نصوص أدبية

في شارع جلان جاكسا (2) / جمال حافظ واعي

 

أن تكون منصتا في هذا الشارع هو ما تتطلبه الحكمة، فليس من المعقول أن تكون مجادلا لكل من يعرض بضاعته، وليس من الإنصاف أن تستهين بالمرأة الجميلة التي تعرض جسدها عليك.

ففي بعض الأحيان يكون الجواب طعنة في الخاصرة، كما حدث ذات يوم في الشارع عندما ابتسمت أحدى الفتيات الجميلات إلى سائح خليجي وحاولت الاقتراب منه فقال لها بصرامة: استغفر الله هذا حرام.

حينها أطرقت الفتاة رأسها إلى الأرض بانكسار ثم حدقت فيه من بعيد وكأنها أرادت أن تقول له: وهل جوعي حلال في نظرك؟

أيام تتقلب على جمر الشهوات والنوايا أشبه باسطوانة تعيد نفسها.

للشارع رطانته التي يفهمها الجميع ويستسلم لإغوائها وهي غالبا ما تشبه كولاجا لا رابط ينتظمه إلاّ سعار الشهوة.

السائح الخبير هو الذي يُجزّئ الشارع إلى محطات وعليه أن يستنزفها واحدة بعد الأخرى لا أن يتورط فيها دفعة واحدة أشبه بمن يجد نفسه في غابة لا يعرف مداخلها ومخارجها.

ليس ثمة زمن في هذا الشارع إلاّ إذا كان للذة زمن.

غالبا ما تتعامل المرأة مع جسدها كما لو انها تريد التخلص من بضاعة قبل فسادها.

إلحاح عجيب في محاولة استمالتك، نساء يلتصقن بك إلى حد الملل، إلى حد أن تكره نفسك من أجل شراء المتعة الجسدية.

ما تخبرك به المرأة هو ليس كل ما تودّ أن تقوله، لقد علمتها الحياة أن تتقدم في الخديعة شيئا فشيئا وتستدرجك من حيث لا تعلم إلى المناطق الرخوة فتفقدك التوازن لتتلاعب بك.

ربما تستعين بكل ما متاح أمامها فالخديعة تتطلب وسائل إيضاح لها.

مع البراءة هناك مخالب لا تُرى ولكنها تتخفى لحين إتمام الصفقة، مخالب للإيقاع بالسائح، ذلك هو من قوانين الشارع.

***

 

أجساد معلقة على الواجهات الذليلة للبؤس الإنساني تتنافس مع أيامها ويطارد بعضها البعض بقفزات لا تعرف مستقرها، فالأيام عاطلة لا رصيد لها في ذاكرة المقصي من الحياة، الذي يتنازع مع ما يحيط به للفوز بقوت يومه، لذا عليه أن يستغل الفرصة المتاحة بكل شراسة فهو يعلم انها لن تتكرر.

نعم، لابد لك أن تتذكر ما ترويه لنفسك وأنت تجوب الشارع، لابد أن تلقي خطب الحكماء في اقرب مزبلة، فليس للحكمة اذان حين تستطيل اذان الجوع وترتفع إلى أقاصي السماوات، بل لو تجرأ الحكيم على دخول الشارع بحماره لباعوا حماره وتركوه، فالحمار أثمن منه.

المحنة هنا أم الجميع، ترضعهم الخوف وتكتب أيامهم وتطوقهم بحبالها المجدولة بعناية.

***

 

في المساءات التي تختلط فيها أصوات المدن الضالة يهب البشر أنفسهم إلى كل ما لا تسمية له ثم يتتبعون الأثر الذي يسميهم خارج ذواتهم.

خطى نملية تحث أنفسها على الانتشار لتشكل إيقاع الحياة.

شيوخ يتناسون شيخوختهم مع الصبايا ويستبدلون قبورهم التي تزحف معهم بقهقهات الطفولة التي تتسرب من أنفاسهن، فهل ثمة إيقاع مشترك بين رجل يحمل الثمانين عاما على كتفيه مع صغيرة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها؟

انه الإكراه الذي يمارسه الشارع على الحياة نفسها.

ذلك الفضاء الرحب للإنسانية هو ما يعوزنا، نحن الذين نقود الأشياء النبيلة إلى خانقها الضيق ونختمها كأي سلعة قابلة للشراء، هكذا تُستباح العواطف وتمر عبر واجهة العرض والطلب، فالجمال الذي يجلس إلى جوارك مدفوع الثمن لذا فان الأحاسيس والمشاعر ستكون مدفوعة الثمن هي الأخرى ولا تخرج عن هذه اللعبة.

قالت لي إحدى حسناوات هذا الشارع: هل اذهب معك؟

قلت: وكم تطلبين؟

قالت: مئتا ألف روبية " ما يعادل عشرون دولارا ".

قلت ممازحا: لماذا لا تتزوجيني؟

قالت: نعم أتزوجك، وكم ستعطيني حين نتزوج عن كل ممارسة جنسية؟!!

انها لا تريد أن تتحرر من فكرة ان كل ممارسة لها ثمن حتى بعد الزواج، ربما قالت ذلك بلا وعي منها ولكنها لغة الواقع في هذا الشارع.

***

 

الأثر الذي تمحوه الرياح تستعيده الحاجة القاسية للبشرية وتنثره على الجهات التي لا تؤدي، تلك المكابدة اليومية بلا نهايات مادامت المطاردة معلقة وليس ثمة حل يلوح في الأفق.

ليس هناك صراخ في الظلمات وإنما أنين مكتوم ترضعه الأثداء المترهلة التي تتبادل الأدوار في الغرف المتقابلة.

الأيام هنا تعبر بلا رحمة وكأنها في نفير لا ينقطع واللاهثون خلفها تتقاذفهم السبل، ربما كانت أطلاقة الرحمة، كما يتمنى البعض، نهاية لهذا اللهاث.

الكوابيس هي ما تبقى، شواخص دامية للاستلابات القادمة لهذه الأجساد، ذلك ما أيقنتُ به حين اقتربت مني فتاة صغيرة وكان يومها الأول في الشارع، وقد عرفتُ ذلك فيما بعد، أرادتْ أن تقول لي شيئا، أن تعرض جسدها بطريقة ما، فأدركتُ أنها لا تعرف عمّ تتحدث، كانت غريبة على نفسها، لم تفقه لغة الشارع بعد.

بعض النساء هنا يجلسن على مصاطب بلا أية اندفاعه أشبه بسلعة قديمة معروضة على واجهة منسية رغم الملامح الجميلة، ربما كان هذا الانزواء هو القطرة الأخيرة من الحياء التي تجاهد لكي لا تسقط.

***

 

المرأة الخرساء، تلك التي رأيتها تقف في ركن قصي من الشارع،كانت جديرة به حقا.

كان جمالها يتكلم نيابة عنها، كانت تومئ  وإيماءاتها هي اللغة كلها، وكان خجلها من انها لا تستطيع الكلام هو الجمال كله.

تلك المرأة أخرجتني من فضاء الثرثرة إلى مهابة الصمت.

كان الشارع برمته في زاوية وهي تقف في الزاوية المواجهة له، في اشتباك المصائر الغامضة.

تلك الخرساء أخرجت لي صورتها وهي محجبة أرادت أن تقول لي ان تلك ليست مهنتها ولكن الجوع لا يرحم.

كلما أبصرتُ جسدا معروضا أتساءل: أين تختبئ الأنثى؟

لقد أُستبدلت المشاعر والأحاسيس الأنثوية بالخبرة التي يمنحها الشارع، فالمرأة أصبحت خبيرة في اقتناص الزبون الذي تجره بمكر، أما البراءة فلا فسحة لها هنا، المرأة البريئة هنا تكون ضحية مزدوجة فهي ضحية الحياة وضحية نفسها.

وجوه تترقب على حافة الانتظار، ليس ثمة لهفة لشيء وإنما ترقب لذاته، ترقب يخلو من الحواس الإنسانية النبيلة وربما هو ترقب النظارة لمفاجآت السيرك.

الحياة هنا سيرك كبير للأوهام التي تباع في الظلام وتحت ضوء النهار.

 

استراليا

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2133 الاحد  27 / 05 / 2012)


في نصوص اليوم