نصوص أدبية

(نانديني) التي أرتني القمة / سردار محمد سعيد

كأسي الشبيهة بكأس السم ّالذي جرعه سقرط، شراشفي التي لم تلمس غير جلدي، مرآتي المشوقة لتعكس جسد أنثى .

في وطني يوجد هواء وهنا كذلك، هوماكان يربطني به، ما الفرق إذاً؟ لو كان بإمكانهم لاغتصبوه، وفرضوا ضريبة لشمه، وغرامة لمن ينفث كلمات أكثر فيلوّث الجو، مساكين الشعراء سوف يدفعون كثيرا ً من المال، ولكن الطغاة نسوا

موردا ًمهماً،فلو تـُفرض ضريبة عن كل مضاجعة سواء مع زوجة أو عشيقة أو عاهرة لدرّ عليهم ذلك مالاً وفيرا ً يضاف إلى أرصدتهم  .

هذه الغرفة التي تسمى دارا ً تفي بما أتمناه، وطن ليس فيه أي ضريبة أو غرامة  ويمكن لأصابعي أن تمسك بأي شيء دون خوف ولا خجل عدا اللوحة الصاخبة المعلقة على الحائط الفاقع الصفار، لولاها لكنت قد استأجرت وطنا ً مثاليّا ً .

الأوطان صارت تؤجر وتستأجر.

كم بليد هذا الرسام، سفح جبل وغصون متشابكة ليس إلآ.

شرط وحيد اشترطته مالكة الغرفة أن تبقى اللوحة مكانها ودخول الغرفة وقت شاءت لتمسح عنها الغبار الذي يعلق بها .

- خذيها إذا كانت مقدسة.

- بل تبقى مكانها  .

- مجردغصون يابسة متشابكة .

- لم تتفحصها، لم تر الواد ومنبع النهر،الغانية تغتسل بمائه وطيور تحوم فوقها تنتظر أن يزاح ثوبها لتتلذذ برخام أفخاذها،أما الغصون اليابسة ستورق وتزهر وتثمر .

 

...........................

لم تأت العجوز اليوم لتنظيف اللوحة، وبدأ الليل يطفىء قناديل النهار، لأنتشي بخلوتي ومعاقرة خمرتي، بدأت ُ، وما أن دب ّ دبيب الكأس الأول طُرقت الباب، لقد جاءت المالكة، أي سكين ستذبح به رقبة خلوتي، لا بأس، هو أقل تأثيرا ً من سكاكين الطغاة، ما الذي ذكـّرها باللوحة؟ .

 قبل نهوضي وسحنتي تشي بامتعاضي إخترقت العجوز الباب كنور خلال زجاج .

فركت عيني، لم أتناول سوى كأس واحدة،لم تكن العجوز  .

- من أنت بحق مقدساتك؟

- (نانديني) ابنة مالكة الدار .

- هل أنت جنيّة؟ كيف ولجت الخشب؟

- أنا مأمورة أن أريك أمك .

- أمي !!!!؟ كيف؟ وأنا فقدتها منذ دهور .

-  ستكتشف ذلك في أوانه .

- ولأجل هذا قطعت خلوتي .

- خلوتك لا طعم لها إذا لم تمتزج بخلوتي، أنت في زاوية اعتزالك كجدث في قبر،

رقدت أم صحوت، تهرأ هيكلك وصار رميما ًأم بقي على حاله، فالزهر ينمو والسحاب يهطل، الطحالب تنتشر، الأشواك تبرز، الأفاعي تتوالد والسفّاحون يشحذون خناجرهم لتكون ذربة.

- وما شأني بالسفّاحين؟

- السفاحون أنواع تتفاوت غاياتهم وأهدافهم، وأنت واحد منهم .

- أنا؟

-  أنت تسفح عمرك وتسفح أنوثتي .

-  من تكونين؟

- لو تسلقتَ السفح الذي في اللوحة لعرفت من أكون .

- وكيف أتسلق ما لا وجود له؟

- قولك : لاوجود له، دليل عدم فهمك للوجود، أتعتقد أنه بيسر تستطيع إدراكه، دعني أضع كفي على كتفك تعرج روحي في روحك فترى نفسك على السفح ثم تسلـّق إن كنت تبغي معرفة ما تجهل.

رأيت نفسي على السفح وطفقت أتسلـّق وكلما تسلقت مترا ً نحو القمة تزحلقت

أمتارا ًنحو القاع حتى وجدت نفسي في الواد، فسمعت قهقة وإذا بنانديني تقف هناك

- لا تفزع إقترب منيّ، تقدّم .

زحفت على ركبتي كطفل، مدّت يدها لضفة المنبع وقبصت قبصة طين لم أر بنقائة طينا ً وقالت : إرضعه .

- ماذا تقولين ؟

- لتعرف من تكون أمك، أتيت ضفة الفرات زاحفا ً كالطفل .إرضع طينها اللزب، إرضعه كي تستطيع تسلق السفح وهناك في القمّة حين تمسك القمر ستزداد إدراكا ً .

رضعته فتسلقت السفح ولمّا وصلت القمة وجدتها هناك .

- كيف سبـِقتني؟

- تحولت إلى شعاع وانطلقت  .

....................

 

وصلت القمة بعد تعب وخاب أملي إذ وجدت القمر مايزال بعيدا ً وكنت أراه وكأنه فوقها تماما ً .

- سيأتيك القمر بنفسه . تعال نم في حجري، وعانقني وادفن رأسك بين نهدي ّ، ولنتخذ من عجز الشجرة مخدعا ً .

حاولت، ففشلت،مخدع لا ستر فيه، فبدأت الشجرة تخضل والبراعم تتفتق والغصون تمتد .

إلتفّـت حولي وشبكتني وحاولت الحراك فزاد التفافها وضغطت على جسدي فتألمت بينما كانت تبتسم .

- بالله أنقذيني .

- ذلك بثمن .

- سأدفع لك ِ ماتشائين .

- ليس الثمن مالاً .

- بل؟

- تُشعرني بذكورتك وأشعرك بأنوثتي، نتعرى فتنسحب الأغصان .

- نتعرى !!؟

- وننام متعانقين .

- بلا حرج؟

- ولـِم َ الحرج ألسنا أنثى وذكر؟

- عراة؟

- ألم نولد عراة وسنغادر عراة .

.....................

 

في غمرة خجلي، حرجي، ذهولي، بدأت الأغصان تتراجع وتضاعف ذهولي إذ توزعت فرقيقها امتد فوق الأرض باسطا ً نفسه كفراش وقويّها بنى غرفة حولنا ذكرّتني بقضبان السجون وأقواها تقدّم كذراع فتحولت أوراقه إلى أكف بعضها أمسكني بقوه والآخر بدأ ينضّ ثيابي ثم انسحبت فرأيت القمر يتدلى معلقا ًبغصن رقيق يشبه الخيط مرّ خلال فرجات الأغصان فاكتسى المخدع بنور فضي فطوقتني نانديني سبعة أيام بلياليها .

في اليوم الثامن صحوت فلم أجدها .إختفت كما ظهرت أول مرة  .

رفعت رأسي فلمحتها تعوم في فضة القمر نحو السماء، فلوّحت وهي مبتسمة .

عادت الأكف من جديد،حملتني عاليا ً، قذفتني بقوة خارج اللوحة .

وجدت نفسي في غرفتي وقد طليت بالبياض والخمرة في الكأس صارت رائقة فلا تماز من الزجاج .

طـُرق الباب ودلفت العجوز .

- أتيت لآخذ اللوحة .

- كنت تصرّين على بقائها .

- لم يعد لها ضرورة هنا، سأعلقها فوق رأس بشر لا يفقه بشريته .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2161 الأحد 24/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم