نصوص أدبية

عهد ووفاء / سلـــوى فــرح

مع ولادة الغصنين وُلِد حبهما، تلاقت نظراتهما فتعانقت الأرواح وذاب القلب في القلب.. وتعاهدا على الوفاء والإخلاص.. شاعت حكايتهما بين أهل القرية, وباءت محاولات الحسّاد بالفشل فلم يفترقا وازدادا التحاماً..هو أنفسهم الحساد الذين حاولوا تفريق الغصنين فاشتبكا.

وفاء شابة في مقتبل العمر، رقيقة، ملائكية الطلّ، تتمتع بسحر خفي جعل شباب القرية كلهم يتمنونها، ويحلمون بها خليلة.. ولإرتباطها الروحي مع حبيبها "عهد" لم تأبه لهم ولم يكن حبها لعهد لوسامته وجميل ملامحه إنما لشكيمته وعصاميته..

عمل مع والده النجّار وبرغم قلة المردود المادي أكمل دراسة القانون فصار محامياً، وكم مرّة أقدم على خطبتها إلا أن والدها رفض وبحجة أنه على وفق التقاليد والعرف تكون البنت من نصيب إبن عمها، فسبق أن وعد أخاه بتزويج وفاء من ابنه "حازم" فكانت وفاء رهينة لـ"عهد" ومفروض عليها قسراً..

زاد قلق عهد لتأخرها عن موعد اللقاء في الغابة عند النبع ولعبت به الظنون, وإذا بوفاء تطل كظبي يتهادى سحراً ورقة, ولكن الحزن مرتسم على وجهها والدموع تترقرق في مقلتها الحوارء.. هرع إليها بلهفة العاشق الولهان محاولاً أن يكفف دموعها, لكن وفاء لم تنبس وفقد فمها نعمة النطق, فألح عليها مستفسراً عن الذي حدث ,فبكت بحرقة وقالت : أهلي يصرون على زواجي  من ابن عمي "حازم"  رغماً عني، وقد عاد من الخليج، وهو من التجار المرموقين هناك!! وقد هددوني بالقتل إذا رفضته !! وأنا في حيرة من أمري.. ولا حول لي ولا قوة.. ولن أتزوج غيرك كما عاهدتك ولكنني تائهة ومرغمة ساعدني  أرجوك لأنجز وعدي.

كأن سهماً اخترقه فزعزع كيانه وروحه قائلاً: لن يحدث هذا ولو كانت حياتي هي الثمن،  وكان الألم يطغى على وفاء حتى أنها لم تستطع النظر في عينيّ "عهد" وتراجعت إلى الخلف وهي محبطة، وكلمات "عهد" تقرع سمعها: إيّاكِ.. إيّاكِ يا حبيبة الروح نسيان عهدنا، وتوارت بين أشجار السرو، وصدى كلماته  تعصف في سمعها حين رفع رأسه إلى السماء راجياً الله: ربي عبدك الفقير يلتمس رحمتك, فلا تدع من يفرق بين حبيبين.

 قفلت "وفاء" عائدة بخطوات متثاقلة وحائرة إلى البيت.. ويتصاعد خفقان قلبها من الخوف لوعلم والدها بالأمر، وقد سبق وحذرها من عدم التأخير، وضرورة العودة بسرعة إلى المنزل بعد انتهاء دوام المدرسة، كما هددها بالضرب لو حاولت رؤية "عهد" أو الالتقاء به.

عندما ولجت عتبة المنزل أول ما وقع نظرها على شارب والدها الذي كان يهتز من الحنق عليها، أما أمها فقد كانت واقفة  مذهولة، و مصفرّة الوجه لا حول لها ولا قوة..  ما أن رآها والدها حتى بادرها بالصراخ بأعلى صوته: ألم تفهمي  قرارنا بتزويجك من حازم, أنت لا تنصاعين لقرار أبيك, وأعلمك أن الأسبوع القادم موعد زواجك, فقد وعدت وانتهى الأمر  ولا يمكنني أن أخل بوعد قطعته على نفسي منذ كنت صغيرة.

وفاء الفاتنة المتمردة الثائرة على واقع بالٍ وقع عليها الخبر كوقع الصاعقة: يا أبتِ أنتم الذين قررتم ولست أنا!!

أنتم تعرفون حق المعرفة أنني لا أحب "حازم".. لا أحبه، ولا يتلاءم معي روحيا ولا فكرياً, يكبرني كثيراً, فضلاً عن عدم إيماني بزواج الأقارب... كانت ترتجف وتصرخ: محال.. محال يا أبي.. أنت تدمر حياة كائن وتسير على جثته، هل أغرتكم ثروته فتاجرتم بسعادة فلذّتكم..

ما أن سمعها تقول ذلك حتى ثارت ثائرته من جرأتها في الدفاع عن حقها الاجتماعي.. فانهال عليها ضربا بدون وعي رغم محاولات وتوسلات أمها، فلاذت بغرفتها كسيرة الخاطر.انفجرت بالبكاء تندب حظها التعيس.. وطلبت من الله أن يخلصها من مجتمع يسوق النساء سوق الخراف إالى الجزّارين .

لا بد من التضحية وكسر طوق الحصار المفروض عليها حتى يتم زواجها من "حازم" الذي صار يسابق الزمن لإتمام المراسيم.

السماء كدرة والنجوم اختفت، وذبلت غصون أشجار البرتقال، وتوافد المدعوون إنه يوم عرس حازم الذي حضر متبختراً كطاووس, يختال بين المدعوين بمنكبيه العريضيين وكرشه المفلطح وراح يرمق الضيوف بنظرات ملؤها الغرور والتكبر، والجميع خاضعين له وخانعين ويستطيع شراء أي شيء يروق له في الكون .

