نصوص أدبية

في يوم ممطر / موسى غافل الشطري

.. جنحت إلى حالة تستهوي التعامل بالصمت.سواء هي ذاتها، أو الأم الذي أطر الكساح مساحة حركتها.كذلك .. المخلفات . التي ركنت – بعد رحيله- إلى الخمول وتشابه الحال.

 حتى .. ذلك القريب للزوجين. الصديق الظريف، المؤنس، كف عن تردده.

فلطالما... فاجأها بوجوده بعد الرحيل. وطالما..ملأ جزءا من ذلك الفراغ الموجع.

 وطالما.. خفف، وهوّن همها الطاغي، عبر سنوات عجاف، من الترمّل والقحط، والتوحّد.

وألحّ، أن تستغني، عن تلك المرآة البائسة، المثلومة على نحو جائر.التي أبقاها الزوج .. بنصف مفقود.

كلّما جاء القريب.. نقر على الباب الخارجي بإلحاح.تلك النقرات التي كأنها تقول  هوّني عن نفسك هذا الهم). فتبدو قسوة التوحد، أقل عبئا.)

قرعت مقرعة الوقت: عشر قرعات . وبدا الصباح رماديا، هطلا. كأن السماء قد أنفتقت عن نواح ثقيل.

وفي ركن، بدا – بعض  الشيء-  شاحبا، انزوت شمّاعة الملابس. وكان من المبرر لها أن تنزوي، وتنصرف عن تأّلق أصابعها، لقلّة المواظبة على محاباتها، فمالت إلى الغبرة واستحالت إلى كف مشبوحة الأصابع، نحو السقف، الذي طاب له : أن يبدو مهملا نفسه، ويروق له أن يخلد لذلك ويركن.

بدت الأشياء الأخرى .. تتململ من سكونها ببطء شديد. فقط  كان هناك فراش، بوسادة وغطاء، مستلق طيلة الأيام، إلآ ماندر،لشخصها، أذعن أن يتكيّف مع الصمت والرتابة.

واعتادت أن تكون: سوى وهم، أو شبح،أو ضمن نمط يؤدي تواصلا حياتيا.لم يغرها به شيء، سوى.. هناك في غرفة أخرى، ذلك الجسد المقعد، الصامت باستمرار.

كما.. توسّدت علبة المساحيق، وأدوات الحلاقة: حالة العطل المتواصل. كذلك .. أُقفلت تماما، درفتا الخزان، على ثياب استكانت للأسترخاء المطبق. ورافقت باستمرار، الأتكاء على حمالة متوائمة مع هذا المصير.

فلم يُجد.. أن تتواصل، مع حيويّة التنضيد والتعديل.، لكون صاحبها عزف منذ زمن غير يسير.

و تحتها إنبطحت، علبةٌ أفل تألّقها، منغلقة على وثائق:لعقد زواج، وشهادتين جامعيّتين، و.. وريقات،كانت محفوظة من أيّام الدراسة. ورسائل أصدقاء زاخرة بالنوادر،وذكريات طافحة بالمشاكسة والنصب على صديق.وصورة لقريبهم يقبّل حمارا. فيجري الأحتفاظ بها ضمن المكتنزات الثمينة.

وفي الأسفل لاذ ت – بحرص شديد – صورة مزدوجة للزوجين، يوم العرس، وشخصت على جانب الخزان.. رقعة شطرنج،في حين تبعثرت بيادق، كما لو كانت.. قد غلبت بأجمعها. ثم لاذت إلى الخلف، صورةٌ للزوجين بالألوان التقطها القريب، بدت هي بملامح ريّانة. متألّقة . باسمة.و قد ازدانت المائدة، التي أمامهما، ببطيخة، مفرطة النضوج.. وقد قطّعت.. على نحو نجمة بحريّة حمراء، لم تخف صاحبة الصورة ذلك الأنطباع، عن كونها مولعة بالعبث والأعتداد.

لاذت تلك الصورة وكان من الصعب والمؤلم أن تطل الصورتان، فتحرقا شغاف القلب.

وقد كان لهذه العتمة ما يبررها . وأصبح من النادر.. أن يسيح.. فيضٌ من كبوة شمس، على نحو يُعيُنها .، لكي ترجّل شعرها. فاكتفت بحظ ضئيل .. بحيث، توقف زهدُها.. على قدر يسير، يكفي أن يقدم خدمةً محددةً، وعاجلة.فكانت الستائر قد اعتادت أن تنسدل.. أكثر كثيرا مما ينبغي،، لكون الأشياء الخارجية, لا تغري براحة البال.

  فلا حديقة مزدهرة- كحالها سابقا – ولا عصافير تقفز وتزقزق . ولا ثمة ما ينبيء، عن حركة زائر ما،  لصديق أو قريب يذكرها بزوجها، أو باستمرارها على قيد الحياة. كأنما كل ما جرى سابقا .. قد انطوى وتراكم، في موقد الذكريات. وما تبقى ليس سوى .. رمادُ أحلام مرتبكة.و أصواتٌ .. في أوقات عمق الليل، خادعة.موحية : أنه جاء. أشياء كثيرة. حتى .. إن الحالمة : تكذب الحلم وهي في ذروته.

ليس.. سوى آثار.تتضائل باستمرار، ما بقي من دأب الزوج.وأدوات الحديقة الصدئة . ولعبة، هي لعبة يفاجأ بها الصديق .. ما أن يمسك بها ويقلبها، حتى يفاجأ بإطلالة رأسُ أفعى وصوت.

مكثت هذه اللعبة عاطلة على سطح الخزّان. وقد اُهملت بعد أن بهت كل شيء.وغياب القريب، الذي كان يتأملها ليستذكر العزيز.

قدماها تخطوان، كأنهما ممعنتان.. أن لا تزعجا الصمت، الذي قد استسلمت إليه، بعد طول مقاومةٍ . فكان حالُها .. حالُ تلك المسجاة الكسيحة.

فاستمرّت بالتباطؤ. واختصرت على نحو مقصود: أن لا توجع إناءا معدنيا، ولا حتى جهازا حاكيا.

بدت الأشياء راحلة قبل رحيلها . مكث لائذا.. ذلك الصوت الفيروزي: ( بكتب إسمك يا حبيبي عالحور العتيق..تكتب إسمي يا حبيبي عارمل الطريق. بكرة بتشتي الدني عالأصف المجرّحة.. يبقى إسمك يا حبيبي .. وإسمي بينمحى ).

عنيت عناية فائقة بأن تطويه، بكل حرص،وتخفيه تحت جدران الصمت . وتُشغل.. من فوقه، مشكاة، يستقر داخلَها مشطٌ، مهدى من قريبهما. ونصف مرآة في ممازحة، مع قريبه.. أرخى الزوج أصابعه فتحطّم نصفها.

أبقتها الزوجة، قناعة منها، أنها كافية، لكونه : لا يوجد الوجه الذي يطل إلى جانب وجهها. حبّذت هي : أن يتعفّر النصف، لكي لا يبدو واضحا، ملامح تجهمها واكتئابها.

تتناول المشط، ونصف المرآة، وتطل بحذر، لكي تحصل – بحذر شديد – على أقلِّ ما يمكن من الأضاءة. وتضل تنسل بشعرها، محدّقة بشرودٍ،لشجرة السدر، المطلّة على الحياة، بوجه نصف ميّت، بعد أن كانت وارفة الظلال، مضيافة. عزفت : أن تثمر من سنين.شح عطاؤها، منذ أن كان زوجها وقريبهما يطوحان بجذعها، فيجنيان ثمارها، وهي تأكل بانشراح.

يروق لها: أن تسرح مع المشط، المتسلل برتابة .. بكل جهات جدائلها المتحررة. لكأنه يطرد متاهات وأحلام الليل .

كأن الرأس قد فاض، ونضح مع ما تراقص من ذكريات وتوقعات .  ليس لجدائلها .. راحة أو تحرر: إلاّ لهذا المشط، الذي بات أنيسا، ومواسيا، ومتفسحا، جنبا الى جنب مع تلك الأنامل المتعبة، وتلك الحرائر، والتي آل بعض شعرها .. أن يميل إلى السقوط.، من تعب قد إشتكى منه الفكر. فأين يسقط؟

في كنفها.يتكوّر على نفسه، أو يستلقي بطوله، أو يلوذ بأسنان المشط.

