نصوص أدبية

والفجر هاديء هنا/ ماجدة غضبان

(المهندسة ساجدة غضبان المشلب)، والى بلد ما مات شعراؤه الا غرباء!!.

 



"ألّمتْني..و على المامِش علمتني"(*)

و الفجر هاديء هنا(**)

 

حفرنا طويلا بجنون..

 

مجموعة من النساء المنقبات الباكيات ورجال يرتدون الدشاديش المعفرة بالتراب.

لم يصدقنا الجندي الامريكي الذي ترجل من دبابته لكنه حين انصت ووضع اذنه على الموضع المحفور من الارض سمع صراخهم كما سمعناه..و حمل معولا اخر وحفر معنا حتى الغروب دون جدوى..

 

- كيف ستعيشين بجنونك هذا وانت تحملينه معك زادا وزوادة؟؟؟؟؟.

سمعتها كثيرا من امي..حتى وانا شمطاء..

يوم ربطوني في الحظيرة قرب بقرتنا الوحيدة علمت ان هذا كل ما لدى امي من حب وكل ما لدى اهل القرية من الرحمة.

تأتي لي بالزاد وانا مربوطة الساقين واليدين بحبال متينة وتغيم عيناها وتمطران.

وشاحها تلبسه الفتيات الصغيرات قبل البلوغ..انا لم احظ به بعد..فانا الاصغر..

 

في بريطانيا تمشينا كثيرا قرب ساعة بك بن ونهر التايمز..

اترينه يشبه دجلة؟؟

لا، انه صورة مشوهة للنهر..فدجلة تطفو فوقه الجثث..و هذا لا يعرف سوى القوارب واصوات الضحكات واضواء الفرح..لم يحتضن الموتى..لم يعانق الضياع.

 

-841-sajda  اختاه!!.

صوتي امتد عبر الحقول والسباخ..بلا انتهاء،

شعرت باسنان الجوع تمزقني كأنياب وحش ضار..

لم تأت اليوم بصحنها ولم تطعمني..

 

الجنون في قريتنا طقس يمارس بقدسية تامة..

يعدون له كل عام ويوزعونه بين بيوت الطين كما يوزعون مشقة الحصاد تحت شمس نيسان على نساء ورجال القرية كواجب حتمي بغض النظر عمن يمتلك هذا الحقل او ذاك..

يرقصون في اعراسهم كما يلطمون صدورهم ويمزقون جيوب اثمن ارديتهم السوداء.

 

لم ربطوني يا اختاه؟؟؟؟

لانهم مجانين!!

- لم اتهموني بالجنون اذن؟؟؟

لانهم مجانين ايضا.

- من العاقل في القرية يا اختاه؟؟؟؟

-  انا وانت فقط.

 

في لندن ضحكنا حد البكاء عندما تذكرنا احد اقربائنا وكيف لاط بمطية بيت جدي..كانت تلك متعته المفضلة في الظهيرة حين يبحث الجميع عن ظل صغير ما في عراء الحقول.

في بار صغير جلسنا واحتسينا كأسين من البيرة..لم نتوقف عن الضحك..احدى النساء يوما قالت ونحن نحتطب:

من خلق الله؟؟

لم يجبها احد بل تعالت الضحكات الانثوية الخجولة تحت اللثم السوداء.

ما شأنك به انه في السماء؟؟؟.

ظلَّ مرآه قبابا ذهبية برائحة الحناء والحلوى والشموع..انا واختي الصقنا شفاهنا بقوة على الباب المزين بالنقوش الذهبية والاحجار الملونة الساحرة خلف الزجاج الصقيل..قبلناه بشوق لنبلغ الجنة..بل اكثرنا من القبل الحارة المصحوبة بالدمع لنحصل على افضل بقعة..

 

ازدحم السوق وقادني رجل يطوف بي لعل امي تراني..بكيت بحرقة..بدموع سخية حتى بعد ان وضعتني امي في حجرها لم اتوقف عن سخائي وجرى دمعي  طوال الليل الذي تلى عودتنا من ارض الله.

صفعتني امرأة..و صفعتني اخرى..و توالت الصفعات والركلات والشتائم والبصاق بلا عدد او توقف.

و السيد الذي ربط رأسي بعصابة العباس الخضراء بعد ان كواه بقطعة حديد حامية قال كثيرا من الكلام غير المفهوم واغمض عينيه كمن يتقي سماع صراخي.

اربطوها مع البقرة.

قالها وقد نفذ صبره.

يمه انا رأيت الله وسرت خلفه ليأخذني الى السماء حيث نحصل على ما نريد..انتم من اعدتوني اليكم.

كررت هذه العبارة مئات المرات..

رماني اطفال القرية بالحجارة..

نهشتني الكلاب..

امي من رحمني فقط من السباب والبصاق والزجر والرفس وحتى اغراقي في الساقية.

ما عرفت السلام الا في الحظيرة مع بقرتنا التي تعرفني جيدا وتفقه ما اقول.

مر يومان ربما او ثلاثة..و الحبال تحز جسدي الذاوي..و العطش ينشب اظفاره في جوفي.

 

اختاه!!

خيل لي اني كنت اصرخ..و ربما كنت منكفئة على وجهي..

 

الحمى منعتني من النهوض

قالت وهي تسقيني ماء يعلوه قش كثير.

 

سعلت كثيرا في الطريق الى المدرسة .. السعال الديكي يجعلني اعوي ككلب.

سنتأخر عن المدرسة هلمي!!

اختاه اني اعجز عن السير!!

تجرني وهي تخشى ان تضربنا المعاونة و(الميني جوب) يكشف عن لحمها الكثيف الابيض دون ان تحاول اخفائه عن اعيننا المفتوحة باندهاش.

بغداد هي ذلك الدكان بمصابيح صفراء تشبه ضوء فانوس بيتنا لكن دون دخان..و علبا شفافة تفيض حلوى.

هل تذكرين كيف كنا نحلم ليلا اننا عثرنا على عشرة فلوس في الشارع واشترينا المثلجات؟؟؟؟؟.

ضحكت اختي..

انها لا تشبه حتى مثلجات لندن..ما الذها.

 

كم حفرنا يومها وكم من الايام استمر الحفر؟؟؟

انني لا اذكر..

لم يعننا ان كان اخي من يصرخ تحت الاسواق المركزية ام غيره من سجناء الزنازن الخفية..كنا نود الوصول اليهم حيث يطلبون النجدة.

تعرى لحم اظفارنا ونزفت ايدينا واغرقنا الثرى عرقا ودموعا.

آليات ضخمة اعتلاها جنود المارينز الكثر بوجوههم السوداء والبيضاء دكت البقعة ذاتها لمدة اسبوع واصبح قعر الحفرة غير مرئي ولم نعثر على طريق يصلنا بهم تحت الارض..ثم لم نعد نسمع انينهم الذي صار يخفت يوما بعد اخر..

 

قبلته وبكيت..

صفقت بحماس شديد..

انه الكتاب الاول..

الا تعرفين الفرح؟؟؟؟؟؟؟

انه كتابي الاول وانت تبكين؟؟؟؟؟؟؟.

اختاه انا والبقرة لم نتعلم البهجة..هل نسيت؟؟؟؟؟؟؟

قهقهتْ..

 

كم تضحكينني يا مجنونة القرية..لكني لم ارك الا باكية!!.

 

لم يودعونا في زنزانة واحده..

صرخاتها مميزة ساعة التعذيب عن صرخات الأخريات.

ما حدث في الظلام هناك ظل سرا ما افصحتْ عنه كلمة..كانت نظراتنا تلتقي.. تبرق وترعد وتمطر ثم تطرق بصمت.

التايمز الهاديء والضباب اشبه بزنزانة جمعتنا معا..

وطن القباب والنخيل والجنون والحظيرة والسباخ وتلال الحصاد وبغداد والامسيات الثقافية والاحزاب المحظورة والتعذيب والبحث عن سجناء لم نرهم ابدا تحت الاسواق والمستشفيات..كل ذلك لم يكن اقسى من الغربة والتعثر بين المطارات الغريبة التي لا يزايلها الشك ان كنا من الجنس البشري ام من القرود كما صنفنا هتلر.

في غرفتنا الصغيرة الخالية حتى من مروحة تبادلنا انا واياها الكتب والتهمناها التهاما..تلك التي انتهت بنا الى الجلوس على الكرسي الكهربائي وحفرت جسدينا بالسياط.

امام شاهدة قبرها المنقوشة بلغة اجنبية مع ترجمة بالعربية وضعت كتاب "و الفجر هاديء هنا" لمؤلفه "بوريس فاسيليف"

كان الفجر هادئا وضبابيا حقا!!

جاءني صوت امي عبر الهاتف:-

ايتها المجنونة..

انا لا اصدقك..الا ان نطقت البقرة التي ربطناك معها.

سرت نحو التايمز كأنني سألتقيها

 

- كيف ستعيشين بجنونك هذا وانت تحملينه معك زادا وزوادة؟؟؟؟؟.

لم تصدقني امي حتى حين قلت لها انني قد دفنتها في لندن.

لم تصدق كل قول قلته طوال عمري.

و ظل اهل القرية يذكرون الحبال والبقرة..حين يقسمون ب "السيد محِمّد" ويقولون ان المجنونة قد غدت طبيبة تعالج مرضى الانجليز في لندن وتقول انها دفنت اختها هناك.

هل لديهم من قبور في بلاد الكفر؟؟

 

 ..........................................

(*) "الّمتْني وعلى المامش علًمتْني" مقطع من قصيدة "ليل البنفسج" للشاعر العراقي "مظفر النواب"، معنى كلمة "المامش" هو اللاشيء.

(**)"و الفجر هاديء هنا" رواية السوفيتي "بوريس فاسيليف" صادرة عن "دار التقدم موسكو" بالعربية مثلت على المسرح مرارا وانتجت كأفلام في مختلف دول العالم..و هي من الروايات التي قرأناها سوية انا وشقيقتي ساجدة واحببناها جدا ولم نزل مراهقتين فحسب.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2141 الأثنين  04 / 06 / 2012)


في نصوص اليوم