نصوص أدبية

السيمــــــــــرغ * / فـــرج ياسيـــن

بحثوا في كل مكان مسجلين إشارات ضئيلة غامضة في رقائق قلوبهم العاشقة، ثم انتشروا في الحقول والشواطئ التي كان يؤمها باحثاً عن صغار الأسماك والضفادع وشوارد الحشرات الذائبة بين الحصيات والطحالب . توسلوا بالنجوم لتثبيت ساعات الفيضان والعواصف ومواعيد السموم ودرجة الانخفاض القصوى لحرارة أيام الصيف .

فتحوا كتبهم وقرأوا في فوح صلواتهم وأدعيتهم وأورادهم وتهويماتهم وشطحاتهم . صَلّوا مرات كثيرة تحت أقدام الجبل، وصرخوا بأصواتهم المرقّشة بالخشوع . نادوا عليه باسمه متخيلين أن الصدى لمّا يزل صديقاً كالأمس ! لكن أحداً لم يرد عليهم، لا الجبل ولا همس أوهامهم الحار . وفي يوم أحضروا خرقاً مختلفة الألوان من بيوتهم، وعيداناً وقشاً من مواقدهم ومرابط دوابهم، جعلوها كومة عند سفوح برجه العالي ؛ غدت كثبانها، يوماً بعد يوم تشبه قباباً متجاورة تحوم حول هياكلها المتحجرة أنفاس أدعية تتردد أصداؤها في الآفاق .

لكنه لم يأت لكي يعيد بناء عشه القديم !

بعد جيل صار غيابه، يؤلف أحلامهم ويحلق فيها، وصار الحنين إلى لقائه في الزمان هو وحده الذي يسوّغ عذابات الانتظار الطويل، لذلك أعادوا مرة بعد مرة ترميم برجه القديم ؛ ظناً منهم بأن كل لحظة في المستقبل سوف تُهرع إلى استقبال طلعته الراجعة من أجمة المستحيل . ومع أن كل من في المدينة ظل يحلم بعودته . إلاّ أن أعماق الجميع كانت تهمس برفض تلك العودة : كيف تراه سيكون بعد كل تلك السنين . ثمة ما يجعلهم يعتقدون بأن أشياءً كثيرةً لم تعد كما كانت عليه . أن يكون – مثلاً – قد فقد مرونة جناحه الملكي الباذخ الطيران، أو أنه لم يعد محتفظاً بصلابة ذلك العنق الطويل المتماوج الألوان وتلك الساقين الباسقتين بزغبهما الحريري، أو أن يكون قد كفّ عن روح الدعابة التي كانت له مع الأطفال خاصة، أو أنهم قد لا يجدون ريشته الذهبية التي نسجوها – من دون أن يدري – عبر أعوام الرجاء البطيئة ونبتوها في موضع التاج من رأسه .

 

قصــة قصيــرة جــدا

.................

* السيمرغ : ملك الطيور في منظومة (منطق الطير) لفريد الدين العطار .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2132 السبت  26 / 05 / 2012)

في نصوص اليوم