هي ترقب ذلك . فالمحصّلة: قبضة ..هي هينة، لو كانت وحدها. طوتها الأنامل، دائبة أن تجمعه وتدسه في كيس، بدا متضايقا بما تجمع فيه، طيلة سني العزلة.

تُوسّع من إنحسار الستارة، كأنّها حيّية، وتسفر عن فناء رمادي، أوحت ملامحُه : عن حياة خابية، منذ أعوام. سوى السدرة اليتيمة، التي.. كان المفترض: أن تضفي على وجهها مسحةً مواسية. توشحت بنهار رصاصي متبلد. ونبا جزءٌ منها متسامقا .. متعرّيا، مشرئبّا، بإتجاه فناء الشارع، كأنه مواضبٌ على الأنتظار، ليلا ونهار . فيتعثّر خيال الشجرة، كابيا ومنعكسا، على غدقٍ من نقيعٍ مطريٍ طامٍ.

إنداح الظلُ من خلف جسد ثاوٍ، وقد انحسر وتضاءل بشكل ملفت للانتباه. بدا أمام حدقتيها:حال تلك الشجرة، تفقد أوراقها باستمرار . وقد لاح ذلك الجزء الناضب، موحيا بانكساف، معمّقا لونَه الداكن: هميٌ مطريٌُ متواصل.

كانت أنيستُها حمامة دائحةً، تبث لواعجَها. قابعةً بوحدانية. تستدير برأسها القلق.و تظل تجتر صوتَها، عبر عنقها المطوّق، والذي ينبر بتردداتٍ متواصلة، أو متقطعة، فتفهم الثاوية: أنها فعلا تبحث عن أنيس، فترهف السمع، إلى الصوت ذو النبرة البحّاء، وتفهم: أنها الكلماتُ نفسها. نداء البحث عن الصنو.فتردد معها ذلك النداء ( يا قوقتي.. وين أختي .. بالبصرة.. وشتاكل .. كوك الله)، صوتٌ حزينٌ يناغمها، لم يحظ في أحد الأيام، بلهجة بهيجة.

مرّات .. بل مرّاتٌ عديدة..وعلى مرّ الأعوام لايمكثن طويلا.. حتى مجيء القرين فترفّ بجناحيها، كأنها تصفق فرحا. ولا يمكث .. سوى ذلك الفراغ الجاثم، الذي يذكرها دائما : إن شيئا قد اٌفتقد. وانها ليس سوى لكم لجراحها.

يتواصل همي المطررتيبا كأن مشطاً ساواه، وتركه متشابها في هطوله.كأنه ينسل هموما رماديةً. لا توجع الأرض فحسب، بل تزيدها غدقاً وصليلاً.

وكأن أوراق السدرة المتبقية، قد إلتصقت محتمية بالأخريات

كأن المفردات تحن إلى الأزدواج.كأن السماء.. ميّالةٌ .. أن تجعل للأشباه صنوا تتكيء عليه. فالأتكاء ضروري.. في أيام هطولة كهذه..الموحلة الباردة.

في الأيام الخوالي.. تنحسر الستارة، بأنامل نشطة وتدفع بها جانبا إلى الزاوية.فتلوح أزهار الأقحوان والقرنفل، وشقائق النعمان،و شجرة السدر الوارفة، والمنعكس ذلك كلّه، على زجاج النافذة. والتي تعكس كل هذه ألأشياء المبهجة على

المرآة المتكئة على الأريكة.فتترك احساسا: بأن البيت حديقة مدوّرة. والحاكي يرسل ألحانه الراقصة، وتلك تلأغنية الرافلة، بالعتب والشوق ( حبيبي آل اُذكريني.. لما بيجي الطير .. ويعشعش الطير .. بالشجرة الحنينة).

يغوص المشط بليل الجدائل. وصقيع الوحدة يجثم على الركبتين. والأطراف. والفم..لم ينبس ببنت شفة. والنشاط حكر على الذهن . والمرآة خلا  إطارها من النصف الآخر.  فلا اتّكاء على أريكة، لكي تعكس بهجة الفناء.. ولا بهاءٌ بهيج. فقد اسهمت قبل هذا، بانعكاس حي، متألّق للحديقة، لتطرد على نحو متواصل، ذلك الشحوب الصباحي. وكأن الشحوبَ – آنذاك –له ما يبرره.لقضاء صباحاتٍ هادئةٍ، بعد ليلٍ مكتظٍ باللهو والممازحة.

كانت تعشق كل ما يصنعه الزوج.تعبد ابداعاته .ومفاجآته التي لا تخطر ببالها.

كم حلّ من أذى لهذه الأعوام؟  كم دفعت من ثمن لها؟ دون أن تجازف بتفريطِ، ولو جزء ضئيلٍ منها. كم فقدت من لونها المتألّق.. حتى إستحالت إلى هذا اللون الرمادي؟

   بقي المشط يسرح : مواساة لتلك الأصابع.. التي بدا عليها: ذلك الأرتعاش الخفيف. تلك البرودة المؤذية لأطرافها. حتى لون الملابس بهت، والمواعيد كذبت. حتى قريبهما العزيز، أجفلت ذكراه. وكذبت مواعيدُه .

إلى متى .. هذا الصقيع الذي ينخر العظام؟؟؟

وما زالت خصل الشعر تسقط وتفترق. وما زالت الثاوية تحدق بالشجرة .كأنها .. تطل عبرها إلى الفناء  . وإلى تلك  الحمامة  الدائحة  التي حطّت  وسط  الهطول  ورأسها يستدير، بذلك  البحث القلق، مرددة ندائها: ( وشتاكل .. كوك الله. وشتشرب.. ماي الله ).

تواصل ذلك النداء بإلحاح. مرّات يتأنّى، ومرات يتواصل. كانت الدائحة تبدو: كما لو أنها متوترة الأعصاب. وكان صوتها يهز كل كيانها الصغير. وكان يبدو..أكبر وأكبر من ذلك الجسد.

تبدو أحيانا تنسل ريشها بمنقارها. وتنتفض، ثم تواصل ذلك النداء، الذي يرهقها أحيانا.فيبدو سحيقا وأليما.

تصالب الجسد الثاوي فوق المقعد منصرفا  بكامله، إلى ذلك الأصرار، وقد استمر دون انقطاع، حتى ليبدو : إن الصبر قد نفذ.وإن الثاوية تتطلّع، ولو.. إلى طرقة يتيمة على الباب.لكن ذلك .. بات وكأنه بعيد. فمن الذي سيجيء؟...

كان المشط قد تواءمت حركته مع نداء الدائحة. وتوقف، حتى فوجيء بطير آخر يحط الى جانبها، فيتهامسان ويحلّقان.

الى متى تتطلّع الثاوية، بهذا الهمي المتواصل؟

 نظرت الى المشط، وانتزعت خصلات الشعر، الملتفّة بين الأسنان. كانت.. ثمة واحدة بيضاء. فوجئت لأنها لم تر.. رغم المحاكاة مع المرآة في كل يوم، لم تر.. مثل هذه الصهباء الكريهة . التي بدت من طولها : إنها ليست بنت اليوم.. وإن المشط والمرآة غادران.

من أية جهة كانت؟َ من الواضح أنها لم تكن من الخصل الأمامية. فلو كان هذا حاصلا.. لكانت أقل طولا بكثير. رغم إن ذلك .. لايشفع لهفوة نصف المرآة.

جاءت بقطعة قطنية، ومسحت بقايا المرآة، لكي تتأكد..من خلو الجهة الأمامية. ربما.. كان لتحطمها سبب. فلو كانت بحالة سليمة وصافية، لما خفى عليها خاف.

وانبهرت أمام عينيها،تلك العتمة، التي حوّطت العينين، والغضون المبكرة.كما لاحظت:إنها أهملت نفسها كثيرا. وفي خلدها ثبت إصرار: انها آيلة الى حالة أمها.

إلى متى ذلك الصقيع بالأطراف؟  إنها تُسرق ببطء. وتُغلب دون مقاومة.

رفعت قامتها وابتعدت، دون أن تجمع، ما كان عالقا بالمشط. حملت نصف المرآة، بيد مرتعشة .. فهوت من يدها متحطمة. واستلب اهتمامها، ما فوجئت به، من نقرات على الباب الخارجي وصوت مهطول، يستنجد بالدفء.

 

 18/1/2001

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2155 الأثنين 18/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم