نصوص أدبية
أخمـاتوفا / زيد الشهيد
والفتاة الثلاثينية التي انتصبت بقامةٍ طويلةٍ ونحيلة وشعرٍ أصفر منسدل على كتفين منحسرين أخرجت حزمة أوراق من حقيبة يدٍ جلدية صقيلة مُعلقةٍ على كتفها الأيسر وراحت تمسح الوجوه الشاحبة وسط إشاعة نافذة لمطهر النفتالين يحتل فضاء الردهة المستطيلة وينام على الجدران السمائية أو يتدثر بالأغطية والشراشف التي تجاهد بالاحتفاظ بلونِها الثلجي .
الجريح الموحل البشرة، المبتور الذراع وبوضع اتكاء على مسند سريره همس يطلعني :
- يا لها من شاعرة ! كم استمتعنا بما قرأت . إنها أخماتوفا .
- أتقصد آنا أخماتوفا ؟! الشاعرة التي تقول :
...
- نعم ! هيَ ! هيَ ! ..
عرفتها .. الشاعرة الغارقة في بحر اللوعة . فاقدة الزوج الذي أُعدِم والأبن السجين الذي ظلت تنتظره عشرين عاماً .. هي التي كانت تردد من على غيوم الكمد :
(انتظرُك ..
الانتظارُ قاسٍ !
أطفأتُ النور، وفتحتُ الباب)
هي القائلة وسط هجير الوحشة :
(أمام الكثير من الشقاء تنحني الجبال
النهر الكبير يوقف مجراه
لكن مزاليج السجون صلبة
ووراءها هناك جحور الزنزانة
والعذاب الحاد للموت) .
- أنت تعرفُها إذاً ! .. قبل يومين من إحضارك كانت هنا .. قرأت أشعاراً استحالت بلسماً لجراحاتنا .
رمقني بعينين فاحصتين . ثم بدهشةٍ شرع يسألني :
- في أية جبهةٍ سقطت؟.. لا تبدو سوفيتياً ؟!
استفاقت جِراحي وتعرَّت .. كدتُ أقول له أني عراقي عندما دوّى في مسمعي الانفجار الدامي الذي ارتكبه قبل يومين انتحاري بليد أوهموه بجنَّةٍ عرضُها مهول وطولها لا يُحد فتسبب بمقتل متسوقي خضار وتناثر أجساد أطفال روضة صادف مرور السيارة التي تقلهم تلك اللحظة وتركتني أضم ثلاثين شظية في جسدي وأربع أصابع مبتورة من قدمي .
وبغفلة من سيطرتي صرخت جراحي المستفيقة :
- في جبهةِ الذبح المقيت والسواطير الهمجية . في أرضٍ أهلُها لا يمتّون إليها .
إجابتي جعلت آخماتوفا ترفع بصرها من فم الردهة حيث تنتصبُ إلى نهايتها، مكان سريري . ترفع بصرها لتبعث مواساة وكمد، ومن ثم ابتسامة هدفت منها تضئيل حدة الألم واستهجان لون الدم الذي يشترك في إهداره القتلة السفاحون في كل مكان وعلى مرِّ العصور .
حصد جاري الجريح الابتسامةَ، لكنه غرق في رمال الإبهام .
هممتُ بمخاطبتها، قائلاً :
- يا آنا .. يا حاضنة الصمت الطويل، الطويل، وحاملة القلب الغارق في بحيرة الشعر . مَن أودع فيكِ غاباتِ الليل كي تكوني مبعثاً لعشقِنا المتباهي بما تقولين، وكيف هو البوحُ في حلبةِ الصبر؟
هممتُ بترديد نصِّها (من كفّي يأكل) عندما سبقتني في النظر إلى حزمة الأوراق التي بيدها، وراحت تردد وسط تقهقر الألم في ثنايا الجروح، وانزياح الهم من دروب القلوب:
كم من الأحجار رُميت عليَّ !
كثيرة حدّ أنّي ما عُدتُ أخافها .
كثيرة حدّ أنّ حفرتي أصبحت بُرجا متينا،
شاهقاً بين أبراجٍ شاهقة.
أشكر الرماةَ البنّائين
عساهم جنَّبوني الهمومَ والأحزان
فمن هنا سوف أرى شروقَ الشمسِ قبل سواي .
قصة