نصوص أدبية

الرائحة

بل أكتشفها رهط من الذين يتمتعون بحب الاستطلاع، وروجت لها ثلة من محترفي ألحكي. فتلقفتها آذان أهل الفضول، لتفشي في هواء البلدة، وتذوب في مائها، وتندس في غذائها. وتشيع في أحاديث خاصة ألناس وعامتهم. مذيقة طعمها لكل كائن حي يتنفس أو يشرب أو يطعم..أحتار في معرفتها أكبر ألطاعنين في تشخيص الروائح، شيخ النبوءات الواردة من آفاق الغيب.العالم الذي أفتى فأشفى. حاصرناه بكنانات الدهشة. فاستسلم لرشق الأسئلة، وحلق بأجنحة الإلهام، ليلج سماوات المخيالية، قاطفاً نجيمات السكينة، ناثراً سلال الضوء على دجنة القلق السائد في رؤوسنا. داعياً حمامات الطمأنينة إلى أعشاش صدورنا، مهدهداً أسماعنا الملهوفة بتعريف مبتسر: (الرائحة هي نتاج رائحة) فابتدأنا سفر البحث على قبس التعريف غائرين في بؤر الروائح المكنونة في صدورنا منذ المصافحة الأولى بين رئاتنا وهواء بلدتنا الجنوبية المتلفعة بشال النخيل، الهازة مهد النهر، المحناة بالغرين.. فروائح بلدتنا هي خليط من شهيق النهر وزفير الطين وعطر البساتين. وقد تطغي رائحة على أخرى بتحريض من الأوقات والفصول.. فرائحة الصباح الفضي المحلقة على أجنحة الندى، هي وريثة رائحة الليل المقمر التي تنقش وشمها على وجه النهر، وهي التي تنجب رائحة الظهيرة التي تردينا في ميادين القيلولة.. ورائحة الغروب الذي يجس قلوبنا بأنامل الأسى. تستهل برائحة العصر التي تغوينا بأغراء النزهة . أما رائحة صيفنا المصهورة في بوتقة الشمس، فهي خلاصة الصهد، والغبار، وعرق الأجساد، وملحها . وهي بالتأكيد لا تشبه رائحة شتائنا المسفوح على مرايا المطر، التي هي ائتلاف بين روائح الصوف، والجلد، والدخان، والمستنقعات الكامنة في الدروب .. ولا علاقة لرائحة الربيع المتأنق الذي يتمرآى في أعيننا مختالاً فخوراً عارضاً أزياءه الخضر السندسية التي أبدعها المصمم الأوحد. برائحة الخريف العبثي الذي يتعرى غير عابيء بملابسه التي تكنسها الريح على أرصفة البلدة . وبديهي أن رائحة سوق العطارين في بلدتنا كما في بلدان الدنيا كافة، لا تشبه رائحة سوق السمك . ولا تشذ حواء بلدتنا عن أخواتها في بلاد الله. فرائحة الحضريات، المتبرجات، المتعطرات أللاتي يتمخطرن كالحمائم سافرات أمام أعين جوارح الرجال. لا يمكن أن تقارن برائحة المعديات، الكالحات، المتلفعات بالعباءات السود، القابعات في سوق البلدة يبعن اللبن.. وهل تستوي رائحة الذين يغتسلون يومياً ورائحة الذين لا يغتسلون إلا لماما.. هذه الروائح برغم اختلاف منشئها وأوقاتها، ومواسمها، هي رائحة بلدتنا التي ميزتها عن روائح البلدان الأخرى . وهي روائح طبيعية لا قرابة تربطها بتلك الرائحة الغريبة التي داهمت بخيلها قلاع البلدة .. رائحة تزكم الآذان قبل الأنوف، وتنساب في العقول قبل الصدور، وتتغلغل في مسامات الدواوين والمضايف والمقاهي، والأسواق. يروج لها الحكاؤن، متسيدة بضاعة الكلام بطعمها الذي احتار في تحديد كنهه الأذكياء، فتسولوه على أبواب الأغبياء. وتاه في تتبع أثرها القوافون، فخلوا الزمام بأيدي العميان. وتعب منها العقلاء فسلموا اللواء للمجانين.. ونحن العباد المستضعفون، تتناسل الأسئلة في رؤوسنا. ثم تجهض أو تلد خدج الأجوبة \ تختلف الأفكار \ تتعارض المصالح \ تتعدد الأسباب \ تحتدم النقاشات \ تتراشق الأ لسن باللعنات \ تبهرنا الشعارات \ تأملنا \ تصدمنا \ نغلي \ نثور \ نخمد \ تتمخض استنتاجاتنا، وسرعان ما تأد نتائجها في تراب تلك الرائحة التي ادعى أعيان بلدتنا أنها من ابتداع مخيلة الرعاع وهو ادعاء اثبت بطلانه افتقار السواد الأعظم منا للمسببات، بينما تبرأ منها رؤساء عشائرنا لأنهم لم يجدوا لها جذراً في أرومة العشائر، لكنهم رضخوا لعصف أصواتنا فاعلنواعن قيام جبهة بين رائحة الريف ورائحة المدينة.. مختار بلدتنا البدين بادر وهو يسترق السمع إلى وقع حوافر الفقاعات، وهي تقرع جدران معدته الممتلئة إلى تخفيض أجور ختم طلبات مكافحة الرائحة، التي نرفعها إلى ذوي ألأمر.. عرافنا العليم الذي يتكيء إلى نبوءات الأسلاف اجبره اعتصامنا أمام صومعته على إنهاء اعتكافه، فخرج علينا ممتطياً سحابة من البخور ليثملنا برائحة الحرمل الذي يحترق في أجفان صغيرة حطت في اكف اتباعه، ويطلق طيور تعاويذه فوق رؤوسنا ليعشي بضباب سحره أعيننا المترعة بالتساؤل، ويطالبنا بالا لتزام المطلق بتعاويذ الأسلاف إذا كنا حقاً نروم التخلص من الرائحة التي تكاد تنز من لعابه الذي يستخدمه في ترطيب سبابته وإبهامه وهو يقلب أوراق كتابه الصفر باحثاً عن نبوءات جديدة ينثر بردها على نيران الغضب المتأججة في صدورنا..إمام الجامع المستنير بهالة القداسة . ارعد وأزبد ماطراً الكلمات المنقوعة بماء الورد، ليحثنا على إيفاء النذور، وغسل روائح خطايانا بالدموع. وبعد فذلكة تاريخية، نبش فيها أول رائحة للخطيئة فاحت قبل خلق الأرض، عرج على محاولة مجرم البشرية الأول التخلص من رائحة أول جريمة برائحة التراب . وقبل أن يقيم الصلاة، أنهى خطبة أول جمعة مرت على محاصرة الرائحة لأسوار الجامع بالتأكيد ثلاثاً وبأعلى مدىً لحنجرته أن لا رائحة أقوى من رائحة الأيمان.. حكيم بلدتنا المسن الذي دشن عقده الثامن بزوجة ثامنة، سقى عشب لحيته بالمسك، وخاطب المحتفين بزواجه : ( ابحثوا عن بؤرة الرائحة واردموها بروائحكم . ) مديرية زراعة البلدة حصلت على دعم أصحاب المشاتل الذين خرجوا بمظاهرة فواحة بالعطر تأييداً لمشروع المليون زهرة الذي أعلنته، إضافة إلى تخصيصها جوائز قيمة لأصحاب الحدائق الذين تثبت أجهزة شم الروائح المستوردة حديثاً أن حدائقهم تفوح بالروائح الزكية وبشهادة خبراء الروائح المرافقين للأجهزة والذين سيغادرون بعد تدريب المتطوعين منا على كيفية استخدام تلك الأجهزة المتطورة .. كما أعلنت مديرية بلدية البلدة وعلى لسان مديرها الجديد عن فتح باب التطوع لكل مخلص يود المشاركة في حملات تنظيف البلدة، ونصبت أراجيح اللافتات بين أعمدة مصابيح الإنارة المفقأة، وهي تجهر بالشعارات التي تحث على مكافحة الرائحة مثل (أكتم فقاعتك حرصاً على نقاء هواء البلدة) بينما استحدثت مديرية الشرطة قسماً للكلاب الأجنبية المتخصصة بشم الروائح وأحاطت دائرة مكافحة الرائحة التي أسست لأول مرة في البلدة عملها بالسرية التامة محافظة على استقلاليتها، وعدم تبعيتها إلى مديرية البيئة..العشابون، والعطارون، وبائعو العطور، دعوا إلى دعم جمعيتهم التي أسسوها باسم جمعية مناهضة الرائحة، واحرقوا في مؤتمرهم التأسيسي آلافاً من عيدان البخور المستورد.. السياسيون المخضرمون الذين يبدلون جلودهم باستمرار، غلفوا حنظل الحاضر بعسل المستقبل وقدموا لنا أطباق الخطب الشهية على سماط الوعود. فصار منظر اللافتات و الاتهامات المكتوبة على الحيطان مألوفاً في بلدتنا المبتلاة بالرائحة.. المجانين الذين يشكلون نسبة لا يستهان بها في البلدة . أولئك الذين فقدوا رائحة عقولهم في زمن مندحر، استقبلوا الرائحة باللامبالاة.. وبينما انشغل الدراويش المحلقين بأجنحة الأبخرة بتنافس الأسعار في سوق التعاويذ، انتفخت أوداج فرسان الأكاذيب، وبرزوا للرائحة، برائحة صدأ السيوف وهم ينفثون رائحة أهازيج بليت عظام مرتجزيها منذ قرون خلت .. وحدهم مدمنو أكل الثوم والبصل وشاربو الخمرة الرديئة، هللوا لأسراب رخاخ الرائحة المحلقة في سماء بلدتنا، وسعدوا بانشغالنا بذروقها الذي يغذي طفيليات اليأس المتناسلة في رؤوس بعضنا .حتى جاء ذلك اليوم الذي صدمنا فيه بمظاهرة أطفالنا الذين نسيناهم في دوامة الخوض في مستنقع الرائحة.. فوجئنا بهم يملأ ون أفق البلدة برائحة الطفولة، ورأيناهم كالأزهار يترعون الدروب تفوح منهم رائحة البراءة التي غادرتنا في سن الثامنة عشر..كانوا يتقدمون باتجاهنا وهم يطلقون فراشات البسمات الشفافة الملونة.. خذلتنا تكشيرة وجوهنا، فانسحبنا أمامهم مخذولين، صعدنا إلى الأرصفة وتركنا لهم قارعة الطريق بعدما صلبت عجيزاتنا على تخوت المقاهي، ها نحن نستمع إلى زقزقة هتافاتهم المدعومة بزغاريد ألأمهات المدليات رؤوسهن من شرفات السطوح .. كانت أصواتهم الرفيعة سقيلة كقواصل السيوف، قطعت أعناق الأبواق، ومزقت وجوه الطبول.. غمرتنا مياه المسرة، ونحن نرى أطفالنا، وهم يقودون مسيرة التطهير، حاملين مشاعلهم الصغيرة مبشرين ومنذرين بإضرام النار.. ولأن حافة اليأس هي عتبة الخلاص فقد سجرت التنانير في ألأكواخ، والصرائف والبيوت المتهالكة وأوقدنا الكوانين في المضايف، والدواوين، وأججنا النار في مواقد القصور الفارهة، فأختنق هواء البلدة برائحة شواء الملابس الرثة، والأثاث العتيق، والأشجار اليابسة، والحيوانات النافقة، والمتردية والنطيحة، وظلت نافورات النار تغسل وجه البلدة حتى شاب شعر الليل. ولم يسلم أي مشكوك برائحته من لحس ألسنة ألهب .. وما أن بان الخيطان، حتى أكتمل نمو جبل الرماد الذي ولد في ليل الحرائق ذاك .. عندها سمعنا نحن ثلة الناجين المتجردين من متاع الدنيا نداء الخلاص يدعونا من أعلا المنارات: (أصعدوا فوق جبل الرماد، تساموا وانتظروا بشارة السماء) فصعدنا وتسامينا، وها نحن ننتظر فوق رمادنا أن تفتح أبواب السماء بماء منهمر، ليطهرنا من الروائح كافة، ألا من رائحة السماء.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2178 الاربعاء 11/ 07 / 2012)

في نصوص اليوم