نصوص أدبية

(سيتا) سليلة الثعابين / سردار محمد سعيد

 فتح الكاهن الشبابيك البـِلـّورّية والأبواب المذهّبة فانجلى الظل المكبوت وغرقت الجدران في الضوء المتسكع .

إنعكس لألاء أحداقها على شالها الوردي فاصطخبت أساور الآلهة حين بدأت أيديها تتحرك صاعدة نازلة بتناغم كالموج المسحور .

ذبلت أجفانها وتسلل الخدر إلى أقدامها واستكانت للتعبد .

ذابت في جو إسطوري كذوبان عاشق في حر أنفاس معشوقته .

أتيت أسوح فرأيت نفسي أسيح .

هناك بابان على جانبي تمثال الآلهة عن يمين وعن شمال لم يفتحهما الكاهن

فعجبت ُ .

 - لست ِمن هذا البلد ؟

- بل منه .

 - أرى شعرك أشقرا ً والجميع هنا بشعر فاحم .

 - مستعار .

 - والعيون الزرق .

 - هي الأخرى كاذبة .

 - لماذا الزيف ؟

 - ألآ تعجبك ؟

 - لا تعجبني الأقنعة .

لبس وجهها قناع الحياء، فرفعت جبهتها وبان بلج بين حاجبيها، وقالت:

- ألأقنعة تلك التي تغلّف النفوس الخبيثة .

يمكنك رؤيتي على حقيقتي لوأردت .

هطلت كلماتهاعلى روحي كما تهطل سحائب على بلقع، وقلت في سرّي: أريد بل أتمنى .

- وددت أن أسألك عن البابين اللذين لم يفتحهما الكاهن لِمَ واحد كالح اللون وواحد أبيض .

- الكالح باب أعداء الحياة يودي إلى الهلاك مخصص للطغاة ومن يفسد في الأرض، والأبيض باب أحباب الحياة لا يسمح بدخوله إلآ للعاملين والكادحين ومن يمزجون عرقهم بطين الأرض .

- إقتربْ، ضعْ أ ُذنك على خشب البابين .

سمعت صوت بكاء وعويل صادر من الباب الأول وصوت ضحك من الثاني .

في باب المعبد الخارجي بائع تماثيل صغيرة للآلهة .

إشترت لي تمثالا ً .

- ضعه قرب رأسك سيجلب لك السعادة .

 *********************

 

سارعت إلى لقائها في يوم التعبد بعد أسبوع

- هل طلبت منها أمنية تحوزها أو تبلغها ؟

- لا .. لا أثق بحجر، وكم من أمنية جلبت منيّة .

- الطيبون لا يخسرون .أنا طلبت فاستجابت .

- ماذا طلبت ؟

- رؤيتك ثانية، من تتصور الذي جعلك تأتي لرؤيتي ؟ لست على هذا الدين، لم تأت للتعبد، أتيت للقائي .

- شعرت بدافع إلى لقائك .

- أرأيت هي .. هي فعلت، حركتك بسكونها .

أتسمح لي بزيارتها مع أمي كي أقدم لها الشكر ؟

- وقت شئت .

جاءت بصحبة أمها .

وقفتا قدّام الآلهة بخشوع يزينه التضرع وتمتمتا بكلمات أجهلها، لكنني فهمت ما دار بينهما وأنا أعدّ الشاي .

 - بنيتي لا بد أن الآلهة تحبك، أين عثرت على هذا الرجل ؟ لو تسنى لي وعثرت عليه لما تركته برهة، ثوب العمر يخلق سريعا ً فلا تدعيه يفلت من يديك فتغضبين الآلهة، هي أهدته لك فلا ترفضي هدية لا تحصل عليها إلآ حبيبات الآلهة، أحبيه بصدق فيحبك، كوني له رفيقة عمر، دعي شفاهه تتوضأ برضابك،كوني له أم فهو غريب يكون لك أبا ً،دعيه يرتشف ندى روضك فيزهر روضه .

- ولكنه غريب يا أمي .

- كوني له وطنا ً .

- ومن دين مختلف .

- وما علاقة ذلك بزواجك منه، هل دمه أزرق ودمك أحمر.

- قد لا يفقة هذا .

- لا تكوني بليدة، دعوته لنا تؤكد بلادتك .

نظراته تنم عن جوى مستتر ألم تشعري بها ؟كم أنت ساذجة .

- بودي لو كان صدره من زجاج فيشف عما فيه .

- حتى لو كان من زجاج لن تري الحب فهو كامن كمون النار في الحجر وإن لم تقدحيه فلا يشتعل لوحده وإن لم تديمي نفخه فسيخبو .

- لو كان أبي حيا ً أتعتقدين أن رأيه سيوافقك رأيك ؟

- لم نكن من دين واحد وصلـّينا في محراب واحد .

- أي محراب ؟

- ألم أقل لك أنك ساذجة العقل، تمازجت أرواحنا وأشرق نور ارتقى أفق العقل والجسد.

*********************

 

حاولت التقلب في الفراش، فعسرعلي ذلك وأحسست كأن شيئا ً يلتف حولي .

حاولت ثانية ولم أستطع فك الطوق عني، ولكنه كان طوقا ً ليّنا ً .

أنا متأكد أن فراشي يحتويني و (سيتا) بعد زواجي منها قبل أسابيع ولم يحصل لي مثل هذا .

مددت يدي لأتحسسه .

لعله ساعدها، لا، ليس هذا بساعد .

لعله فخذها .. لا، ليس هذا بفخذ .

لعله خصرها المنبعج، لا ..ليس هذا بخصر .

فتحت جفني ّ، صعقت .رأيت أفعى بحجم سيتا تضطجع جنبي .

- لا تخف، أعرف أنك فوجئت، كان علي ّ أن أخبرك أني سليلة الثعابين، ولكن ليس كما تعتقد أو يعتقدون أننا نفترس بلا سبب .

- لِمَ لمْ تخبريني بحقيقتك ؟

- خفت .

- عجباً ثعبان يخاف من بشر.

- أرايت كيف ظنكم بالثعابين، نعم نخاف من بطشكم، هل رأيت ثعبانا ًيكره

 ثعبانا ً ؟ أويقتل ثعباناً .

- ولكنكم تلدغون الأحياء فتعيشون عليها .

- وهذا ما تفعلونه أنتم، ألا تقتلون الخراف والبقر والماعز والأباعر لتأكلوها وتسلخون جلودها لتتخذوا منها حقائب وأحذية، فلماذا تحلوّن و تحرّمون على هواكم .

*****************************

 

- سآخذك اليوم لبركة الورود الذهبية لترى ماءها الزلال وتشم عطرالورود الذهبية التي لا تنبت إلآ في هذه البركة ويكتسب الجو عبقه .

كانت تحيط البركة الطواويس، ولا يسمح إلآ للأميرات بالإستحمام فيها مرة واحدة طوال العمر.

حين نضّت أمي ثيابها أشاحت الطواويس عيونها خجلا ً، فاستغل سائق العربة الحربية ذلك وسرق أمي .

فقدت الورود لونها الذهبي وعاد ماء البركة آجنا ًوصارت ذيول الطواويس رمادية، وأضاعت الفراقد محاورها.

جمع الملك حاشيته

- من يعيد إلي ابنتي من آسرها فيشفي فؤادي الجريح،سأكرمه كرماً لا يخطر على بال .

- قال السهم الناري : أنا قادر عليه مقابل نصف عرشك .

- قال قوس الصاعقة: أنا آتيك بها مقابل ربع مملكتك .

- قال الثعبان: أنا آتيك بها مقابل فتح ساقية الماء تلك التي أمر بغلقها سائق العربة فيسقي الناس مزارعهم .

خرج الثعبان للقاء سائق العربة الذي كان مقاتلا ً لا يشق له غبار، ودارت بينهما معركة عنيفة، سبعة أيام بلياليها يتصارعان .

إنتفضت العربة، داسته بعجلاتها فصُرع .

أجلس أمي فيها وراح يجرها زاحفا ًعلى رغم الجروح التي أدمت جلده وخطّت على الحصباء من ياقوت دمه خطوطا ًكالجدُد .

وصلا المدينة فدوّت الطبول وهلّل الناس .

سارعت أمي لمسح الدم عن ظهر الثعبان وغسلته بماء البركة المقدس فإذا بالورود تعود ذهبية وريش الطواويس عاد ملوّناً

 - أقيموا الأفراح ولترقص الصبايا، فقد وهبت ابنتي زوجة للثعبان .

وفد الفلاحون ومعهم سلال غلّة طازجة من تين وزيتون .

شوهدت الطواويس تنثر ريشها الملوّن في جو المدينة والزهور تنشرعطرها في الأرجاء .

هطلت السماء مدرارا ً وارتوت الأرض ولم يمنع الغانيات تبلل ثيابهن والتصاقها بأفخاذهن من التوقف عن الرقص بل زادهن صخبا وافتنانا.

كنت المولودة التي أشاعت الفرحة وملأت البيت غبطة وسرورا ً، ولكن أبي ركب قطار المنية، وخطمته خطما ً.

إنقلبت سعادة أمي غمّا ًوشربت كأسا ً مرّا ًوصرت سلوتها الوحيدة، مؤمنة أن المنية تقرع كل باب .

آخر ما أوصانيه به وهوعلى فراش الرحيل:

- بنيتي ..إياك أن تتخلي عن ثعبانيتك .


 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2143 الاربعاء  06 / 06 / 2012)


في نصوص اليوم