نصوص أدبية

ثمـةَ خطأ – ثمةَ أمل / عبد الفتاح ألمطلبي

ولأننا نحنُ الصغارُ لا نفرقُ بين أشياءٍ كثيرةٍ تـَعرِضُ لنا ونمرّ عليها دون مبالاة إذ كانت كل اهتماماتنا تدورُحول العصافير والقطط وقصص الليل التي تأخذنا معها للنوم ، نظنُ دائما أنه يتغافل عن الصغار فلطالما تحدثت عنه أمي كما تتحدث عن كبار ومبجلين أو عن عمالقةٍ وجبارين لا يُقهرون ، قلتُ ظننا أنه لا يعبأ بنا تماما مثل ما يفعل الكبار حين نغيظهم فيتجاهلوننا بعد لحظات، يومها لم أكن مشمولا بسوط تلك الهيبة إلا ما أراه من لسعتهِا لظهور الكبار بين فترةٍ و أخرى حين يدفنون موتاهم ، وحين جاء دور أبي كانت زيارته له سريعة وحاسمة ، لم يطل الأمر حتى رحل معه على عجل ، أذكرُ أنني سألت أمي عن ذلك فقالت باقتضاب لقد دعاه إليه من لا يستطيع رفض دعوته وهكذا عشتُ طوال عمري أتمنى أن لا أكبر لكي لا يلاحظني فيدعوني وبتّ سجين فكرة زورته لي وتفحصه ما يجري حولي وربما متابعة ما أتبجح بادعائه أمام التلاميذ في المدرسة وأقراني في الزقاق الذي كنا نرتاده بعد قيلولة القيظ لننفق هناك طاقاتنا الفائضة ولنختلق تلك الإدعاءات الكبيرة التي كنا نظن أنها لا تنتشر بعيدا عن آذاننا الصغيرة ، أذكرُ أن أمي قالت وهي تحذرني من الكذب أن هناك دائما من ينقل الحقيقة ويفضح الكذب ، كثيرون منهم ملائكة ومنهم شياطين يسيرون خلفنا وأمامنا يروننا ولا نراهم، يالهول ذلك ينقلون كذباتنا الصغيرة إليه بصمت لذلك توقفت تماما عن ادعاءاتي ومغامراتي الوهمية لأنني فهمت أنها لو كثرت ستعجل بقدومه و لأن أولئك الذين هم أمامنا وخلفنا يروننا ولا نراهم هم من سيوصل لهُ أكاذيبنا ليغيظه ذلك ويعجل بالقدوم وأذكرُ أنها قالتْ إنهم جنودهُ وهكذا كنت أخالسهُ النظر طوال تلك الأوقات مرة قالت أيضا أن جنوده كرجال الأمن يوصلون إليه ما لم يروا ، كيف يأخذ سعدون الرضيع وهو لم يكذب بعد و راحت السنون تغذ السير نحو مساراتها وشغلتنا أنفسنا حتى إنني نسيتهُ وظننت أنه قد نسيني لكنني وجدت رائحتهُ ذات يوم تشيطُ في أنفي وتُهيئه لي تماما كما هيأته لي أمي التي اختفت مثلما اختفى أبي قبلها بكثير ، قيل أنها شوهدت آخر مرة برفقته ، شعرتُ به ، كان قريبا جدا، وتوقعت أن يكشف لي عن وجهه، لكنه لم يشأ أن يفعل ، أستطيع وصف حضورَهُ في تلك اللحظة ، كان كثير الشبه بيوم ثقيل وطويل ينفث ذلك الطعم الحريف على الحياة ، شعرت بخطره كما أفعى مختفية في الفراش تشعرُ بخطرها ولا تراها ويصلكَ صوتُ فحيحها فتصطك أسنانك وتتلجلج روحك كأنها قد ألقيت في ثقبٍ ضيقٍ بعيد الغور يضجّ بتلك الأفاعي .

الأمرُ بدأ عندما ذهبت للطبيب بعد إلحاحٍ ولجاجةٍ من الألم الذي أشعر به كحربةٍ نابتة بين أضلاعي من جهة لوح الكتف الأيسر حتى الضلع الخامس من قفص الصدر ، منغصا علي تلك اللذةِ التي أستشعرها كلما امتصصت عقب لفافة التبغ ، يومها قال الطبيب ، أنت في ورطة حقيقية، عند ذاك تذكرته رغم كل محاولاتي لتناسيه أو غلق أذني روحي عن هاجس زيارته التي لا بد أن يفاجئني بها يوما ولكنني لم أكن لأتوقع تلك المفاجأة التي قالها الطبيب بصراحة كاملة بعد ما رآني مكللا بالشيب و ركوده واستسلامه، قال لم يبق لك الكثير ولا أرى فائدة بنصحك بالإقلاع عن التدخين ولا أنصحك بمشرط الجراح فإن ما تلف لا يمكن ترميمه ، قالها وكأنه يزف لي خبر فوزي بجائزةٍ ظاناً أنني ربما كنت قد شبعتُ من الحياة ، هنا قلتُ له جادا ماذا تعني ، هل أذهب لسريري و أنتظره حتى يأتي ، أترى أيها السيد الطبيب إن ذلك يصح في استقبال زائرٍ مهيبٍ كنت أتحسب لزورته طوال حياتي ، تحول الطبيب وهو يستمع لكلماتي إلى ما يشبه فكرة بعيدة ولم يحر جوابا ولكنه قال بعد فترة صمت أظن أن الزمن نسبي ، هناك طرق عديدة لجعله أطول مما نظن أو نجعله أقصر مما نظن ذلك يرجع للرغبة والمهارة في الحياة ، في تلك الليلة لم أنم ولم أدخن لفافة التبغ ولا شربتُ كوبَ قهوتي السوداء وكان ذلك ملفتا ، كنت أرى النوم يدور حولي ككلب مخلص محاولا لحس جفني عيني بود فنمت دون أن أستعد لذلك وكأنني أواصل يقظتي من داخلي منفصلا عن جسدي الواهنِ وبلا مقدمات كنت في اللحظة الفاصلة تلك اللحظة التي تكون فيها ما بين الفكرة ولمسها قد انتبهتُ إلى إنني في ذيل طابور طويل أمسك بيدي ملفا كارتونيا لا لون له ولا أتذكر شيئا من انطباعاتي حول المكان ولا ما يلفت في سحنات الواقفين معي في الطابور وكأنهم كلهم أنا أو إنني كنت نسخا مكررة كل نسخةٍ تمسك ملفها بيدها و الطابور يسير بلطف ويتطايرُ الواقفون أمامي واحدا إثر واحد كصفحات كتاب ولما وصلت إلى النافذة شعرت أنني كورقة أخيرة من كتاب، حين وصلتُ تفرسَ في وجهي وجهٌ لا ملامح له كأنه محاط بضباب قيل لي بطريقةٍ ما أن خطأ قد حدث وإنك لا يجب أن تكون هنا في هذا الوقت لم تجهز أمورك بعد ،عليك الرجوع من حيث أتيت اذهب وعد بعد سنةٍ من الآن في تلك اللحظة شعرتُ كأن ضوءاً باهرا قد خطف بصري فتململت وفتحت عيني ، كان أحدهم قد أضاء نور الغرفة، فركت عيني ثم جلستُ على سريري متربعا وأنا أردد مع نفسي بعد سنة من الآن .. أزالَ ما رأيته في المنام ذلك التأثير الذي تركه الطبيب على نفسي فقد أعلن موتي في أية لحظةٍ أما هذا الذي لا وجه له في منامي فقد منحني وقتاً ،جلستُ نشيطا وقررت أن لا أفكر بالموضوع على الأقل للأشهر الستةِ القادمة ، رحتُ أعيش حياتي كما كانت قبل زيارة الطبيب ووجدتُ نفسي في الواقع منحازا لما رأيته في النوم أكثر مما أخبرني به الطبيب ، أظن أن شيئا ما في داخلي يريد ذلك، أفكر بما يمكن فعله وانجازه من الأمور المؤجلة التي تراخيت عن تنفيذها بسبب ذلك الهاجس القديم فكرتُ أن سنةً كاملةً تكفي للملمة أموري واستعدادي لزيارة القادم الذي أنتظره وهكذا راحت حياتي تسير كما عهدتها متجنبا كل الأمور التي تذكرني به مضت تسعة أشهر ولم أكن أتذكر موعد الطابور ولا نبوءة الطبيب بوصفي رجلاً واقعياً لولا تلك الخفقات القلبية التي شعرت بها و أنا في أوج ارتكابي لحياتي بكل جدية عند ذلك فقط تذكرت الموعد فأعدت حساباتي وتبين أن خمسة عشر يوما فقط تفصلني عن الموعد الذي بُلّغت به في نافذة الطابور،فكرت أن أذهب للطبيب لكنني تذكرت كلامه الجلي عن عدم جدوى أي شيء لذلك رحت أستعد لزيارة ذلك الذي كنت أخالسه النظر طوال عمري دون كلل اترقبُ مجيئه بعد إن خمّنتُ أنه هو الذي أبلغني بموعده في النافذة قبل سنة تنقصها خمسة عشر يوما ،وهكذا أول ما خطر ببالي أن أتخلص من كل ما يتعلق بي، وهبتُ كل ما أقتني وهي أشياء قليلة إلى عامل سيارة القـُمامَةِ ولم أبُقِِ غير زوج أحذية لا يوجد له مثيل في بلدتي إذ إنه مصنوع من جلد تمساح استوائي ومدبوغ بطريقة حديثة ومصبوغ باللون الأحمر الداكن كأنه لون دم متخثر وعلى جانبيه من جهة الخارج رسم أنيق للحرف الأول من اسمي ورغم جمال الحرف لكنني لم أكن أعتبره ميزة تعبر عني شخصيا إذ أن هذا الحرف تبتدئ به نصف أسماء الذكور وربع أسماء الإناث في بلدي هذا الحذاء هو كل ما يذكرني بزهو الحياة ، لا أحتذيه إلا في المناسبات النادرة وكنت قد اقتنيته على هذا الأساس ، كان اليوم الأخير من الخمسة عشر يوما ثقيلا جدا لكنني كنت متهيئا ًتماما ، ولمدة ساعتين من العاشرة حتى الثانية عشرة كنت أراقب نبض قلبي الذي بدا طبيعيا غير أنني لاحظتُ ازديادا طفيفا بمعدل تنفسي ،تجاوزت الساعة الواحدة ليلاً شعرت بفرح سري يغمرني إذ لم يأتِ زائري الثقيل ولم تتحقق نبوءة الطبيب وربما أخطأ الذي أخبرني بالموعد في نافذة الطابور عند ذاك تمتمتُ مع نفسي بصوت غير مسموع قائلاً هناك ثمة خطأ ،الكل يخطيء حتى هو ، بزغ أملٌ و راح يراودني ربما كان الطبيبُ مخطئا في تشخيصه الأول صار الأملٌ يصرخ ولم لا الطبيبُ يُخطئ أيضا أعجبتني هذه الفاصلة من مونولوجي المستمر ، احتذيتُ حذائي الأحمر الفريد قاصدا المشفى لرؤية الطبيب ليس لغرض الإستطباب ولكن للشماتة به ، كان حذاءً ملفتاً حقا طالما كان جاري يشير لإعجابه به من طرف خفي لكنني أتجاهل ملاحظاته وتلميحاته وفي باب المشفى كانت هناك جمهرة من الناس قد أحاطت بشيء ما وشكلت دائرة من الأكتاف المتراصة ، حملني الفضول على إلقاء نظرة فدسستُ رأسي بين الرؤوس نظرت إلى ما ينظرون إليه، كتمت صرخةً كادت تخرج لولا تمالكي لنفسي في آخر لحظةٍ إذ كنت أنا الرجل الميت المسجى في وسطهم ، تفرستُ في سحنته متعجباً كانَ نسخة مني تماما وكتمت صرخة أخرى كدتُ أصرخها حين رأيته يحتذي الحذاء الفريد ذاته مطبوع على جهتيه من الخارج الحرف ذاته ويا للعجب له ذات شيبي وصلعتي ، تذكرت الطابور الذي كان أمامي يقف بالدور أمام نافذة الحلم ، كانوا جميعا يشبهونني كأنهم نسخا مني ربما كان هذا واحدا منهم ، خفت أن يكتشف الواقفون هذا التشابه العجيب فأقع في منطقة تأويلاتهم وربما تقبض على الشرطة بتهمة انتحال شخصية ميّت فتراجعت إلى الخلف ، ثم عدت أدراجي إلى البيت ، سارعتُ بنزع حذاء جلد التمساح الفريد مسحته من التراب ووضعته بعلبة أنيقة وتخليت عنه لجاري بسرور، استرقتُ نظرة لوجه جاري فعجزتُ عن تحديد ملامحه كان يشبه رجال الطابور ، استدرت راجعا إلى البيت فكان جميع من في الشارع بلا ملامح واضحةٍ تماماً كما بدا لي رجل النافذة في الحلم ، فأسرعتُ للولوج إلى البيت مغلقا الأبواب خلفي وشرعتُ بإسدال الستائرإلا واحدة كانت تطل على نباتات كنت قد زرعتها منذ زمن بعيد وقد تفتحت زهورها الجميلة الآن ...

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2191 الثلاثاء 24/ 07 / 2012)

في نصوص اليوم