نصوص أدبية

الأقزام / عبد الفتاح ألمطلبي

كونفوشيوس


الولوج إلى العالم القزم

 رُغمَ ما اتخذتهُ من احتياطاتٍ وتغييراتٍ في مسالكِ طريقي إلى عملي لكنّ هاجساً يتحركُ كدودةٍ في دماغيَ المتعبِ يلحُّ على توقعِ أمرٍ طالما وجـِلتُ من احتمالِ حدوثهِ محاولاً ما استطعت الحيودَ عنه و إنقاذ َهذه النفس المولعة بالحياة ، وعندما أقنعتُ نفسي بعد طول تفكيرٍ أن ركوب الباص يحتمل أن يكون مصدراً لخوفي إذ من المتوقع أن يدسّ راكبٌ ما كيسا يحوي قنبلة أو يلصق عبوة ناسفة في المقعد الأخير من الباص لذلك فضّلت الذهاب سيرا إلى عملي فهذه أمورٌ باتت واقعية وليست من بنات الخيال ، وعندما أصل إلى جسر (الشعب)1 الصغير الذي بعبوره أبلغ بداية الشارع المؤدي إلى عملي أتنفس الصعداء لكنني وعند توقف السير بسبب الزحام أو تهور البعض أصابُ برهاب المفخخات فأحاولُ إشغالَ نفسي بالنظر إلى الشجيرات الصغيرة والكثيفة المحاطة بالأدغال لتبدو كغابة صغيرة تصلح لحكايات الأقزام على جانبي قناة الجيش وفكرت أن النمال التي تلجأ إليها ربما تراها غابة كثيفة من الأشجار ولو إن نملةً رفعت رأسها ربما تراني عملاقاً برأسٍ شاهقٍ إلى السماء البعيدة وأثناء حث دماغي على إبداع تلك التخيلات الصامتة حدث ما كنت أخشاه ، لقد تجاوزني صوتُ انفجارٍ وحملني العصف بدوامته اللولبية فتغيرت سحنة الوجود ووجدتني مع كثير من الناس في عالم الغابة التي اجترحها تخيلي حين كنت سائرا على جسر الشعب وقد اتسعت كثيرا ولم نكُن فيها إلا أقزاما يلوذون بأشجارها و أدغالها هروبا من رعب يحيط بالجميع وكنت لا أفقه شيئا مما جرى إذ إن كل ما كان قبل هذه اللحظة صار فيما وراء الحيث .

 وراءُ الحيث

كانوا يتحلقون حوله وكان الطبيب يتحدث لذويه بأسى بالغ عن دخوله في مرحلة موت سريري وغيبوبة تامة ، قال: إنه الآن في عالم آخر، لاوعي له بهذا العالم و في هذه الحالة يستمر الجسد بمواصلة وظائفه دون الوعي لينتقل نشاط دماغه إلى عالم اللاوعي لذا ترون كُرتيّ عينيه تدوران في محجريهما دورانا دائبا ، يرجح الرأي الطبي أن رؤىً و أفكارا ربما تدور هناك في دماغه وربما قصصا غريبة لا أحد يعرف ما يجري بغياب الوعي الذي تراجع تماما وأخلى الساحة للاوعي ولكي يبرهن الطبيب على ما قاله وإن الشعور والحس بالواقع منتفيان تماما عمد إلى (قرص) عضد الجسد المسجى أمامه ثم خدشه بالمشرط ووخزه به لكن لا استجابة فالرجل في عالم آخر.

  

 العالم الآخر

كان الناسُ جميعا يختفون داخل الغابة التي ولجتها على حين غرة خوفا من شيء ما ولأنني من الوافدين الجدد إلى غابتهم ولبقاء رغبتي الشديدة وولعي القديم بالحياة ولكي أفهم ما يجري كان علي أن أستوضح الأمر، قيل لي أنه ومنذ قرون كثيرة مضت كنا طوالاً كهذا الجالس جنب الغابة يتصيدنا وقت يشاء يخيفنا بيديه الطويلتين وهراوته الكبيرة، يقول الرجل والعهدة عليه إن البحر كان هنا قبل أن ينسحب مخلفا بحيرة( ساوه)2 وكان لنا قمر جميل يشع في سماء المدينة هبط يوما إلى البحر ليستحم ويبترد فابتلعه حوت البحر وأظلمت المدينة فوجلت لذلك القلوب وبُحّت الحناجر ودمعت العيون وتواصل النحيب واللطم على الصدور واجتمع أجدادنا على ساحل البحر يدقون الطبول ويضربون الدفوف ويرشقون البحر بالرماح والنبل منشدين بصوت واحد (يا حوت يا بالي خلّي قمرنا العالي) وطالما بقي قمر المدينة غائبا تبقى المدينة واقفةً على سوقها تنشد وترجم الحوت لا تلتفت لبيع ولا شراء ، لا تبني ولا تزرع ولا تصنع ، لا تشق طرق ولا تعلم أولادها حتى يظهر القمر المبلوع عند ذاك تهدأ الطبول وتتراخى أقواس النبال وهكذا نحنُ كلما يختفي القمر ننشد ذات النشيد ونلطم ذات اللطم وننوح ذات النواح ورحنا نبتدع أناشيدَ ومراسيمَ جديدة وكبرت الأحزان وتضاءلت الآمال وتجاوز الزمن وجودنا ولم نلاحظ ما كان يحصل لنا ونحن في فورة حزننا على قمرنا وحنقنا على الحوت العتيد فقد تفشى بيننا مرض الضمور و التقزم حتى صرنا كما ترانا ، وجيلا بعد جيل تحولت مدننا إلى مدن أقزام ، صارت تخيفنا النملة التي أصبحت مثل فيل ويرعبنا الضب الذي بدا لنا دينصورا فما كان لنا إلا أن نلجأ للغابات التي كانت في ما مضى أدغالا ندوسها بأقدامنا والآن تخفينا عن عيون عملاق الرعب الذي حاصرنا و أحاطنا من كل جانب ولم نكن نعرف ذلك حتى دهمتنا تلك القدم الهمجية الكبيرة وتلك الهراوة المعلقة على كتف الوحش العملاق الذي راح يدهسنا ويقتلنا بفظاعة دون أن تؤثر فيه سيوفنا المعقوفة التي لا تصل إلى ما تحت جلده السميك ولا أصوات طبولنا ودفوفنا ولما عجزنا عن مجاراته التحقنا كما ترى إلى الغابة نرثها جيلا بعد جيل والوحش العملاق يرثنا والغابة جيلا بعد آخر، جلس الوحش وأحاط الغابة بما فيها الذين هم نحن بساقيه الطويلتين يشرف علينا من فوق ومن كل الجهات وكلما أنشدنا طقوس قمرنا الغريق نسمع قرقرات بطنه الجائعة كيف لا وهي قرقرات بطن وحش عملاق شره ، ينتابنا هرج ومرج، نجتمع تحت أشجار الغابة ، نلقي خطبنا الخجولة همسا خوفا منه فقد أعد قدرا كبيرا خارج غابتنا وراح يجمع حطبا ويشعل نارا تحت القدر وصار الماء يغلي في قدره، كان يفلّي الغابة بحثا عنا يلتقط بعضنا ويسلقه ثم يأكله ويكوم عظامه جنب الغابة حتى صارت كومة العظام تلة كبيرة يراها الرائح والغادي وعندما تعب من حمل الحطب للقدر الذي يفور دائما أجبرنا على حمل حطب سلقنا على ظهورنا وأن نضعه بأيدينا تحت القدر ، أقنعنا ذلك العملاق المتوحش إن القدر هو مصيرنا وعلينا تقبل الأمر قال: إن أجدادكم سُلِقوا هنا فلا تكونوا عاقيّن وعليكم تقديس هذا القدر من أجل أرواح أجدادكم بدلا من الصراخ والعويل على حوت غادره البحر وها نحن كما ترى لم يتبق منا إلا القليل لقد تعلمنا كيف نفدي القدر بأرواحنا وارتاح العملاق المتوحش لأننا رحنا نسلق بعضنا ونضعه في فمه الكبير الذي لا يشبع طالباً المزيد وهو الآن حزين لأن أعدادنا تتناقص وها أنت قد أتيت في وقت يغض طرفه عنا ويشجعنا على التكاثر ليبدأ من جديد بيدَ أنه مازال يجبرنا على حمل الحطب من الغابة إلى تحت قدره الذي يفور نسمع أزيز جيشانه من بعيد ، ولما أكمل الرجل حديثه واستوعبت الأمر شعرت ببؤسٍ لا مثيلَ له و إن الحياة التي كنت أحرص على الاحتفاظ بها لم تعد في هذه الغابة التي صارت فيها النمال كالفيلة وديدان العشب كأفاعي الأناكوندا يمكن أن تبتلعك إحداها في أية لحظة يكون فيها الطالع مجافيا وحرونا وقررت الخروج من هذه الغابة مهما كلف الأمر مازال الوحش العملاق يغض الطرف قليلا وحال خروجي إلى الأرض الجرداء خارج الغابة تلقفتني ريحٌ قوية حملني إعصارها وقذف بي إلى حيث لا أعلم وفجأة سكن كل شيء وكأنني نزلت من علٍ كالهابط بمضلة من السماء عندها شعرت بانتظام نفسي وفتحت عينيّ ، كانت الأنابيب تتخلل ذراعي وخرطوم الأوكسجين يغطي نصف وجهي وسمعت أحدهم يقول ، معجزة حدثت بعودته إلى الوعي ، قليلا ما يحدثُ ذلك، تذكرت اللحظة حين تجاوزني صوت الانفجار وألقى بي العصف إلى الغابة حيث كان يختبئ الأقزام وعلمتُ أن كل ما رأيته محض ارتباكات اجترحها اللاوعي العميق مستغلا تعطل الوعي عن واجباته ليختلق كل تلك الهلاوسَ وعلى مقياس (إذا غاب القط العب يافار)

 

قصة قصيرة

 

........................

1-الشعب: حي من أحياء بغداد

2- بحيرة ساوه في جنوب العراق قرب السماوة

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2171 الاربعاء 04/ 07 / 2012)

في نصوص اليوم