نصوص أدبية

هزارات الصباح

وكان الأب.. تنفيذا لرجاء مشروع :رأى أن  يخفي الهاتف مفتوحا،   حال أن يتصل الأولاد، لكي يتحسسوا: انهم متواجدون هنا ويتداولون مسراتهم .

 استيقظ الأب عند الغبش، والأم قبل هذا تتململ في مثواها .

 كان الأب دائما، يغريه أن يتطيب صباحا، بانبعاث ألحان، هادئة جدا، كأنها تهمس بإذنه. لكي تتداعى على قلبه مشاعر غامرة، والأم تعود إلى تململها،متحاملة   على ركبتيها، وتهبط السرير لتوهج الموقد، تحرك الأواني بهدأة، ملقية بتطلعها، لما يجري خلف النافذة، بإنصا ت منشد  تنتقي ما يهدهد مشاعرها بما هو منثال من    المذياع. كان : يحاك على سدي صباحها : لحمة من الحانة، وما يتهادى من زقزقة الطيور0كأنها تلتذ بأحلامها في عتمة الغبش، أصوات بالكاد تتناهى على مسامعها  يعطي الأب زخما أكثر للمذياع، فتختلط لديها هسهسة أوراق الأيكة، وأضغاث أحلام لثلاثة هزارات . والالحان الصباحية ماضية تبعث اصداءها : كأنها  . وتسمع خطوات الأب تتنقل.. وتسبيحة يرددها بوضوح. لم تزل الأم عازفة عن الكلام . متنقلة.. بين وهن التداعي لماء الصنبور، وهسيس النار، التي لعقت أناملها غفلة، وانشداد القلب.. لاختلاجات هامسة.

 اقترب الأب من الهاتف وتطلع بانتباه : إلى ذلك الموحي لحالة الإجهاد.. الذي أثقل نقلات قدمي الأم، فبعث في نفسها : أن تردد كلماتها المقتضبة، بين حين وحين . ثرثرة خفيفة مع نفسها واستذكارا، ودعاء بالعافية . وصباحا كله أمان لمن يشغلوا القلب0 انهمرت مياه الصنبور، متساقطة في إناء.. كان قد نضح من جوانبه، بددت الأم قسما منه، والبقية سكبته في إبريق استقر فوق وهج المشعل . ثم.. بعد لأي... انبعثت من فوهته أبخرة تفتل .. يتعالى صفيرها : مثل نداء بعيد.

 كانت راغبة : أن تجتر ما جال في بالها ليلاً مع الأب . فأرهفت انتباهها. الوقت مبكر، والأب ينتقل بمؤشر المذياع، عبر العديد من الإذاعات، كأنه بانتظار أمر على غاية من الجسامه .فيتوقف عند الأخبار، ويجنح على الأغاني ليتأنى مسحة وقت . ويخفف من خدر الصباح . بينما أنشدت الأم، بكاملها إلى قرع التلفون. هيأت نفسها باستمرار، أن تهرع إليه . غير إن الأب ضللها : أن يكون ثمة ما يستدعي مشاعرها أن تطفئ جذوة شوقها.

الساعة السادسة من يوم آذاري،حينما استجاب الأب : أن يدع الهاتف مفتوحا، بمنأى عن انتباه الأم،التي هربت بنفسها خارجا، متطلعة إلى ما اعتادت عليه من نداء : لثلاثة هزارات، دأبت أن (تشتل بالها )، كي تتحكم بدقة التمييز، بين النبرات واحدة واحدة .زقت لهم الأم قي وكرها - آنذاك - حتى زغبوا، ثم اكتمل ريشهم وحلّقوا .فتساءلت عبر جوارحها :

ــ (ما الذي بؤرقهن؟ أهو الجوع ؟أهو البرد؟).

 لم يركبها ميل إلى غسل لواعجها، فهزرت الثلاثة .. بما يفاجئها بين حين وحين، عند استلقائها على الأريكة، من وجهة، يصعب عليها : أن ترصدهن من ملاذهن، بين غصون الأيكة .

 يقتربن بألحانهن جداً، وينشدن دون انقطاع على التوالي، وهي دائبة في استرخائها. وفي حوزتها (البوم) مصوّر، يرافقها في أماسيها وصباحاتها. تتصفح محتوياته، وتتبحر في استدارة الوجوه، وتنشغل بالأماكن، وتردد ترنيمة طفل.. كما لوكان غافيا على صدرها. يهمها أن تقترب أكثر بحثا عن تفاصيل دقيقة جدا على إبعاد الصور، ومفردات ما تحتويه.كأنها قد حفظت كل ما ألمت به من مؤطرات الرسوم فلاحت لها أزمنتها بوضوح. ربما كانت هناك أبعاد زمنية متفاوتة. أزمنة بعيدة وغير قريبة جدا.

: أي زمان اقرب إلى قلبها ؟ ذلك البعيد ؟ أو ذلك الذي تعرف جيدا مقتربات ؟ الحالات تتداخل. فللزمن والمكان حضور مؤثر. ولكن. تلك المشاهد العزيزة في هذه الحديقة وفي البيت، تعرف  ماكان يحدث، من صوت مألوف، أونادرة، أو قهقهة، وتعرف تلك البذلة، وتلك الحذاء، التي طالما دأبت على تلميعها . والملابس التي كوتها والكتب .... أما.... مالم تعرفه فهو غريب وموجع. وإنها تحس برائحة وألوان الأشياء القريبة، أما النائية ؟؟؟

 من أين لها أن تعرف ؟ أي مألوف يكمن خلف هذا الجدار النائي  الأصم، المتكئين عليه ؟ تلك السيارة الغريبة، الشاخصة بانتظارهم ؟ كأنها تمهلهم وقتا مشروطا. كأنها تضم الأحبة إلى قلبها الحديدي البارد.

 والطريق الغامضة، أهي أمينة أم مقلقة؟

هذا وغيره يشغلها بما يحدث لها عند قـــــرعا ت الهاتف ؟ تجري أوقات اتصاله: لو أحست شاغليه ... لأستلب هدوء قلبها كله .

 وفي غفلة قاسية من درايتها.. ذات ثمن باهظ لكي ينقل الهاتف، عبر زمن غير يسير ومكلف عبر ذلك البعد: تفاصيل مما يحدث داخل البيت. إنما.. لكي يشبعوا إحساسهم الملتاع: ليكتمل لديهم كونهم على بعد خطوات، كما لو كانوا ثاوين.. في إحدى غرف البيت، ويختلسون التفاصيل اليومية لحياة الأحبة، عبر اللاقطة التي ينفرط اقترابهم عنها . زمن استدار عقده واكتملت حلقته بالتمام. صوت الأم الشاكية من صداع الرأس الذي أزمن. حركة الأواني وصخبها على حوض الغسيل. ملعقة الشاي وهي تعزف رتابتها المتباطئة في قعر القدح.ماسورة الماء .. التقط الهاتف كل هذا بلاقطة حساسة جدا، لكي تشنّف المسامع لثلاثتهم هناك بوهم التواجد. أشياء مستعدون أن يقايضوها للعودة بأملاك الدنيا.

 كان يجري كل ذلك .. والهزارات اللائذة، تشغل بال الأم تماما وتذكرها بالتياعها. كم تقترب من نافذة الانتظار؟ حتى تستطيع أن تحلم .. بوضع أناملها التي انكوت بهسيس الموقد، وتمسح بهن على رؤوس هزارات : حلقن ونذرن أنفسهن ... لشوق قصي،كان هسيسه ملوعا،شغلن فؤادها بترنيمة صافية، مثل أديم السماء ونقاء قطرات الصنبور، التي طالما .... أرهفت سمعها على تلك الرتابة الموحية.

 كانت الأم تمر حذو الهاتف المشغول، المتسقط بكل جوارحه، لكل شاردة وواردة، والذي توارى بقصد، وهي تردد مقطعا شعريا ينضح بلواعجها.

 ثلاث هزارات .... أذاب الحنين سويداء قلوبهن. كامنات عمدا في عتمة ملاذهن . ابتغين أن يكون غناؤهن أكثر عذوبة وصفاء، في صباح لم تختلط فيه الأصوات بعد، ويبعثن بحكاياتهن، والتي مهما بلغت من صدق المشاعر هي على حال ... تثقل من وطأة أوجاع القلب، وتجعله مستلب البال.

 وقفت تنصت باستدارتها، وجهة الأيكة علها تسمع واضعة يديها تحت رهال ثدييها، كأنها تعينهما ليعطيا متسعا لأضلاعها، والذي يتواصل وجيف قلبها تحتهما من الإرهاق. كأنها تعلمهن كيف أثقل عليها قسوة الوجد، من نوم هيمن على هدأته وجع الرأس من فراق كان ينبغي أن يختم ويتحول إلى ذكرى لوعت فؤادها كثيراً . رفع الأب لاقطة الهاتف ... واستمع مبتسما ومنغمرا في حوار، ثم كان الوقت قد ابتلع زمنا غير قصير.وتعاقبت : ثلاث نبرات يودعن الأب بالتعاقب. ثم حل دور الأم، فاستدعاها الأب مشجعا، لكي يخفف من وطأة المفاجأة: لنداء استلبت زبدته عنوة مما افتقدوه ولطالما تحرقت هي إليه. وقبل أن تخطو متعثرة كان أخر ما التقطه الهاتف ضجيجا من ارتطام الأواني الخزفية، وهي تنـزلق من بين اصابعها.

 

18/8/2..1

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2181 السبت 14/ 07 / 2012)


في نصوص اليوم