنا مشكلتان الاولى مشكلة ازمة البنزين، والمشكلة الثانية الهوية . وتم اقناع المقدم من قبل الجندي، بان الامن سوف يبحث عني فيما بعد لو لم تسلم لي هويتي الان وحُلّت المشكلتان بشهامة الجندي والملازم الشاب وتسامح المقدم الطيب، دمث الأخلاق .

في طريقي الاخير شاهدت الملازم والجنود مرة اخرى ما جعلني افقد صوابي مرة اخرى بعد حكاية مرهقة تشبه الحلم تتذبذب بين الموت والحياة، استمرت من صباح اليوم الى المساء .

رايت وانا اعبر النهرمتخفيا، وقد فارقني اخي، بدوي دي سانت اكزوبري وهو يرتدي الملابس العسكرية ليجلب له وصديقه الطيار الآخر، وانا معهم الماء بعد ان اوشكنا على الموت من شدة العطش . ترى هل كان ذلك الجندي بشريا ؟ لو لم يكن أخي معي، وهو لا يزال حيا يرزق، لتوهمت إنها قصة نسجها خيالي، ولقيل لي ان خيالي قد أخصبته الآلام .

 أغمضت عيني الاثنتين محاولا تذكر هذا الجندي الذي أنقذ حياتنا من موت مؤكد، لأتذكر انه قال لي انه ليس من اهالي البصرة .

سألته :

-            كيف تعرفني، وأنت لست من أهالي البصرة ؟

-            كنت تراقب علينا في الامتحان الوزاري ( البكالوريا ) .

-            ومتى كان ذلك ؟

-     كان ذلك قبل الحرب . عندما كنت ُ امتحن شكليا، لغرض الحصول على استراحة ( إجازة ). ورايتك لمدة ربع ساعة لا أكثر، ثم سلمّت دفتري ألامتحاني، ومضيت .

-            وهل يكفي ذلك لكي تضحي بكل هذا لإنقاذنا ؟

-            نعم يكفي لإنسان شريف .

-            وكيف عرفت إني شريف ؟

-            الرجال بسيمائهم، وقد توسمت في حديثك معي وباقي الطلبة ذلك .

أثناء هروبي الأخير، كنت اغرق بالماء . وما أن أحست اسماك القرش المفترسة بوجودي حتى راحت تتسابق نحوي، وكنت ارتجف من شدة البرد وكانت حرارتي مرتفعة رغم وجودي في الماء، لكن دولفينا ناصع البياض شق الماء وظهر فجأة، مجازفا بحياته تجاه القروش ليضعني فوق ظهره، وراح يسبح بي نحو الضفة الأخرى، البعيدة . 


 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2132 السبت  26 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم