نصوص أدبية

إن عُرفت حلب .. بطُل العجب / ليث العبدويس

بِصاريٍ مُحطّمٍ وشِراعٍ مُمزّق وَعَنبرٍ مُكتَظٍ بِرسائِلِ حُبٍ خَشيتُ عليها عَسَفَ المُحيطِ وَقسوةَ الأمواجِ وَمِزاجاتِ شاعِريتي المُتقلّبة فَلم أودِعها حَبسَ القَناني وَلَم ارمِ بِها في لُجّةِ اليَم الأعمى.

 

جِئتُ مُنفَلِتاً مِن رَبَقةِ الكَمّاشة التي التقى فَكّاها متواطِئينَ على حِصار اجمَلِ شَهيدَةٍ مؤجَلةَ الشَهادةِ في مَكانٍ ما أسفَلَ كُلّ عارٍ للتاريخٍ عرفناه، وليسَ مِنْ شيءٍ خلفي سوى هَسيسُ النارِ وَجلجَلَةَ السلاسِلِ تَرسِفُ في اقدامِ العَبيدِ المُسخَرينَ وصُراخِ خِنزيرٍ ذَبيحٍ وَقيءُ السَكارى وأغاني المُرتَزَقة الداعِرة ُيَرتَجُّ بِها أُسطولُ القراصِنةِ وَهو مُنهَمِكٌ في إحكامِ طوقَهُ الأخير حولً جَزيرَتَكِ المُشمِسة.

 

جِئتُ وَقَد غادَرَكِ الجَميعُ تارِكينَ إيّاكِ وَحيدَةً كَفنارَكِ المُضيء يَتيماً عِندَ مرفَأكِ الكَئيب، ابصَرتُهُم يُسرِعونَ في رَزمِ حَقائِبِهِم، في استحصال تأشيراتِ سَفَرِهِم، وَلِفَرطِ استعجالِهِم غَفِلوا جميعاً أنْ يَصطَحِبوا مَعَهم كرامَتَهُم!! ماذا لو اندَلَقتْ مُحتوياتُ حقيبةِ أحدِهِم عِندَ بوّابات الوُصولِ ليكتَشِفَ أنّه نَسي كَرامَتَهُ في النَزل الرَخيصِ الذي كانَ يُسمّى – مَجازاً - وَطَناً؟ ارتَطمتُ بأكتافهم عِند بواباتِ المُغادرة وَهالَني شُحوبٌ انكَرتُهُ في ملامِحِهِم المُتشابِهة، لَقَد تَبضعوا قِناعَ ذُعرٍ واحِد، بَدوا تَماماً كالخِرافِ الفارّةِ من جَزّارِها، أينَ المَهرَبُ وقد تَشابَهتِ المُدُنُ والمَسالخُ والسَفّاحينَ والضَحايا والصَمتُ والخياناتُ الحَقيرة؟

 

لو تَعلَمينَ كَم تَغمُرُني السَعادَةُ وانا استقطِعُ من جَحيمِ الحَربِ بُرهَةً قَد تَطولُ لِتغدوَ هُدنة، أو تَقصُرَ لِتُمسي لَعنة، أو تَضيعَ بين رأي هَذه البِعثة وقرارِ تِلكَ اللِجنة، بُرهَةً قَدْ يُحالِفُني فيها الحَظُّ فأحظى بِتأمُلٍ خاطِفٍ لِقوسِ الألوان المُنسَكِبِ مِن تِلك العُيونِ الغارِقَةِ في الجَمال الفُستُقيّ.

 

سَعيدٌ بَل أتقافَزُ فَرَحاً مُذ عانَقتُ رَملَ شاطِئِكِ اللؤلؤيّ الدافئ، بِرغمِ يَقيني المَنزوعِ الأملِ أني اتلفْتُ نَفسيَ وأهلكتُ عُمُريَ وانّي مَصروعُ في نِهاية المطاف، وأني ألقيتُ مَرساتي عِند شواطئِ فاجِعتي وموتيَ، وَسوفَ لَن يكونَ إخلائيَ الأخير سوى إلى قبري، إن قامَ لي بين القُبورِ شاهِد وَدليل، ولكن لا بأس، لستُ خائِفاً من هذا المَصيرِ الحالِك، فلستُ أوّلَ مُتَيّمٍ يَصرَعُهُ العِشقُ وَيغتالُهُ الوَلَهُ، ولستِ يا أميرَتي أول مَدينَةٍ يعتَوِرُها لُعابُ الضِباعِ الجرباء.

 

اخترتُ مُشارَكَتَكِ تَجرِبَةَ الأنطِفاء البَطيء في الحِصار الذي يُكَبّلونَ بِه أنفاسَكِ الحَرّى المُتلاحِقة، فيما اختارَ غيري التَمَدُّدَ على أرائِكِهمُ والتثاؤب بِفَمٍ مَليءٍ بالذُباب وَبقايا الليلَة الفائِتة وتَلَقُّطَ اخبارِكِ عَرَضاً مِنْ فضائيّاتٍ كَسولَة، وَلَم يَكُن انضِمامي إليكِ عَن جَسارةٍ بِقدرٍ ما كانَ عَن طيشٍ مَشوبٍ بِرُعونَةٍ وَقِصَرِ نَظَرٍ أفخَرُ بِهِ الآن، ساعَة الاحتضار، وفي الصَباح يَحمَدُ القومُ السَرى، وعِندَ حَلب، ألثُمُ جَبينَ حُمُقِ المُجازَفَةِ الغَبيّة التي أوصَلتني – كَضيفِ اللَحظةِ الأخيرَةِ – عِندَ قَدَميكِ.

 

هَبي لي يا مَقدِسيّة الرِمشينِ سَكينَةَ مَلاكٍ مُسَلّحٍ بالغيظِ والثأرِ وَرِماح السَماء كيما تتوَقّف أصابِعي عَنْ الأرتِجافِ عِندَ آخرِ المَتاريسِ قَبلَ خُطوطِ إبليس، ارحَمي فيَّ طِفلاً غَرّاً ساذِجاً أخبروهُ أنَّ أُمّهُ تُذبحُ الآنَ في حَلَب، فَرَكَلَ دُماهُ وَسَرَقَ رَشاشَ أبيهِ واختفى ليظهَرَ عِند شاطِئِكِ كَهلاً مُتصابياً يَرتَجِلُ الشِعرَ في غَزَلِ المُدُنِ الصامِدة.

 

حَلبُ تُلغي كُلَّ مَفاهيمِ الشَجاعة، وَتفضَحُ اشنَعَ اشكالَ الوَضاعَة، حَلَبُ تتقَطّعُ أوصالُها ولا تَهينُ أو تَستَكين، تُكافِحُ خَمسَ وُحوشٍ وَخمسَ حَرائِقَ وَخمسَ تنانين، هيَ قَرّرتْ أنْ تَموتَ واقِفَةً، شامِخَةً، باسِقَةً، صائِمةً، ساجِدةً لِربّ العالَمين، فأن جَبنتُم عَن نَجدَتِها فاترُكوها تَموتُ عَزيزَةً، أو... اخْسَئُوا صامِتين.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2198 الجمعة 3/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم