نصوص أدبية

الينابيع فعلت ذلك من قبل / علوان حسين

تلك هي المسألة، لحظة واحدة تفصل بين حياتين . أنا أصغر من دمعة وأكبر من حزن وأشقى من قصيدة مهملة بين الكلمات . وحيدا ً والسماء بين أصابعي أذروها كذكريات ٍ ميتة . وحيدا ً والحزن كالملح يذوب ويتبخر سدى . وحيدا ً والدمعة تظهر وتختفي ككلمة ٍ مكتومة ٍ تحت اللسان . يهبط الليل كحب ٍ مهمل ٍ، يهبط البحر من غيمة ٍ، تهبط بلاد ٌ من سماء ٍ ضائعة ٍ في ضباب، يجري نهر ٌ على حائط . تستيقظ الرغبات ذبيحة ً كالصراخ المكتوم في القلب . حالما ً أفكر بموت ٍ رقيق ٍ يهبط كخاطرة ٍ جرفها الحنين . أستنبت أزهارا ً في الوحدة، متأملا ً وجهي في مرآة ٍ غائمة . أرى حزني يتساقط مثل غبار، أرى العواطف تمشي أمامي وأود لو ألتقط لها صورا ً تـُظهرُها عارية ً كمعنى يبحث عن كلام . أحلامي ترتدي أيامي وأيامي تبدو مهلهلة ً كثياب الفقير . لست بالحالم إنما أنا أرتق الأحلام، أرفو ماتهرأ منها وأعيد غزله وكأنني أعيد نسجه من جديد كمن يعيد ترميم أجزاء متناثرة من زجاج ٍ مكسور .كل حلم ٍ يفضي الى آخر فالأيام عبارة عن أحلام ٍ تنتظر الإرواء فكلما خرجت من حلم ٍ منكسرا ً أعود لأتطهر بنار الأحلام .  سرت في شوارع خلتها فارغة تعّول ُ الريح ُ فيها . من بعيد تلوح شجرة وحيدة إنجذبت إليها بمغناطيسية عجيبة، كان ذلك في صباح ٍ ربيعي عذب كنت أتسكع وحيدا ً تحت الرذاذ الناعم، هجست بأن للبائسين غرف للضحك يدخلونها بسرية ٍ كما يدخل القديسون في أيقونة نائمة . حلمت بعصفور ٍ يقودني نحو سلالم النوم الى حديقة ٍ مكتظة ٍ بعشاق ٍ يقيمون كرنفالات لأعراس ٍ وهمية ٍ . أبصرت صبية ً بعيون قاتمة كوردة ٍ تطبق أكمامها في الليل . هل كنت أحلم حقا ً وأنا أستل إنكساري من عينيها وكأنني أنتشل غريقا ً من نهر ؟ لعل مزاجي المنحرف هو الذي صوّر لي تلك الصبية وكأنها زهرة توشك على الذبول، شيء ٌ ما إنفرط في داخلي بغتة حينما لمعت أغنية من مكان ٍ ما ربما ذاكرتي المشوشة هي التي تحت تأثير عيون الفتاة القاتمة أبرقت . كان وجهها الملائكي وردة من ثلج ٍ ابيض . أذكر أن الفتاة كانت قد إخترقت الشارع الذي خلته فارغا ً تـُشبه ُ كوكبا ً في ذروة عريه، ضعت في متاهة الجمال . سرت كالمسحور في شوارع مهجورة ٍ بأعماقي تنطبع صورتها تحرسني خشية أن أتداعى إذ كنت أذوب رقة ً . أعتق الحزن في قبو روحي، هل كنت أخترع امرأة ً من دمع ؟ جلست كتمثال يتأمل بصمت ٍ امرأة تشرق من الوحشة وهي تتجول كعاصفة ٍ بين الضلوع ريثما أحوك لها شالا ً من دموعي . كنت أمضغ رغباتي في كسل ٍ، لماذا بدت الحياة فارغة ً وأنا في عزلة ٍ أرفو أياما ً يتربص بها مصير غامض ؟ تململ الوحش الكامن في أعماقي، أنشب مخالبه الشفافة في روحي، شهقة واحدة وأموت . ببساطة ليس الموت شيئا ً محببا ً الى النفس، ومن قال بأنه قبيح دوما ً، لماذا إذن يموت الناس أفرادا ً وجماعات ؟ قد أكون في حديقة تحت سماء ٍ زرقاء أموت مبللا ً بالمطر، هكذا بشاعرية ٍ ودونما أبهة ٍ أو ألم . الأغبياء يحدقون في الموت وكأنهم يتأملون صفحة مياه نهر ٍ عكر ٍ . نحن مرتبطون بالموت بأسلاك ٍ جد رفيعة الصباحات التي تتفسخ والأحلام التي تغلق بابها بالمزلاج، الرغبات المتوهجة كالنحاس تصدر فحيحا ً قد تكشف نفسك مرميا ً كحصاة ٍ في شارع، لا تقل بإنك ولدت ذات يوم في شرفات المدينة، وليست لديك فكرة عن عن الأفكار سوى ما تفكر فيه الطرقات فلست آخر النبلاء المنقرضين في العالم لكنك الأرستقراطي الوحيد الذي يمشي في هذا الطريق المقفر دونما قبعة أو كلب . أنا ببساطة رجل ٌ ملوث بالأحلام، أحيانا ً تطاردني فأعدوا أمامها وهي تقودني بسوط ٍ صامت، أصرخ مشمئزا ً لست أدري منها أم من الحياة، غالبا ً ما أقوم بإختراع أحلاما ً ليست بالضرورة باهرة، أثرثر معها، أتورط بها، وحين أجوع آكلها لذلك فأنا أعيش في سلام ٍ مع العالم وحرب مع نفسي . هذا الجوع قادني فيما بعد الى أن آكل الكتب بدلا ً من النساء وأستلذ بها لكني وبعد آلام تفتك بي أرتدي الأيام أحذية من مطاط حيث الليل باب ٌ على براكين النعاس . إكتشفت بأن الأحلام ليست من مرايا كما يقال عادة ً، بل هي نهر ٌ أغتسل فيه ومن خلاله أمتلك العالم، أنا الذي خسر كل شيء، في الأحلام أجد نفسي عجينة ً من طين وأنا خزاف ٌ أصنعها كما أشتهي، أكون خالقا ً ومخلوقا ً في آن، كأن الأحلام قصائد وأنا شاعر ينشر قصائده المرهفة على الورق ثم يعيد تمزيقها بعد أن صُقلت بين يديه وتكورت في النار . الأحلام قناديل تضيء ليل الوحشة أدلف إليها كطفل ٍ وديع ٍ يرضع الحنان حينها يبدو الألم كقط ٍ محبوس ٍ يرشق النجوم بالحسرات . الألم أنا بيته الصغير، تحت الثياب الخشنة يندس، يشرب قهوتي في الصباح . في قلق ٍ باذخ ٍ أغادر أحلامي كما دخلت قانطا ً وفي قلبي يرقص الموت رقصته الجهنمية . قُيل َ أن من الحكمة أن لا تسير َ على حافة السيف، خاصة ً إذا كان نصفك َ قاتلا ً ونصفك الآخر قتيل فحينئذ تنشطر كما مرآة ٍ مكسورة ٍ، ذلك الكسر هو نثار الروح . انقذ رأسك من رتابة الأحلام، تسلق الهواء وحذار من السقوط، فللسقوط كثافة الحجر لست ملموسا ً نثار العواصف نصفك حجر ٌ ونصفك ماء، يلزمك أحيانا ً أن تذهب الى سوق الأفكار فتنتقي السمينة منها تذبحها قرابين للموت، خصوصا ً عندما يكون القمر بدرا ً أحمر َ قرمزيا ً، ستمضغ زهور الكآبة وأسنانك تصطك كضباع ٍ جائعة ٍ، لك أن تبكر قليلا ً حينما تذهب للموت، الحياة ليست نزهة على أية حال، تذكر في أي برج ٍ تموت، دوّن ذلك في مفكرتك الخاصة، تخثر الوقت وأنت مبهور ٌ بعزلتك المنصوبة كخيمة ٍ في منتصف طريق الأحلام . تبصر المدينة عنقودا ً من جبل ٍ محدودب ٍ يتكأ على غيمة ٍ . قبل الموت ينبغي أن تحتسي كأسا ً ولو من سم، قليل ٌ من الشراب يُنعش الروح لكنك في غرفة، تذّكر ذلك، جدرانها تسافر أشرعة فرت من الرتابة . النهارات إنكسرت . الألم بارد كفضيحة والقلب ملفوف ٌ بالجنفاص . الوطن هاجس ٌ في الكآبة . الأيام حاوية ٌ في النفايات . فتش عن قمر الطفولة . السماء تبتسم شاحبة كوجه الجلاد الملفوف بالصراخ . الأرض تنبت عوانس َ، الأرض المصلوبة بالصبر، رأيتها معلقة ً على بوابة الأمم المتحدة . أمي تتزوج بلا دموع ٍ ومراكب، يزفها البحارة فوق خرائط الملح . الخرافة التي تشفينا من الأمل سرقها الرعب المقدس . الموت أبيض كصلاة ٍ مغموسة ٍ بدم الملائكة . الغرفة تغمض جدرانها، تطليها بالعتمة ذلك شيء جميل . لماذا يظنني الآخرون تعسا ً الأنني كتبت حكاية ً من دمع، الينابيع فعلت ذلك من قبل؟

 

كاتب من العراق   

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2164 الاربعاء 27/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم