نصوص أدبية
سيجارة الجدة / عائشة المؤدب
تتقاذفها مناقير صغار بومة لم يكن يراها، كان يعتقد أنّها عجوز لأنّ وجهها يذكّره دائما بوجه جدّته وهي تلاحق بعينيها أشجار الطّريق العائدة ركضا إلى سقيفة بيتها المهجور للتوّ، حيث كانت تخبّئ في "الطاقة" المرتفعة شيئا من الفرح الفضوليّ، تتدلّى منه عيون أطفال منسيّة لم يعودوا، على باب السقيفة تعلّقت ضحكاتهم وبعض دموع أضاءتها سريعا هدهدة وضمّة اتّقدت فيهما الدّعوات.
من شقّ النّافذة المتّسع على مدار الفكرة كان ينظر إليها تخرّب عشّ الخطاف الغائب في رحلة عشق، ترشّ كوابيس الأطفال الأشقياء على حديد الشّبابيك المظلمة، وترسم بزهر الخشخاش البريّ حدود باحة البيت الغيميّة،
صامتا يراقب الأشباح تنزّ من عينيها، يرى في استدارة الوجه المبلّل بفوبيا الرّحيل حكمة البوم الصموت، في صرّة من قماش مجعّد تلفّ أطراف أحزانها وتعقدها بقفزة ما عادت تقدر عليها كي تنفض غبار الرحيل عن وجهها.
هي غيمة تحترق وهو يتابع مسلسل الحركات البطيئة ويجلس عند مدخل القلب يترصّد أحزانا ربّما تنصرف.
على حبل أرجوحة تئنّ وسط الحوش المشجر كغابة شتويّةيذكر أنّه رأى جدّتهتصفّف تذكارات أبطال حكاياتها المارقين وتمضغ عطفها الرّاشح مع تدفّق العمر: ذاك الغول المدلّل ترك لها عواء الذّئب المسنّ حتّى لا يوقظ حسناء الغابة السّمراء، صيّاد السّمك أسلمها شباكه الأخيرة لترتق بها حنجرة طائر الحسّون بين قضبان قفص صدريّ مهمل، مازالت تحتفظ أيضا بصوت النّملة الضّاحكة لعلّ أنثى الغراب اللّعوب تأمل في سفر مباغت، الأميرة المستعدّة لزواج عرفيّ بشحّاذ المملكة المجنون خبأّت عندها شهادة ميلادها المزوّرة تحسّبا لتعداد سكانيّ محتمل...
لم تكن الجدة تحب النهايات السعيدة ربّما لهذا السبب كانت لا تنهي حكاياتها إلاّ حين ينام الأطفال الممدّدين حولها كقطع من الدومينو المائلة تروّض أحلامهم المزعجة وتخيط بدخان سيجارتها المخفيّة ضوء نهارهم الجديد، صباح كلّ حكاية غير مكتملة كانوا ينهضون على فرح، ينفضون من عيونهم رمادا خالوه فتات منامات غير مريحة. سيبحثون في طريقهم إلى المدرسة عن فكرة متسكّعة تتسلّل عبر شقّ النّافذة لعلّهم يرون صغار البومة العجوز قبل أن يبدأ الدرس.
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2148الأثنين 11/ 06 / 2012)