كان الحفل بليداً وكأنهم في مسرح يعرضون مسرحية عنوانها زمن الرياء، ثم أطلت العروس "وفاء" بسحرها المشرق كملاك طاهر،  وبجمالها المتألق.. كأن القمر قد تنازل عن إمارته في السماء ليهبط على الأرض وهي  ترفل بفستانها الأبيض المطرز باللؤلؤ.. ويزين  معصمها الذهب  الإبريز.. ويلتف حول عنقها عقد ألماسي يشع كالشمس، وكان جميعهم يتطلعون إليها بإعجاب وانبهار، وهي تسير بخطوات وئيدة نحو العرش المذكور حيث اجلسوها  جانب العريس والدموع تنهمر من عينيها.. وأشاحت وجهها عنه...

 ما هي إلا لحظات قليلة حتى شعرت "وفاء" بأن الذهب والألماس يحاصرها و يُضيّق عليها الخناق، ويحبس أنفاسها.. وتكاد روحها أن تفارقها، وكانت حالتها لا تسر الصديق.. ونظراتها الكئيبة تجيب على تساؤلات الحضور..  متوترة الأعصاب من هذه المهزلة.. لكن ملامحها توحي للرائي بأن صراعا ما في داخلها يتأجج، وتدير حواراً مع روحها لإنقاذ حبها  من الضياع..

 يبدو أن الروح استجابة لدعاء "وفاء" وأوعزت لها بأن تسترخي و تغوص في أعماق ذاتها لتشاهد مستقبل زواجها الفاشل.. طاوعت "وفاء" روحها وأغمضت عينيها لترى نفسها عبارة عن امرأة في متوسط العمر  تعيش في عالم مادي مظلم فيه كل ما يحتاجه الإنسان إلا قلبها غير موجود، وأنها  تعيش في فراغ قاتل مع كهل شبه ميت لا يتواجد معها  إلا في أوقات وجبات الطعام والنوم، وهي تتحمل مسؤولية ومشقة رعاية ثلاثة أولاد من بينهم اثنين في مقتبل العمر مشلولين بسبب زواج القُربى.. تابعت "وفاء" هذا الدخول العميق في روحها أكثر فأكثر فوجدت أنها زوجة ستكون فاشلة، وتعيش بلا روح، وتمت  الإساءة  لذاتها وإلى أبنائها، والى المجتمع بأسره، وتمنت لو لم تخلق للحياة أبدا .

فجأة انتبهت إلى نفسها على أصوات الدفوف والطبل وزغاريد النساء فانتفضت عن كرسي العرش كلبؤة تتربص الطريدة.. ضربت قدميها في الأرض.. و صرخت: لا.. لا.. وألف لا لهذا الزواج ..وهربت نحو الباب وهي تلملم فستانها الطويل حتى لا يعيق ركضها.. تفاجأ الحضور.. ذهلوا.. واعتقدوا في بادئ الأمر أن شيئاً من الجنون قد أصابها!! لكنها لم تكترث بهم.. واصلت ركضها، ودبت فيها القوة والشجاعة والتحدي لدرجة أنه لم يستطع أحد اللحاق بها..

هنا بدأ ذووها بالتهديد والوعيد وتعالت صيحاتهم.. وصار همها الوحيد الخلاص.. خلعت حذاءها الموشح بالذهب وألقته خلفها غير آبهة بما سيحصل لاحقاً مركزة على هدف واحد فقط، وهو مستقبلها الخالي من الإمراض الاجتماعية، والتخلص من براثن التخلف.. ثم توارت "وفاء" عن الأنظار بين أشجار السرو والصفصاف  وتوجهت نحو نبع القرية.. لم تثنها أشواك الطريق ولا تمزق فستانها المزركش عن مواصلة تحدي الظلم وآثاره.. كانت الشمس قد شارفت على الغروب عندما وصلت إلى هناك ويُسمع شهيقها وزفيرها المتقطعان عن بُعد.. تلهث ملهوفة.. وترتجف من الخوف على حياتها..

لقد كان "عهد" في انتظارها هناك يبكي بحرقة ودموعه تنهمر من مقلتيه بغزارة.. جثا على ركبتيه.. شكر الله على إنقاذ حبهما من الضياع والانهيار.. كأنه كان يعرف ماذا سيحصل معها في حفل الزفاف.. هاجت نفسه فرحاً .. ثم نهض عن الأرض على وقع صوت "وفاء" المتهدج.. شعر أن الحياة عادت إليه من جديد.. و تدفقت الروح في شرايينه.. هرع إليها بلهفة العاشق الولهان المنتظر.. غمرها بحنانه وهو يردد: حبيبتي.. حبيبتي.. كنت أعرف حق المعرفة بأنك لن تقايضي بحبنا الثمين... أنا فخور بحبك وبروحك العزيزة الثائرة.. هلمِ إليّ.. لن أتركك مدى العمر.. أخذها من يدها برفق وسط عاصفة من بكاء الفرح والانتصار، وهربا معاً يخططان لزواجهما و مستقبلهما رغم كل الصعوبات والعادات والتقاليد التي تقف حائلاً أمامهما ليعيشا في ظل عهد المحبة والأمان الوفاء والإخلاص، وليمنحا الحب لأبنائهما ليعيشوا في النور الحقيقي للقرية الجميلة الحالمة في مستقبل حر.. فتكون قرية النور الحقيقية.

 

*كاتبة عربية تقيم في كندا- 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2148 الأثنين  11/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم