نصوص أدبية

هنا بيروت / عبد الستار نورعلي

دخانٌ يتصاعدُ في فضاءِ الساحةِ

حمراءَ من دم المواويلِ، والصراخ ُ يعلو:

ارفعوني !

أنا التي أرّختْ في زمان الحروبِ

أنّه كُتبَ على شاطئي أنْ لا أنامَ

على فراش ٍ من أغان ٍ تُـبثُّ على أثير الحرير والأساطيرِ

التي لمعتْ في البحرِ، والبرُّ لونُ الفراشات حينَ

رفرفتْ أجنحتُها في كتابِ الجمال ِ،

والغواني يُسرعْنَ الخطى متلهفاتٍ

الى أعشاشِهنَّ في سرير النهارِ..

 

السفنُ تمخرُ عبابَ وجهي كل يوم ٍ

كتبٌ، عطورٌ، ملكاتٌ للجمالِ، فيروزُ، وصباح،

وهنا بيروتُ من فضلكَ ياعينيَ،

نورٌ ونارٌ وجمالٌ وتجلٍ وعشق ٌ

وصمود .......

 

سجى الليلُ والعاشقون على الرمال

يلتقطون الحُبَّ من قمرٍ يركضُ مسرعاً من دخان ِ القذائفِ،

والبوارجُ تقصفُ الحانة َ في آخرِ الليلِ

يسكبُ النبيذَ في الأغاني ...

 

في الفجرِ وعلى فضائيةِ العاجلِ

المذيعة ُ تصفِّفُ شعرها قبلَ النشرةِ

تضعُ أحمرَ الشفاه كي لاتضجرَ الطائراتُ

والمشاهدون يحتسون شايَ الصباح دون مللٍ

العيونُ تفتحُ أفواهها على الآخرِ دهشة ً

زمنُ الرعبِ يعيدُ نفسهُ

صرخة .... احتجاج .... دمعة تسقط في القدح .... سبابٌ ...

تثاؤبٌ... خروجٌ الى شارعِ النهارِ

حيث التعبُ المرُّ، والمناكبُ تزّاحمُ خلفَ العرباتِ المثقلةِ

بالنعاسْ .....

 

الفوهرر من قصره الأبيض يُصدرُ الأوامرَ،

سمعا ً وطاعة ً كلُّ شيء على مايرامُ

والإغاثاتُ في الطريقِ الى مقبرةِ القريةِ

حيث الشواهدُ بحاجةٍ الى ترميم !

 

يقفلُ الجنودُ أفواهَهم بالقنابلِ تسّـاقطُ،

والمذيعةُ بصوتها الحماسيِّ تنطلقُ في النشرة العاجلةِ:

مارأيكَ في الذي يجري والذي لايجري والذي خلف عقال السادة

وكراسي الكومبارس؟

السيدُ الوزيرُ يحتجُّ من شرفةِ القصرِ

والمحلّلون يشدّون أربطة اللسان ِ

أما الطائراتُ فتنامُ في المطاراتِ المدهونةِ بدم ِ الكلام ....

 

بيروتُ عاشقةٌ تمارس سحرَها تحتَ سماء القنابل ِ

والهواءُ حوارُها، وسنابلُ الأشعار ترقص في زوايا رغبة الحقل الموشَّح ِ

بالمحبةِ لاخضرار الضلع في قافية الأزقةِ الضوعِ  واللهيبِ.

زهورُ الشمس ترمي ظلالها فوق الشوارع كي يمرَّ الحرفُ أولَ مرةٍ

في موكب البحر استفاقَ على نداء الأفقِ:

ذاك صدى طباعة صخرة الفينيق وهي تضمُّ صوتَ الريح في جنباتها

الى الأبد ....

هذا الصليبُ ينيرُ في الآفاق والأشواكُ فوق جبينه، يشمُّ رائحةَ المسيح

يدور في العينين بين هلال مزرعة البرتقال

يدقُّ أعمدةَ الضياء والأشجار نيازكاً فوق الحقولْ ....

وترٌ من القمر استفاق ليعزفَ المعبدَ أغنية ً

تظلُّ تجوب الساحةَ الحمراءَ،

فتيانُ المراجل ترتدي مطرَ القلوب تفكُّ رمزَ السحرِ

موشوماً على الساعد،

أما الكفُّ فهي رسالةُ القمر الموشّى بالرماحْ ......

 

العاشقُ السادسُ يرمي الكرة النارَ على الأرض،

ويحمي قلبه من ريحة الغدر يطوف العالمَ السفلي،

يرفع رأسه بين البوارج، والرصاصُ لسانُه،

والروحُ قنبلة تفجِّر كرهها بين النوارس،

والطلاسمُ تحتمي بالمحفل الكهفِ،

 وأعوامُ الجفافِ مزارُها، ومزارعُ التفاح تحترقُ،

صالة آلهة المحارق تفتحُ بابها السفلي تـُغرق أفقَ بيروت دماً،

ودخانُ تنين التواريخ المدجّجةِ السلاحِ سنانُـها من أسطر التابوتِ

أما اللوحُ فهو السورُ مبنياً بما في النفس من أفعىً

تشمرُّ سمَّها في كل حينٍ، ثم تخفي رأسها

لتعيدَ معسولَ الكلام .....

 

جلجامشُ الأبدِ المزنَّرُ بالرغائبِ  يقتفي أثرَ البريةِ

حينَ تلاقتِ النظراتُ، والجسدان اتحدا،

ها هو انكيدو يستفيق من السباتِ

ينام في حضن المحبةِ كي يحيلَ الغابة الدهماءَ مزرعة ً

وغصناً خالداً بالعشق والأنوارِ والقصص اللهبْ،

وخمبابا برأس من القذائفِ والقنابر والبوارج ِ

والعناقيدِ التي ليست من العنبِ 

ولكنْ بأسنان ٍ من الموتِ المعجَّل والمؤجَّل

في نزال اللوح تحت سنابك العرباتِ

تنتظر الساعة تأزف في جداولهم ...

 

بيروتُ طفلةُ أنبياءِ الحرفِ والقناديل

دلّـلها الضياءُ يشعُّ من كوّة جبرانٍ استجابَ نداءها الوجدَ،

أبو ماضي يزيح ستارة اللغز الخلودِ،

وميخائيلُ بين عباءة الكهفِ على الجبلِ الأشمِّ

يجيلُ طرفَ الأصبعِ الممهورِةِ بالنورِ ليفتحَ قلبهُ للبحر ....

 

"إنا إذا اشـتدَّ الزمانُ ونابَ خطبٌ وادلهمْ

ألفيتَ حول بيوتنا عُددَ الشجاعةِ والكرمْ" (1)

 

هذا العَلمْ

زيتونة ٌ خضراءُ ترفلُ بالمحبةِ والحِكَمْ

صبُّـوا مواجعَكمْ ! فهذي طفلةٌ يسـوَدُّ منها الوجهُ،

تلكَ الأمُ نازفةُ الحليبِ تدوسها دبابةٌ بالقاذفاتِ من الحِممْ،

هذا ابنُ سبعين أبى أن يتركَ الحقلَ

وأشجارٌ من الزيتون تزرعها الهممْ

والصوتُ في الجبل الأشمْ

صنمٌ، صنمْ

ذاك الذي في بيته الأبيض يرقص بالجثثْ،

تلك التي نزعتْ ثيابَ الجلدِ 

تلبسُ نسرَ ذاك البيتِ تعبثُ بالأممْ

شمطاءَ جرداءَ

فلاماءٌ ولا نورٌ ولا كلمٌ حَسنْ ..!

 

هنا بيروت،

من فضلك يا عينيَّ !

أدرْ وجهكَ صوبَ خرائب الأطلس،

هذي ذراع الأسفارِ

تصبُّ الزيت على النارِ

وتصلبُ عودَ الأرض ِ

تحت جنازيرِ ظلام الغاباتِ ...

 

هنا أورشليمُ !

تنطلق الوحوشُ بلا استئذانٍ من صالة أممِ الكلام

والرقص على ذبح رقاب الحمام .

الحبُّ خبرٌ من الأخبار يُذاع  على قهوة الصباح

بين عاجل وآجلِ على فضائياتِ الكلام

والرقص بالمجانْ ...

سالومي تضع رأس المصباح على طبق هيئة الأمم ....

حكايةُ العاشق مع نصال السكاكين المُشرَعَةِ حكايةٌ غبرتْ

يومَ كانَ الحبُّ أولَ ما يكونُ مجانة ً

فإذا تحكّم صار أعمدةً ونذوراً في المعبدِ .... (2)

أيقونةُ الصبر وشموعُ الأم الصابرةِ صنوانِ لا يفترقان،

نقف ببابها صلاةً من عبق أزقةِ الروح،

ورياحُ البنفسج تهبُّ على حقول التفاح والبرتقال

تزرعُ فوقها زيتونة َ المحبة والسلام والشموع ....

 

هنا بيروت ...

لايزالُ المذياعُ  يروي قصة مدينة الضوء والعطورْ

والحرفِ والنذورْ

وهي تغفو وسط هدير البحر وسكونه

لتنامَ على فراشٍ مارجٍ منْ نورٍ ونار

تصلّي ....

 

 .......................

هوامش

* القصيدة كُتيت بتاريخ الجمعة 11 سبتمبر 2006 ، ونُشرت في حينها، وكنتُ قد تهيّأتُ أنْ أعلّق على نصٍّ المهدى اليها في المثقف (ليل العالم) بمقطع منها، لكنّي رأيْتُ أن أعيد نشرها كاملةً مهداةً اليها، لما بينها وبين قصيدتها منْ وشيجة (لبنان) هي محورهما.

 (1)     بيت لأبي فراس الحمداني

(2)     تضمين لقول علية بنت المهدي:

الحبُّ أولَ ما يكون مجانةً ... فإذا تحكّمَ صارَ شغلاً شاغلا

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2140الاحد  03 / 06 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم