نصوص أدبية

أغنية فرنسيّة

.. إنها لم تغادره  وإن غادرت الحياة ولم تكفّ روحه عن سماع صوتها يأتيه صافيا عذبا حنونا أوقات الشدّة والأزمة والوحشة وما أكثرها مذ فارقته وهي تحمل في أحشائها ولدا كم أحبّت أن تحمله وكأنّها من فرط حبّها له حملته معها إلى هناك..

كانت جميلة كزنبقة الوادي.. جمالها سماويّ يخاطب الروح ويوحي بالطهارة والنّبل وكأنّها تلك الّتي وصفها الشابّي في قوله:

       يا لها من طهارة تبعث التقديس

       في مهجة الشّقي العنيد  

      يا لها رقّة يكاد يرفّ الورد

      منها في الصخرة الجلمود

هذه الملامح الظاهرة تخفي تحتها إرادة من حديد وإصرارا على ما تعتقده صوابا وحقّا تخرّ له الجبال وقوّة تحمّل نادرة ورغبة في التعلّم والإطلاع عجيبة ونزعة إنسانية تجعلك توقن أنّ الحياة بخير رغم كل شيء وأنها تستحقّ أن نحياها..

إنها ليست شخصية قلمية ورقيّة خياليّة وإنّما هي ذات حيّة من لحم ودم وإحساس تعرف كيف تصنع تميّزها وتحرّك وترا بين القلب والعقل قلّ من يحسن العزف عليه..

لقد كانت تركيبة فريدة عجيبة بغير شك ولله في خلقه شؤون وهو يخلق ما لا تعلمون..

تعرّف عليها أثناء تظاهرة ثقافيّة ذات شتاء بباريس وهو طالب حقوق وهي طالبة إدارة وأعمال... كانت تفرض الاحترام بسلوكها وجدّيتها وتشدّ الانتباه بنظرتها الخاصة للأشياء وحدسها القويّ الصائب في أغلب الأحيان.. كل ما فيها مشبع باحترام الذات احتراما يغذي لدى الآخر الثقة والاستعداد للاحتفال بكل مباهج الطريق.. دعاها مرة للغداء بمطعم يوناني وعندما وقف ليدفع ثمن ما تناولا أصرّت على أن تدفع نصف المبلغ وأصرّ هو على أن لا تدفع شيئا قائلا: "إنك ضيفتي وأنا صاحب الدعوة ولا تنسي أنني عربيّ.." واتفقا على أن تدعوه بدورها في مرّة لاحقة.. كانت تؤمن بالمشاركة وتقول " الحياة رحلة ولتكن مع الرفيق عذبة رقيقة" قاسمته غربته ووهبته وطنا وشمسا وقمرا وربيعا.. كانت وحيدة والديها وبعد أن قرّرا الارتباط وأعلمت والدتها قالت لها وهي تبدي بعض الخوف وتختبر مدى تمسّك ابنتها به: "علينا أن لا نحبّ الغرباء لأنهم على رحيل" قالت لها: " جميعنا على رحيل وهو لم يعد غريبا مذ أحببته" فطلبت مقابلته وأحسنت استقباله وأكرمته غاية الإكرام وقالت له قبل أن يغادر: " إني لا أشكّ في حسن اختيار ابنتي غير أني أرجوك أن تعاهدني بحق ما تؤمن به على أن تكون صادقا معها وفيا لها.." فقال لها: " إنّي أعاهدك سيّدتي" قالت: " أتمنّى لكما كل سعادة العالم" وحضنته بحرارة والدمع يكاد ينحدر من عينيها.. قضيّا شهرا وهما يتجوّلان بسيارتهما في منطقة الساحل اللازوردي ويحفران أكثر الذكريات خصوصية وحميمية وجمال.. قالت له ذات نزهة " كم يسعدني أن أصبح فأجد نفسي حاملا وأنجب ولدا يشبهك عزيزي" فقال لها: " مذ رأيتك أوّل مرّة قلت لنفسي: " يا إلاهي كم يكون جميلا لو يكون لي منها أبناء! " يا عزيزتي معك عمر واحد لايكفي.." بعد عودتهما إلى باريس ألحّت علية أن يتناولا الغداء بالمطعم اليوناني الذي احتضنهما أول مرة وقالت له وهما على وشك المغادرة وقبل أن يدفع الحساب: " هذه المرّة لن أنازعك في الدفع ويسعدني أن تفعل لأني أحمل في أحشائي ابننا الذي طالما أحببت أن أحمله..".

وعادا إلى البيت وهما بحالة من الفرح لا توصف.. في الشهر الرابع من حملها انتابتها أوجاع فظيعة في الرأس وذهبا إلى الطبيب المختص فطلب الكشوف والتحاليل وفي الأثناء تحوّلت نوبات الألم إلى غيبوبة وفقدان وعي وقد قرّر الطبيب بعد التشخيص الدّقيق أنّه ورم خبيث ولابدّ من التدخّل الجراحي في أقرب وقت على أمل محاصرته.. كانا مرّة عائدين من المستشفى ففتح مذياع السيارة فإذا صوت شارل أزنفور ينطلق:" حياة جميلة للبكاء!؟" نظر إليها فوجدها تنظر إليه وتبتسم رغم الألم الذي لم ينجح في إطفاء بريق عينيها الصافيتين الجميلتين.. أثناء العملية الجراحية توقّف قلبها مرتين.. في المرّة الأولى نجحوا في تنشيطه وفي المرة الثانية .............................

وبقيت كلماتها ملاذه وأنسه كلّما داهمته الوحشة..

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1201 الاحد 18/10/2009)

 

 

في نصوص اليوم