نصوص أدبية

المعلم / حسن البصام

منذ ولدت تحت ظلال اقلام الرصاص .. وعندما اسمع: قم للمعلم .. يمتد شريط أمام ذاكرتي، يحمل صور الايام الصاخبة بالاصدقاء واللعب في الساحات.. اللحظات السعيدة كانت تقترن بكف المعلم وهو يربت على ظهورنا استحسانا، بل اني ارى توبيخه احيانا يحمل الكثير من الحنان .

ايتها السبورة التي تشبه كفنا الممدودة امام قارئ الحظ .. لماذا لم تحتفظي باسمائنا جميعا معلقة على خطوط حظك المتشعبة من اطراف الاصابع وحتى نهاية الكف؟!  تنمحي الكثير من الاسماء او تتساقط عند مسحها على الارض فتداس تحت الاقدام  .. تتحول  الى بذور تنثر في ارض بور تحرثها ريح النسيان، ولا تنبت الا الشوك والعاقول، او تتلاشى هناك في الاعماق .

استاذ عدنان كعكة كان يجلس امامي مباشرة، ضمتني اليه دعوة لتناول الغداء عند احد المعارف.. مدير المدرسة الذي يضم اصابعه الى كفه بقوة ويقلب يده يرفعها ويضرب الطالب على رأسه، قائلا له: خذ كعكة .. عندما مسكه متلبسا بوضع الاوساخ في خزان ماء الشرب ... مهابا كان يتحدث،  بعد مرور اكثر من اربعين سنة على اخر سنة قضيتها في مدرسته، مازال صوته حادا مثل عصاه التي لم تفارق يده اليسرى الا لامور لابد منها، وقد فصل من التدريس، بسبب تعليقه على ربطة عنق الرئيس انذاك  .. يجلس قبالتي الان مزهوا بكلماته المنتقاة بتان .

- والله  لو عرض علي بقدر هذه الغرفة ذهبا، مافرحت به، هل تصدقون ذلك .. ساقول لكم شيئا، ان المسؤولين اتهموننا بالمتامرين  والحاقدين، ولا نعمل لمصلحة البلد ....هؤلاء انا واحد منهم  ..  في احد الايام، قلت لزوجتي، حين كنت مديرا لمدرستين واحدة الدوام فيها صباحي والاخرى مسائي، ان كمية كبيرة من الاقلام والدفاتر قد فاضت عن حاجة التلاميذ، وساقوم بتوزيعها على الطلاب، قالت لي: اجلب لي معك بعض الاقلام والدفاتر لارسلها الى اولاد اختي، لاني سازورهم غدا وربما يحتاجون اليها فحالتهم ضعيفة .

أجبتها في الحال: انا مدير المدرستين اخرج وفي يدي اقلاما ودفاترا هل جننت؟؟ ثم اعطيتها خمسة الاف، وكانت تعني الكثير وزيادة، قلت لها اذهبي واشتري ما شئت، فوالله لا اخون الامانة ..

أسرد لكم حادثة أخرى .. جاء احد المعلمين الى الادارة يشتكي من طلاب الصف الثالث الابتدائي، حملت العصا وذهبت مباشرة الى الصف وضربت اول طالب صادفني منهم فصاح احد الطلاب: لا استاذ لا تضربه، هذا اهدأ طالب... هؤلاء المشاكسون وليس هذا .. كان طالبا هادئا بالفعل ولكن  الغضب غلبني  فلم اشاهد ملامح هذا اوذاك، وظل الطالب يبكي، رجعت اليه قلت له بانه ليس المقصود وان ما حدث سهوا الا ان ذلك لم يجدي نفعا، قبلته وصحبته الى الادارة وحاولت ممازحته، الا انه لم يسكت، فقلت لاحد المعلمين ان يطرق الجرس ويجمع الطلا ب في الاصطفاف، ثم اخذت الطالب من يده ووقفنا معا في منتصف الساحة وقلت لهم: اسمعوا ياابنائي لقد اخطات بحقكم و بحق اخيكم هذا الطالب وانا اعتذر له ولكم جميعا وقد ضربته بدون وجه حق واريده وانتم كذلك ان تسامحونني ..التفت لي الطالب مبتسما .. فارتحت، خلصت نفسي من عذاب عانيت منه، وهو الاحساس بالظلم  ...ثم اردف قائلا: من يعتذر منكم الان، اذا وبخكم مسؤول باسم السلطة ...

تصاعد صوت الموبايل، أخرجه بصعوبة  من جيب بنطاله وحدق في الشاشة بتركيز يكاد يلتصق باحدى عينيه .. ضحك ضحكة عميقة وقال: ارسل الى من تحب  نغمة وشعرا باسمه..  انا ابن الستين ارسل الى من؟ الى المسؤولين الجدد الذين ركلونا في بطوننا؟ ما ذنبي يتكرر شنقي باربطة الحكام، المختلفة الالوان والاشكال؟ ان بعض المسؤولين مازالت ارجلهم تمشي على الاثار ذاتها التي تركها الاجانب الغزاة .. هؤلاء الاجانب  ياكلون خيراتنا ويصدرون للعرب لحوم الحيوانات النافقة، بل الاتعس من ذلك ان عظام تلك الحيوانات النافقة يعملون منها بروتينات لتجميل وجوه النساء ..نقبل  نساءنا .. نقبل عظام الخنازير او الاحصنة او التماسيح النافقة

لقد تعلمنا من السبورة والتلاميذ،  الخوف من الخطا وان نجابه حقائقنا وحقائق الاخرين . ان الذي يقف امام السبورة  رجل شجاع، لابد ان يكون شجاعا  .ويتعلم  ان الانسان لا يخوض مع الخائضين في البرك الاسنة .. أو انه يحمل السيف يقاتل الشر ومن ثم  يقاتل الخير بالسيف نفسه !!

ثم تابع كلامه متصاعدة نبرته الحزينة، وكأن الذي يتكلم ليس هو صاحب هذا الجسد الذاوي رغم طول قامته الذي يشغل المكان الضيق امامي، ربما هو كائن اخر، مهمته التصريح نيابة عن هذا الجسد .. او نيابة عنا .من أين له القدرة الفائقة على اقناع الاخرين، على ان خزائن الذهب هي اكداس تبن؟ كيف يقنعنا ان بريق الذهب، هو التماع عار عن الغنى وهو يشبه الى حد ما التماعات صفائح الجنكو؟
  سالته: استاذ عدنان ..لماذا لا تعود الى الوظيفة، مثل اقرانك الذي سبوا سلة العنب؟
  اجاب بسؤال : مالذي اختلف، السلة ام العنب؟
  اجبته: السلة والعنب .
  قال: اذن أعود الى سب السلة والعنب ...  لا يهدا لي بال حتى ارى رقبتي حرة لا يطوقها شئ حتى وان كانت قلادة من شعاع  القمر ... وان لا يثقل راسي حمل حتى وان كانت خيوط حرير.. أو أحمل على رأسي سلة لا يشتهي ما فيها فمي ...
  مااجمل ان أبدي الراي بحرية، وحين اكون مخطئا، اعتذر فيصفح  عني وأسامح .  انت الان هل تستطيع ان تنتقد حزبا او تجمعا او ماشابه ذلك يقوده أو يترأسه رجل دين؟؟ بماذا سيردون عليك، بابتسامة أو يربتون على كتفك؟  أم يوجهوا دعوة لاولادك لحضور حفلة خيرية ليمسحوا على رؤوسهم؟ يشتمون الغزاة ثم يضطهدوننا .. لم ار شيئا واضحا قط، ان مايحدث يثير الجدل ..
ولكن لا يشغلني هذا الامر بمفرده، انما يحيرني تغير الالتزام،التزام الرجل الذي اختارته الاصابع البنفسجية، هذا ليس اصبع انه شريان ..وهذا ينعكس على الموظف، أعرف ان الموظف المخلص سابقا كان جائعا معوزا مكمما يشعر بالذل في نفسه، لكن اغلب الموظفين يعملون بنزاهة، نحن نحتاج الان الى محفزات العمل بنزاهة .. بما يتناسب مع الرواتب الخاصة الخرافية ..ولكن ليس بظلم الموظف أو ترهيبه كما كان ...  بعضكم الان موظفون، اسالكم سؤال: هل تلتزمون بالحضور اليومي؟  - كان مسترسلا في الكلام بحرقة ونبرة حزينة وبنفس الوقت بنبرة خطابية،لكني مازلت في قرارة نفسي غير مقتنع عندما يخير الاستاذ عدنان، بين الفقر وغرفة الذهب التي وصفها .
  سألته: اين انت الان من الاحزاب؟
  اجاب: مستقل .
  قلت: وتاريخك المثقل بالحرمان وظلمة السجون ومرارة التعذيب؟
  اجاب: اهديها الى الوافدين الذين جلسوا في صدر الديوان، لم يعرفوا بعد ما ينتظرهم .

سالته: وماذا قدمت لاولادك؟؟؟
  اجاب: سيتنفسون الاجواء التي عشت فيها .. ساتحول الى ذكرى..  ذكرى مفلسة الا من عطر غامض... ساخلف بعض  الاولاد  العاقين، لان اكفهم قبضت تراب، وهم يطمحون  الى قبض الذهب، ليس كلهم، لابد ان  يشبهني أحدهم أو أكثر،  او يشبه جده ... أعتقد أنهم لا يشتمونني لاني لم أشتم والدي الذي فضل فرض ارادته على وجودنا حين ضرب رجل الامن عند مداهمتهم بيتنا دون طرق الباب خلال بحثهم عني .. خسرته،  كنت احتاج اليه كالماء والهواء .. بقيت أعاني من فقدانه طيلة حياتي .. لكن أقولها بصراحة، لازال يعيش شامخا في نفسي، كاحد الالهة السومريين يجب تقديسه واتباع تعليماته وتقديم النذور والقرابين له .  أسميته اله النور، لانه أنار قلبي، واطفأ ظلمة الضمير في صدري . لم أكن سببا في فقدانه، لانه اله يجب ان يخرج ويشرق . لذلك فاني اتمنى ان اكون الى جواره .
  أيقنت أن الاستاذ عدنان كان صادقا في نظرته الى غرفة الذهب، وان لم  يعبرعن كل مشاعره  الدفينة، لان التعبير عنها بشكل مباشر يثير الاستخفاف أحيانا، وهذه  احدى تجارب الوقوف أمام السبورة .. التي مازلت حتى الان، أنظر اليها متهيبا . أعيد قراءة الكثير من الكلمات التي مازالت شاخصة في ذاكرتي، على الرغم من انني لم أفهمها . لكني أحبها، لقناعتي أني سأفهمها يوما .

 

قصة قصيرة

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2153 السبت 16/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم