نصوص أدبية

سكيتزو فرينك

تبدوان جاحظتينِ من وراءِ النظارةِ السميكةِ وإطارِها الأسودِ الغليظ، ثُمَّ يدوِّنُ في مفكَّرَةٍ صغيرةٍ ما يخطُّهُ قلمُهُ بعصبِيَّة. لم يكن أحدٌ ليعبأ بهِ فكلٌّ كانَ منشغلاً بمَن معهُ والموسيقى تملأ الجوَّ بينَ ضجيجِ المتكلمِّينَ وأصواتِ الكؤوسِ وهي تنقرُ بعضَها بحبور. عادَ وجلسَ على أحدِ مقعدين حولَ مائدةٍ مستديرةٍ صغيرةٍ في ركنٍ لم يسلَّط عليهِ أكثرَ مِن ضوءٍ خافِتٍ ينبعثُ من ذبالةِ شمعةٍ في زجاجةٍ متعدِّدَةِ الألوانِ وشعاعً ينبعثُ مِنها ليتَّسِعَ حينَ يصطدِمُ بجبهتِهِ العريضةِ فيظهِرُها أكثرَ اتساعاً مِن حقيقتِها.

كانَ ينظرُ إلى رسغِهِ بينَ الحينِ والحينِ وكأنَّهُ ينظرُ للوقتِ في ساعةٍ يدويَّةِ غير منظورةٍ ثُمَّ ينظرُ إلى البابِ كما لو كانَ يترقَّبُ حضورَ أحدٍ أو وقوعَ حدَثٍ ما.

 

تقدَّمَ النادِلُ واقتربَ مِنهُ حتى وقفَ قِبالتَه:

ــ هل لي أن أقدِّمَ لكَ خِدمةً يا سيِّدي؟

قالَ النادلُ ووقفَ في انتظارِ ردٍّ مِنهُ وهو يرسمُ على وجهِهِ ابتسامةً يفرضُها "أتيكيت" الوظيفة.

 

مرَّت فترةُ صمتٍ قبلَ أن يرفعَ الزبونُ الملتفُ بمعطفِهِ الأسودِ الثقيلِ رأسَهُ وينظرُ للنادِلِ بفزَعٍ وكأنَّ وجودَهُ قد فاجأهُ، فأعادَ النادِلُ السؤال:

 

ــ مساءُ الخيرِ يا سيِّدي ، قلتُ هل لي أن أقدِّمَ خِدمةً لك؟

 

ردَّ الرجلُ الغريبُ بصوتٍ متردِّدٍ وهو يهرشُ رأسَه الذي يكلِّله شعرٌ أسودٌ كثيفٌ يبدو وكأنَّه لم يذُق طعمَ الماءِ منذ الأزل:

 

ــ وهل يبدو من هيأتِي أنَّني بحاجَةٍ إلى خدماتِك؟

 

ردَّ النادلُ بلهجَةِ الاعتذار:

ــ كلاّ يا سيِّدي ، ما كان قصدي... أعني هل لي أن أجلبَ لكَ شراباً حتى تكونَ مستعِدّاً لطلبِ العشاء؟ أم أنَّكَ تفضِّلُ الانتظارَ بعضَ الوقت؟

 

نظرَ الرجُلُ إلى معصمِهِ كأنَّهُ يتأكَّدُ من الوقتِ ثُمَّ قلَّبَ كفِّهِ وراحَ ينظرُ في راحةِ يدِهِ وهي نِصفَ مبسوطةٍ كمَّن يخشى من الآخرينَ اختلاسَ النظَرِ إلى ما في راحتِه ، وقطَّبَ جبينَه، ثُمَّ نظرَ إلى وجهِ النادِلِ وأعادَ النظرَ إلى راحةِ يدهِ ثُمَّ قلَبَ كفَّهُ وراحَ ينظرُ إلى ظاهِرِ كفِّهِ، ثُمَّ بسطَ كفَّهُ الأخرى وراحَ ينقلُ نظره بينِ الكفّينِ ويتمتِمُ بكلماتٍ غيرَ مفهومةٍ ، ثُمَّ نظرَ إلى وجهِ النادِلِ وانفجر ضاحكاً!

 

نظرَ النادِلُ إليهِ بأدبٍ مشوبٍ بالدهشةِ قائلاً:

 

ــ سأعودُ بعدَ لحظاتٍ لألبِّي طلبَك يا سيِّدي!

 

ثُمَّ انسحبَ بهدوء.

 

المكانُ مازالَ يعجُّ بالزبائنِ والنادِلُ يتنقَّلُ بينهم يلبِّي طلباتِهم ولا أحدَ يعيرُ اهتماما لهذا الرجُلِ الغريبِ الذي يجلسُ وحيداً في الركنِ شبهِ المظلمِ تارةً يتمتِمُ وتارةً يدوِّنُ في مفكَّرَتِهِ بتفكُّرٍ تتخلَّلَهُ بعضُ الحركاتِ العصبيَّةِ ، والموسيقى لا تتوقَّفُ واللغوُ مستمِرٌّ مع بعضِ الضحِكات.

 

نهضَ الرجلُ الغريبُ مِن مقعدِهِ ودسِّ يدَهُ في جيبِهِ وراحَ يحرِّكُها وكأنَّهُ يبحثُ عن شيءٍ فيه، ثُمَّ جثا وراحَ يزحفُ على ركبتيهَ تحتَ الطاولةِ كأنَّهُ يبحثُ عن شيءٍ سقطَ منهُ ثُمَّ نهضَ وعلى وجهِهِ ابتسامة عريضة وبين يديهِ قِطّة سياميَّةٌ بجسدٍ طويلٍ هزيلٍ تكاد عظامُهُ تطلُّ من تحت الجلدِ المكسوِّ بشعرٍ لامعٍ بلونِ بنّي فاتح ٍ يميلُ إلى الذهبيّ وأذنين بلونٍ بنيٍّ يميلُ للسوادِ بوجهٍ مثلثٍ وحنكٍ مدبَّبٍ يبدو وكأنَّهُ وجهُ العجوزِ الساحرةِ التي تركبُ مكنستَها في أفلامِ الكارتون. ولكنَّهُ أمسكَ بها وراحَ يمسِّدُ على رأسِها ويمرِّرُ يده على ظهرِها بحنانٍ وهي مستكينةٌ لهُ. وضعَ القِطّة على الكرسيِّ المقابِلِ لهُ فاختفت تحتَ الغطاءِ الذي تدلَّت أطرافُهُ من الطاولةِ بزيادةٍ بعض الشيء، ثُمَّ عادَ إلى كرسيهِ والارتياحُ بادٍياً على وجهِهِ.

 

عادَ النادِلُ يكرِّرُ سؤاله واستعدادَه لخدمةِ الضيفِ الذي نظرَ لهُ ثُمَّ دسَّ رأسه تحت الطاولةِ غيرَ عابئٍ بنظراتِ النادلِ الاستفهاميَة؛ وبعدَ لحظاتٍ أخرجَ رأسَهُ مِن وراءِ الغطاءِ ورفَعَهُ فأدلى للنادِلِ بطلباتِه.

 

انسحَبَ النادِلُ بهدوءٍ ومضى لتلبيَةِ الطلبِ في حين جلسَ الرجُلُ محدِّقاً في الفراغِ. بعدَ حينٍ نهضَ مِن مكانِهِ ورفَعَ قبَّعَتَهُ السوداءَ التي كانت ملقاةً على الطاولةِ أمامَهُ ووضعَها فوقَ رأسِهِ وبدا كأنَّهُ يهمُّ بمغادرةِ المكانِ إلاَ أنَّهُ اتَّجهَ نحوَ النافِذةِ القريبةِ وراحَ يحدِّقُ في الزجاجِ وقد بدت عليهِ بعضُ قطراتٍ من المطرِ الذي بدأ بالنزولِ وراحَ يتابِعُ بإصبعِهِ حبةً من حبّاتِ المطرِ المنحدِرَةِ على الزجاجِ ثُمَّ يعودُ ويرفعُ إصبعَهُ ليتابِعَ حبَّة أخرى. بعدَ حينٍ عاد للجلوسِ على كرسِيه ثُمَّ خلعَ قبَّعتَهُ السوداءَ ووضَعَها على الطاولةِ أمامَه وأسندَ رأسَه على كفّيهِ بعد أن دسَّ أصابِعَهُ في فروةِ رأسِهِ المتشعِّثةِ ومرفقيهِ مسندانِ على الطاولة ، ثُمَّ راحَ يهرشُ رأسَهُ وكأنَّهُ مستغرِقٌ في تفكيرٍ عميق. بعدَ حينٍ رفعَ رأسَهُ ونظرَ بريبةٍ إلى يمينِه ثُمَّ إلى شمالِهِ ودسَّ رأسَهُ تحتَ الطاولةِ حتى اختفى رأسُهُ تحتَ غطائها وبعد حينٍ عادَ إلى جلستِه الطبيعيَّةِ ثُمَّ تلفَّتَ يميناً وشمالاً قبل أن يركِّزَ نظرَهُ على قبَّعتِهِ الملقاةِ على الطاولةِ وقد تقلَّصَت عضلاتُ وجهِهِ حتى غارَت عيناه، ثُمَّ بحذرٍ شديدٍ وتوجُّسٍ راحَ يرفعُ طرَفَ القبَّعةِ ويحاوِلُ اختلاسَ النظرِ تحتَها وكأنَّهُ يخشى أن يقفِزَ من تحتِها عفريتٌ ولكنَّهُ أعادَها بسرعةٍ إلى وضعِها السابق. ومرَّة أخرى وبحذرٍ كذلكَ رفعَ طَرَفَ القبَّعةِ ثُمَّ قلبَها بسرعةٍ وراحَ يتفحَّصُ المساحةَ حولَها، وبعدَ لحظاتٍ أخذَ نفساً عميقاً وانفرجَت أساريرُهُ ثُمَّ رفعَ القبَّعة ووضعَها فوقَ رأسِهِ وجلسَ بهدوءٍ مسنِداً ظهرَه على كرسِيه.

 

كنتُ أتابِعُ حركاته من مكانِي القريبِ منهُ وإن انشغلتُ عنه تسلَّيتُ بمتابعةِ حركاتِ ضوءِ الشمعةِ المتراقِصِ تحتَ أنفاسي وهي تتوسَّط المائِدةَ المعدَّةَ لاثنين، فقد وصلتُ قبلَ صديقِي وقد تواعَدنا على اللقاءِ في هذا المطعمِ الصغيرِ الذي اعتدنا اللقاءَ فيه مساءَ كلَّ جمعةٍ بعد يوم ٍطويلٍ من العمل. تأخَّرَ صديقي غيرَ أنِّي لم افتقِد غيابَه كثيراً بوجودِ هذا الزائرِ الغريب ِالذي لم تسبق لي مشاهدتُهُ هنا من قبل. جاءَ النادِلُ الذي اعتادَ وجودي هنا في نهايةِ كلِّ أسبوع ٍتقريباً، سألني إن كنتُ أرغبُ في فنجانِ قهوةٍ آخرَ وقد لاحظَ أنّي قد نسيتُ قهوتي حتى بردت، أجبتُ بالإيجابِ وعدتُ لمراقبةِ هذا الغريب، وفجأة رفعَ رأسَهُ ومن الطرفِ الآخر من الصالةِ اخترقت وجودي نظرةٌ صوَّبها إليَّ من عينٍ تعرَّت عن نظّارتِها السميكةِ فلمَعت كعينِ صقرٍ يلمحُ قنصاً ويستعِدُّ للانقضاضِ عليهِ ؛ جفلتُ لوَهلةٍ كسارِقٍ ضُبِطَ متلبساً بجريمتِهِ، وأحسستُ بقلبي يهبطُ حتى تخيَّلتُ أنّي أسمعُ رنينَه وهو يسقطُ للقاع، ولكنّي تذكَّرتُ ما تعلَّمتُه عن سلوكِ الكلاب؛ الكلبُ يشمُّ فيكَ رائحةَ الخوفِ فيهجمُ عليكَ؛ غضضتُ نظري وتشاغلتُ عن نظرتِهِ بتجفيفِ قطراتِ الماء التي تكثفت على جدارِ كأسِ الماءِ المثلجِ أمامي ثُمَّ رفعتها وارتشفت منها بضعَ رشفاتٍ ووضعتُها أمامي متجاهِلةً النظراتِ التي تكادُ تخترقُ صدري وتتحسَّسُ أضلعي ضِلعاً ضِلعاَ. وإمعاناً منّي في إخفاءِ مظاهرَ خوفي منهُ ركَّزتُ نظري على حافَّةِ كأسي هرباً من نظراتِهِ ورحتُ أمرِّرُ إصبعي بحركةٍ دائريَّةٍ على حافَّةِ الكأسِ حتى سمعتُها تئن؛ يا ألله كم قمتُ بهذه الحركة من قبل في محاولة لجعل كأسي تغنِّي ولم أفلح ، وفي هذا اليوم نجحت محاولتي! أنصَتُّ لصوتِ الكأس وخيِّلَ إليَّ أنها تقول ( سايكو... سايكو.. سايكو!) ؛ انتبهتُ لوجودِ النادِلِ الذي جاءَ بقهوتي فتنفَّستُ الصعداءَ لأنَّه جاءَ لي بما يقطعُ عليَّ مللَ الانتظارِ والقلقَ الذي زرعتهُ النظرةُ المركَّزةُ من هذا الغريبِ وخوفِي من أن يشمَّ فيَّ الخوفَ منه.

 

 

جاءَ النادِلُ للغريبِ بما طلبَهُ من الطعام؛ وضعهُ على المائدةِ وسألَ الغريبَ إن كانَ يطلبُ شيئا آخر، وحين لم يأتِه الجوابُ انسحبَ بهدوء. راحَ الغريبُ يتابِعُ الأبخرةَ المتصاعِدةَ من الطعامِ ثُمَّ يمدُّ يدَهُ وكأنَّهُ يقاطِعُ تصاعُدَها، وبينَ الحينِ والحينِ يدسُّ رأسَه تحت الطاولة ثُمَّ يعودُ إلى جلستِه. وبعدَ حينٍ أمسكَ بالسكِّينِ والشوكةِ بأناقةٍ متناهِيةٍ وراحَ يقطِّعُ قِطعةَ "الستيك" إلى قِطعٍ صغيرةٍ وبدا وكأنَّهُ ينحتُ قطعةً فنيَّةً بأزميلٍ ماهِرٍ وكنتُ اختلسُ النظرَ إليهِ وهو مشغولٌ عنّي بما كانَ ينحتُهُ في صحنِهِ، وأخيراً وضعَ السكّينَ والشوكةَ جانِباً بهدوءٍ و راحَ يرمِي قِطعَ اللحمِ تحتَ المائدةِ ويبدو أنّه كانَ سعيداً بما يقومُ بهِ حتى أفرغَ ما في صحنِه ولم يتناول منهُ شيئاَ.

 

ترى ما الذي شدَّني إليهِ والمكانُ يعجُّ بالحضورِ وبالأشكالِ الغريبةِ ولا أحدَ يحدِّقُ بأحد ، وما كانَ مِن عادَتي أن أراقبَ من يجلِسُ على الموائِدِ القريبةِ، ولكنِّي لا أذكُرُ أنني جلستُ لوحدي أنتظر كلَّ هذا الوقت. .. وتذكَّرتُ صديقي الذي تأخَّرَ على غيرِ عادتِهِ فخطَرَ لي أن أكلِّمَهُ وأستطلِعَ الخبرَ، وجاءَني الردُّ: "الطرفُ الآخر لا يردُّ.. يرجى الاتصال فيما بعد!" في ذاتِ الوقتِ رفعَ الغريبُ تلفونَه النقّال ونظرَ فيه ثُمَّ أغلقهُ ودسَّهُ في جيبِه. لو كان صديقي معي هل كنتُ سأنتبهُ لهذا الغريب أم كنتُ سأنشغلُ معه بالحديثِ عن أمورِنا الصغيرةِ وبالثناءِ على نكهةِ الطعام ِ والشرابِ وبالحديث عن حياتِنا التي كنا نقترِبُ من التخطيطِ لعقد رباطِنا "المقدّس" فيها والتي يرغبُ صديقي أن نؤسِّس لها في أرضٍ أختارها هو لتلائم حياتَهُ وتطلعاته وكنتُ على وشكِ أن أطاوعُهُ في ذلك رغم تعلّقي ببيئتي التي أحبُّها.

 

مرَّ أكثرُ من ساعةٍ في انتظاري لصديقي وقد آنَ الأوانُ لي أن أفقدَ الأملَ في مجيئِه؛ جلستُ في انتظارِ أن يمرًّ النادِلُ قربي كي أطلبَ منهُ قائمةَ الحسابِ حينَ نهضَ الغريبُ ووضعَ قبَّعَتَهُ فوقَ رأسِهِ ثُمَّ أخرجِ كومةَ نقودٍ من جيبِه وضعَها على الطاولةِ وفي طريقهِ إلى الباب توقَّفَ عندَ طاولَتي، صوَّبَّ نظرَتَهُ الحادَّةَ مباشرةً في عينِي وهمَسَ وهو يحدِّق في عينِي:

 

ــ "لن يأتي!"

 

وقبلَ أن يهمَّ بالمغادرَةِ أخرجَ شيئاً من جيبِهِ ووضعَهُ على الطاولةِ أمامي ومضى مخلِّفاً إيّايَ في ذهولي... كان صوتُه دافئاً رخيماً، بل عذباً، لا يشبهُ بشيءٍ نظرَتَهُ الحادَّة أو الصوتَ الذي ردَّ بهِ على النادِل. وحين نفضتُ عنِّي ذهولي رفعتُ ما تركَهُ لي وكانت قلادةً بسلسلة بدت وكأنَّها قطعةً فضيَّةٌ أثريَّةٌ. .. ظننُتها أولَّ وهلةٍ ساعةَ جيبٍ قديمةً وحينَ فتحتُها وجدتُها تحتوي على صورتينِ قديمتينِ حوّلَ الزمن سوادهما إلى بنِّي، على جانِبٍ منها صورةٌ لشابٍّ وسيمٍ بلباسٍ عسكريٍّ يشبهُ لباسَ الجنودِ في الحربِ العالمِيَّةِ الثانية، وعلى الجانِبِ الآخر صورة لامرأةٍ شابّةٍ تحتضِنُ طفلاً في سِنيِّ عمرِهِ الأولى. ذُهِلتُ للشبهِ بيني وبينَ صاحِبةِ الصورة. هل في هذا الشبهِ يكمنُ سرُّ تحديقِهِ فيَّ بتلكَ النظرةِ الثاقِبة؟ ألهذا قرَّرَ إعطائِي هذهِ القِلادة؟ ومن تكونُ هذهِ المرأة؟ وما علاقتُها بي؟ وما علاقتُها بهِ؟ ترى هل سيعودُ في الغدِ لاسترجاع ِقلادَتِهِ، فلابدَّ وأنهَّا عزيزةٌ لديهِ؟ وماذا يعني هذا الذي حُفِرَ بخطٍّ أنيقٍ على القلادةِ "سكيتزو فرينك"؟ تساؤلاتٌ عديدةٌ لا حصرَ لها تزاحَمت في رأسِي تلحُّ عليَّ للحاقِ بهِ وإعادةِ القلادةِ لهُ ولكنِّي تردَّدتُ، وقلتُ في نفسِي مبرِّرةً رغبتي الخفيَّةَ للاحتفاظِ بها، هو يعلمُ أين ترك َقلادَتهُ فإن أرادَ استرجاعَها ما عليهِ إلا أن يعودَ إلى حيثُ تركَها وسوفَ نلتقِي لا محالة.

دفعتُ حِسابي بعدَ أن فقدتُ الأملَ تماماً في مجيءِ صديقي حينَ وصلتني رسالةٌ خطيَّةٌ منهُ على التلفونِ النقّال تقول:

"اضطُرِرتُ للسفرِ المفاجِئِ إلى خارجِ القطرِ وسأتَّصِلُ بكِ عندَ عودَتي ، ولا أدري كم ستطولُ سفرتِي.. كونِي بخير!"

 

غريبٌ أنَّه لم يكلِّف نفسَه عناءَ مكالَمَتي؛ فما هذا الأمرُ العاجلُ الذي لم يُتِح لهُ حتى فرصةَ مكالمَتي! هل عليَّ أن أقلقَ؟ أم أنتظرَ الغد وفي الغدِ تشرِق الشمسُ على كلِّ السؤالاتِ بالوضوح؟

 

وضعتُ القلادة َحولَ عنقِي وأحسست برهبةٍ غريبةٍ وسلسلتها تمسُّ عنقِي ببرودَتِها وكأنَّ يدَ الغريب ِقد امتدّت لتعانقني؛ طمأنتُ نفسي وهدَّأتُ من روعِي بصوتِ العقل، و سرتُ في طريقِي إلى موقِفِ الحافِلةِ القريبِ وقد حانَ موعِدُ وصولِ التي سأستقلُّها إلى بيتي. وما أن سرتُ خطواتٍ حتى شعرتُ بلمسَةٍ رقيقَةٍ على كاحِلي فظننتُ أن حِزامَ معطَفِي الذي دسَستُهُ في جيبِي قد تدلّى منهُ، وحينَ ألقيت نظرةً لأستطلاع الأمرِ وجدتُ القِطّة الهزيلةَ تتمسَّحُ بي؛ تلفتُّ يمينا وشمالاً ونظرتُ خلفي ظناً مِنَّي أنَّ الرجلَ الغريبَ يتبعُها ولكني لم أجد له أثراً... وفجأة، وبحركةٍ رشيقةٍ ما توقعتُها مِن قِطّة هزيلةٍ كهذه، قفزت القِطّة إلى كتفي وراحت تدعكُ عنقَها بعنقي. .. مسَّدتُ على رأسها وبرفقٍ أنزلتُها ثُمَّ مضيتُ في طريقي وجلستُ على المسطبةِ القريبةِ في انتظارِ الحافِلةِ التي تقلُّني إلى بيتي، إلا أن القِطّةَ الهزيلةَ تبعتني وقفزت مرّةً أخرى لتستقِرَّ في حضنِي مستكينةً ليَدي التي تلقَّتها بلمسةٍ حانية وكأنَّ لمسةَ صاحبِها قد تلبَّسَت يَدِي! وانتظرتُ أن يأتي صاحبُها ليأخذُها فيبدو أنَّ تخُّلصِي مِنها لم يكن ممكِناً، وطالَ انتظاري حتى أنِّي تركتُ الحافلةَ تمضي دونَ أن أستقلَّها ، وجاءَت الحافلةُ التي بعدَها وما كانَ بوسعِي أن أدعَها تمضِي هي الأخرى فهذِهِ هي الأخيرةُ على هذا الخطّ،، ولم يأتِ صاحِبُها. وضعتُ القِطّةَ على المسطبةِ وهمَمتُ بركوبِ الحافلةِ إلا أنَّها قفزت قبلِي إليهِ ووقفت تنظرُ إليَّ ممّا دفَعَ قائدها لأن يصرخَ بي بفظاظَةٍ: "سيِّدتي، خُذِي قطَّتَكِ وغادِري الحافِلةَ فلا يسمحُ للركّابِ اصطحابِ الحيواناتِ معهم" ، وكم استفَزّتني كلمة الحيوانات، فما كنتُ أفكّر بهذا المخلوقِ الأليفِ على أنَّه حيوان!

 

حملتُ قَطَّتي ونزلتُ؛ وهكذا غَدَت قِطَّتِي منذُ اللحظة وقد فقدتُ الأمل في عودةِ صاحِبِها. قيلَ أنَّنا لا يمكنُ لنا أن نختارَ المخلوقَ الأليفَ ليكونَ رفيقنا، بل هو الذي يختارُنا، وقد وقع اختيارُ هذه القِطّةِ عليَّ، ورغمَ أنَّ حياتِي لا تتّسعُ حاليّاً للقطَّةِ، إلا أنَّها لم تترك لي الخيارَ وقد صوَّبَت لقلبي نظرةَ توسّلٍ من عينينِ تحملانِ زرقة البحرِ في يومٍ مشمسٍ. حملتُها على صدرِي و زرَّرتُ معطَفي حولَها ورميت ُبطرفِ الشالِ حولَها وسرتُ بِها إلى بيتِي الذي يبعدُ بِضع محطّاتٍ أخرى. كنت أخشى السيرَ وحدِي في هذا الطريقِ ليلا وخاصة في الجزء الذي يمر بالمقبرةِ الكبيرة بأضوائه الخافتةِ وسكونِه في مثلِ هذا الوقتِ المتأخر من المساء.

 

كان المطرُ قد توقَّفَ إلا أنَّ ريحاً هبّت وكأنَّ عاصفةً في طريقِها إلينا. ابتعدتُ عن أضواءِ المدينةِ وأعمدة الضوء في هذا الشارِعِ تومِض بأنوارٍ ضئيلةٍ فتبدو الظلالُ على الرصيفِ وكأنها أشباحُ موتى خرجت للتوِّ مِن قبورِها ؛ بدأت الريحُ تزدادُ في سرعتِها دافعةً أمامَها ما يسهلُ عليها دحرجَتُه على الإسفلتِ والرصيفِ في كلِّ الاتِّجاهات. تحرَّكت القِطّةُ حركةً مفاجِئةً وكأنَّ شيئا ما قد أفزعَها، قفزت بعدَها وراحَت تلاحِقُ شيئاً أسودَ ظننتُهُ بادئَ ألأمر حيواناً صغيراً ولكنَّ القِطّةَ عادت بعد حينٍ وهي تمسِك بين فكَّيها على قبَّعةٍ سوداءَ شبيهةً بقبَّعةِ الرجُلِ الغريبِ في المطعم. تلفتُّ وقشعريرةٌ تلمُّ ببَدَنِي... أتُراهُ يتبعُني؟ تسمرتُ في مكانِي والقِطّةُ تستجديني لأخذِ القبَّعةِ منها وهي تهزُّ ذيلَها وكأنَّها قد أتت لي بصيدٍ ثُمَّينٍ. أخذتُ القبَّعة منها فقفزت إلى كتفِي وأعدتُها إلى وضعِها داخلَ مِعطَفِي.

 

فجأةً تعالت أصواتُ صفاراتِ عرباتِ شرطةٍ بدا لي وكأنَّها تقترِبُ منِّي ، تلفتُ حولِي ولم أرَ أثراً لأيِّ عرَبة أو أيةِ حركةٍ لأيِّ كائِنٍ سِوى الريحِ وما تدفعُ به أمامَها... وكما بدأت فجأةَ سكنت فجأةً صفاراتُ الشرطةِ وكأنَّها قد وجدَت ضالَّتَها. من الضجيجِ الذي أحدثتهُ الصفّاراتُ خمّنتُ أنَّ حادثةً كبيرةً قد حدثت أو أنَّهم يتابِعون مجرِماً فارَّاُ مِن وجهِ العدالةِ، وتساءلتُ: أيكونُ الرجُلُ الغريبُ هو ضالَّتَهم؟ وضعتُ القبَّعةَ على رأسِي وتحسَّستُ القلادةَ التي تركَها لي ومضيتُ أحتضِنُ قِطَّتِي على أملِ أن أسمعَ في الصباحِ خبرَ الحادِثِ وقد يكونُ فيه بعضُ الأجوبةِ لفكِّ لُغزِ الرجُلِ الغريب.

 

في الصباحِ بحثتُ في الصحُفِ المحليَّةِ وبحثتُ في الإنترنيت واستمعتُ إلى كلِّ نشراتِ الأخبارِ المحليَّةِ ولم أجدَ شيئاً فيها عن الرجُلِ الغريبِ ولا عن الحادِثِ الذي سبَّبَ حركةَ عرباتِ الشرطةِ.

 

مازلت أتتبَّعُ الأخبارَ صباحَ كلِّ يومٍ، وفي مساءِ كلِّ جمعةٍ أذهبُ إلى المطعمِ ذاكَ تتبعُني قِطَّتِي؛ صديقِي الذي أخذَ نفسَهُ بعيداً عنِّي لم يتَّصِل بي ولم أعُد أحفَلُ بالتفكيرِ بهِ وبأسبابِ غيابِه فلا جدوى في التفكيرِ فيما لا يدَ لي فيهِ ولا حيلةَ لي في تغييرِه، فحكمتِي التي أضعُها نصبَ عيني والتي كُتبِتَ على رقعةٍ في مدخَلِ بيتي تقول:

 

ربّي أعطني العزمَ على تغييرِ ما في وسعي تغييرُه...

والصبرَ على ما لا طاقة لي لتغييره...

والحكمة للتمييزِ بينَ هذا وذاك!

 

كما لم أعُد احفلُ بمرافقةِ زملائِي في سهراتِهم أو مجالستِهم حين نلتقي مصادَفةً في المطعم، فقد جعلتُ مِن الطاولةِ المستديرةِ بمقعدينِ في الزاوِيةِ المظلِمَةِ مَكانيَ المفضَّلَ وقِطَّتي تجلسُ في مكانِها المعتادِ تحتَ الطاولةِ لتناوُلِ عشائها المفضَّل... وأنا كعادَتِي أرتشفُ القهوةَ باللبَنِ وكأسُ الماءِ المثلَّجِ أمامي أديرُ إصبَعيِ على حافَّتِها بين الحينِ والحينِ في محاولاتٍ يائسةٍ لحملِها على الغناءِ كما فعلت يومَ التقيتُ بالرجُلِ الغريبِ، وقبَّعَتي السوداءُ مقلوبةً على الطاولةِ ، أرفعُ حافَّتَها بحذرٍ بين الحينِ والحينِ ولا أدري ما الذي ابحثُ عنهُ تحتَها ولكنّي آملُ أن أعثرَ عليه يوماً ما! وفي الأيّامِ الممطِرةِ أزاولُ متعةَ تتبُّع قطراتِ المطرِ وهي تأخذُ طريقَها في النزولِ على زجاجِ النافِذةِ وأضواءِ العرباتِ المارَّةِ تتخلَّلُها فتظهِرُها كحباتِ لؤلؤِ كريستاليَّة. لم يعُد النادِلُ يسألُنِي عمّا أرغَبُ في طلَبِهِ وإنَّما يأتِي لي بالمعتادِ ويبادِلُني الصمتَ بعدَ تحيَّةٍ بإيماءةٍ لا ينتظِرُ ردَّاً عليها، ويبتسِم حينَ أطيلُ النظرَ في راحَةِ يدي، وأقلِّبُها، وسيجارَتي تدخِّنُ نفسَها حتى تنطفِئ!. ولا تظهر الدهشةَ على وجهِهِ عندما يأتي بطلباتِي دونَ أن أسأل حين أدسُّ برأسِي تحتَ الطاولةِ أو أتمتِمُ بكلماتٍ غيرَ مفهومة.  لم تعُد الأضواءُ المتراقِصةُ في الطريقِ المظلِمِ تثيرُ الوحشةَ في نفسِي ولم تعُد الريحُ تخيفُني بصفيرِها حين تهبُّ وتطيرُ قبَّعَتِي معها فقد أصبحَت الرياضةَ المفضَّلةَ لقِطَّتي ومبعثَ السرورِ لها حينَ تأتي بِها إليَّ وهي تهزُّ ذيلَها زهواً.

 

لم يعطني أحدٌ تفسيراً لكلمتّي "سكيتزو" و "فرينك" ولكنّي كلَّما حدَّقتُ في القلادةِ وما فيها وما خُطَّ عليها وجدتُ نفسِي!

 

أ. د. إنعام الهاشمي (حرير و ذهب)

الولايات المتحدة

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2182 الاحد 15/ 07 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم